وفي الخطوة الثالثة بين لهم فساد ما هم عليه من العقيدة من عدة وجوه : أولها أنهم يعبدون من دون الله أوثانا - والوثن : التمثال من الخشب - وهي عبادة سخيفة ، وبخاصة إذا كانوا يعدلون بها عن عبادة الله . . وثانيها : أنهم بهذه العبادة لا يستندون إلى برهان أودليل ، وإنما يخلقون إفكا وينشئون باطلا ، يخلقونه خلقا بلا سابقة أو مقدمة ، وينشئونه إنشاء من عند أنفسهم بلا أصل ولا قاعدة . . وثالثها : أن هذه الأوثان لا تقدم لهم نفعا ، ولا ترزقهم شيئا :
( إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا ) . .
وفي الخطوة الرابعة يوجههم إلى الله ليطلبوا منه الرزق . الأمر الذي يهمهم ويمس حاجتهم :
( فابتغوا عند الله الرزق ) . .
والرزق مشغلة النفوس ، وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان . و لكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس .
وفي النهاية يهتف بهم إلى واهب الأرزاق المتفضل بالنعم ، ليعبدوه ويشكروه :
وأخيرا يكشف لهم أنه لا مفر من الله ، فمن الخير أن يثوبوا إليه مؤمنين عابدين شاكرين :
ثم أخبرهم أن الأصنام التي يعبدونها والأوثان ، لا تضر ولا تنفع ، وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء ، سميتموها{[22519]} آلهة ، وإنما هي مخلوقة مثلكم . هكذا روى العوفي عن ابن عباس . وبه قال مجاهد ، والسدي .
وروى الوالبي{[22520]} ، عن ابن عباس : وتصنعون إفكا ، أي : تنحتونها أصناما . وبه قال مجاهد - في رواية - وعكرمة ، والحسن ، وقتادة وغيرهم ، واختاره ابن جرير ، رحمه الله .
وهي لا تملك لكم رزقا ، { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } وهذا أبلغ في الحصر ، كقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } [ التحريم : 11 ] ، ولهذا قال : { فَابْتَغُوا } أي : فاطلبوا { عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } أي : لا عند غيره ، فإن غيره لا يملك شيئا ، { وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } أي : كلوا من رزقه واعبدوه وحده{[22521]} ، واشكروا له على ما أنعم به عليكم ، { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : يوم القيامة ، فيجازي كل عامل بعمله .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنّ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل خليله إبراهيم لقومه : إنما تعبدون أيها القوم من دون الله أوثانا ، يعني مُثُلاً . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله إنّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أوْثانا أصناما .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وتَخْلُقُونَ إفْكا فقال بعضهم : معناه : وتصنعون كذبا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وتَخْلُقُونَ إفْكا يقول : تصنعون كذبا .
وقال آخرون : وتقولون كذبا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وتَخْلُقُونَ إفْكا يقول : وتقولون إفكا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وتَخْلُقُونَ إفْكا يقول : تقولون كذبا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وتنحِتون إفكا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس ، قوله وتَخْلُقونَ إفْكا قال : تنحِتون تصوّرون إفكا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وتَخْلُقُونَ إفْكا أي تصنعون أصناما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَتَخْلُقُونَ إفْكا الأوثان التي ينحِتونها بأيديهم .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : وتصنعون كذبا . وقد بيّنا معنى الخلق فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . فتأويل الكلام إذن : إنما تعبدون من دون الله أوثانا ، وتصنعون كذبا وباطلاً . وإنما في قوله إفْكا مردود على إنما ، كقول القائل : إنما تفعلون كذا ، وإنما تفعلون كذا .
وقرأ جميع قرّاء الأمصار : وتَخْلُقُونَ إفْكا بتخفيف الخاء من قوله : وتَخْلُقُونَ وضمّ اللام : من الخَلْق . وذُكر عن أبي عبد الرحمن السُلميّ أنه قرأ : وتُخَلّقونَ إفْكا بفتح الخاء وتشديد اللام من التخليق .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وقوله : إنّ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقا يقول جلّ ثناؤه : إن أوثانكم التي تعبدونها ، لا تقدر أن ترزقكم شيئا فابتغُوا عندَ اللّهِ الرّزْقَ يقول : فالتمسوا عند الله الرزق لا من عند أوثانكم ، تدركوا ما تبتغون من ذلك وَاعْبُدُوهُ يقول : وذلوا له وَاشْكُرُوا لَهُ على رزقه إياكم ، ونعمه التي أنعمها عليكم . يقال : شكرته وشكرتُ له ، ( والثانية ) أفصح من شكرته . وقوله : إلَيْهِ تُرْجَعُونَ يقول : إلى الله تُرَدّون من بعد مماتكم ، فيسألكم عما أنتم عليه من عبادتكم غيره وأنتم عباده وخلقه ، وفي نعمه تتقلّبون ، ورزقه تأكلون .
{ إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا } وتكذبون كذبا في تسميتها آلهة وادعاء شفاعتها عند الله تعالى ، أو تعملونها وتنحتونها للإفك وهو استدلال على شرارة ما هم عليه من حيث إنه زور وباطل ، وقرئ " تخلقون " من خلق للتكثير " وتخلقون " من تخلق للتكلف ، و{ إفكا } على أنه مصدر كالكذب أو نعت بمعنى خلقا ذا إفك . { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا } دليل ثان على شرارة ذلك من حيث إنه لا يجدي بطائل ، و{ رزقا } يحتمل المصدر بمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم وأن يراد المرزوق وتنكيره للتعميم . { فابتغوا عند الله الرزق } كله فإنه المالك له . { واعبدوه واشكروا له } متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين لما حفكم من النعم بشكره ، أو مستعدين للقائه بهما ، فإنه { إليه ترجعون } وقرئ بفتح التاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.