فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة . قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته ، من الذين وقع عليهم هذا الإثم ، بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين . وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة . وبذلك تبطل شهادة الأولين ، وتنفذ الشهادة الثانية .
ثم قال تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا } أي : فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين ، أنهما خانا أو غَلاَّ شيئًا من المال الموصى به إليهما ، وظهر عليهما بذلك { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } هذه قراءة الجمهور : " اسْتُحِقَّ عليهم الأوليان " . ورُوي عن علي ، وأُبيّ ، والحسن البصري أنهم قرؤوها : { اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } .
وقد روى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفَرْوِي ، عن سليمان بن بلال ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . {[10517]}
وقرأ بعضهم ، ومنهم ابن عباس : " من الذين استحق عليهم الأوَّلِين " . وقرأ الحسن : " من الذين استحق عليهم الأوَّلان " ، حكاه ابنُ جرير .
فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك : أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما ، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أوْلى من يرث ذلك المال { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } أي : لقولنا : إنهما خانا أحقُّ وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة { وَمَا اعْتَدَيْنَا } أي : فيما قلنا من الخيانة { إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : إن كنا قد كذبنا عليهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَىَ أَنّهُمَا اسْتَحَقّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنّا إِذاً لّمِنَ الظّالِمِينَ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : فإنْ عُثِرَ : فإن اطلع منهما ، أو ظهر . وأصل العثر : الوقوع على الشيء والسقوط عليه ، ومن ذلك قولهم : عثرت إصبع فلان بكذا : إذا صدمته وأصابته ، ووقعت عليه ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس :
بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْناةً إذَا عَثَرَتْ ***فالتّعْسُ أدْنى لهَا مِنْ أنْ أقولَ لَعا
يعني بقوله : «عثرت » : أصاب ميسم خفها حجر أو غيره ، ثم يستعمل ذلك في كلّ واقع على شيء كان عنه خفيا ، كقولهم : «عَثَرَتْ على الغزل بأَخَرَة ، فلم تَدَعْ بنَجْدٍ قَرَدَةً » ، بمعنى : وقعت .
وأما قوله : على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فإنه يقول تعالى ذكره : فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الاية بعد حلفهما بالله : لا نشتري بأيماننا ثمنا ، ولو كان ذا قُربى ، ولا نكتم شهادة الله على أنهما استحقا إثما ، يقول : على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثما ، وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خنّا ، ولا بدّلنا ، ولا غَيّرنا ، فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئا ، أو غَيّرا وصيته ، أو بدّلا ، فأثما بذلك من حلفهما بربهما فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما يقول : يقوم حينئذٍ مقامهما من ورثة الميت الأوليان الموصى إليهما .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : إذا كان الرجل بأرض الشرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب ، فإنهما يحلفان بعد العصر ، فإذا اطلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئا ، حَلَف أولياء الميت إنه كان كذا وكذا ، ثم استحقّوا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " من غير المسلمين تحبسونهما من بعد الصلاة ، فإن ارتِيبَ في شهادتهما ، استحلفا بعد الصلاة بالله : ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلاً فإن اطلع الأولياء على أن الكافِرَين كذبا في شهادتهما ، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله : إن شهادة الكافرين باطلة ، وإنا لم نَعْتَدِ فذلك قوله : " فإنْ عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما " يقول : إن اطلع على أن الكافرين كذبا ، " فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما " يقول : من الأولياء ، فحلفا بالله : إن شهادة الكافرين باطلة ، وإنّا لم نعتد . فتردّ شهادة الكافرين ، وتجوز شهادة الأولياء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فإنْ عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما " أي اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حكم الله تعالى ذكره على الشاهدين بالأيمان فنقلها إلى الاخرين بعد أن عُثِر عليهما أنهما استحقا إثما . فقال بعضهم : إنما ألزمهما اليمين إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى لغير الذي يجوز في حكم الإسلام ، وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله ، أو أوصى أن يفضّل بعض ولده ببعض ماله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ . . . إلى قوله : ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ من أهل الإسلام ، أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ من غير أهل الإسلام ، إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ . . . إلى : فَيُقْسِمانِ باللّهِ " يقول : فيحلفان بالله بعد الصلاة ، فإن حلفا على شيء يخالف ما أنزل الله تعالى من الفريضة ، يعني اللّذَينِ ليسا من أهل الإسلام ، فآخران يقومان مقامهما من أولياء الميت ، فيحلفان بالله : ما كان صاحبنا ليوصِيَ بهذا ، أو : إنهما لكاذبان ، ولشهادتنا أحقّ من شهادتهما .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما ، يحلفان بالله : لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قُربى ولا نكتم شهادة الله ، إنّا إذن لمن الاثمين إن صاحبكم لبهذا أوصى ، وإن هذه لتركته فإذا شهدا ، وأجاز الإمام شهادتهما على ما شهدا ، قال لأولياء الرجل : اذهبوا فاضربوا في الأرض واسألوا عنهما ، فإن أنتم وجدتم عليهما خيانة أو أحدا يطعن عليهما رددنا شهادتهما فينطلق الأولياء فيسألون ، فإن وجدوا أحدا يطعنُ عليهما أو هما غير مرضيين عندهم ، أو اطّلع على أنهما خانا شيئا من المال وجدوه عندهما ، فأقبل الأولياء فشهدوا عند الإمام وحلفوا بالله : لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليهما أحقّ من شهادتهما بما شهدا ، وما اعتدينا . فذلك قوله : " فإنْ عُثرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ " .
وقال آخرون : بل إنما ألزم الشاهدان اليمين ، لأنهما ادّعيا أنه أوصى لهما ببعض المال . وإنما ينقل إلى الاخرين من أجل ذلك إذا ارتابوا بدعواهما .
حدثنا عمران بن موسى القزّاز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر في قوله : " تحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ " قال : زعما أنه أوصى لهما بكذا وكذا ، " فإنْ عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما أي بدعواهما لأنفسهما ، فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ " أنّ صاحبنا لم يوص إليكما بشيء مما تقولان .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن الشاهدين ألزما اليمين في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله ، ودعواهم قبلها خيانة مال معلوم المبلغ ، ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما ، وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما ، فيحلف الوارث حينئذٍ مع شهادة الشاهد عليهما أو على أحدهما إنما صحح دعواه إذا حقق حقه ، أو الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادّعى عليهما الوارث أو بجميعه ، ثم دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلاّ ببينة ، ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بينة ، فينقل حينئذٍ اليمين إلى أولياء الميت .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة ، لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكما يجب فيه اليمين على الشهود ارتيب بشهادتهما أو لم يرتب بها ، فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرا لذلك . ولم نجد ذلك كذلك صحّ بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بإجماع من الأمة ، لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى ، فيكون أصلاً مسلما . والمقول إذا خرج من أن يكون أصلاً أو نظيرا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة ، كان واضحا فساده . وإذا فسد هذا القول بما ذكرناه ، فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادّعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله أفسد من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أن من حكم الله تعالى أن مدّعيا لو ادّعى في مال ميت وصية أن القول قول ورثة المدّعي في ماله الوصية مع أيمانهم ، دون قول مدّعي ذلك مع يمينه ، وذلك إذا لم يكن للمدّعي بينة . وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الاية على الشهود إذا ارتيب بهما ، وإنما نقل الإيمان عنهم إلى أولياء الميت ، إذا عُثِر على أن الشهود استحقوا إثما في أيمانهم فمعلوم بذلك فساد قول من قال : ألزم اليمين الشهود لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت في ماله ، على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به حين نزلت هذه الاية بين الذين نزلت فيهم وبسببهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن يحيى بن أبي زائدة ، عن محمد بن أبي القاسم ، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الدارّي وعديّ بن بداء ، فمات السهميّ بأرض ليس فيها مسلم ، فلما قدما بتركته ، فقدوا جاما من فضة مخوّصا بالذهب ، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم وُجد الجام بمكة ، فقالوا : اشتريناه من تميم الداريّ وعديّ بن بداء . فقام رجلان من أولياء السهميّ فحلفا : لشهادتنا أحقّ من شهادتهما ، وأن الجام لصاحبهم . قال : وفيهم أنزلت : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ " .
حدثنا الحسن بن أبي شعيب الحراني ، قال : حدثنا محمد بن سلمة الحراني ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن أبي النضر ، عن زاذان مولى أمّ هانئ ابنة أبي طالب ، عن ابن عباس ، عن تمم الدرايّ في هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحدَكُمُ المَوْتُ " قال : برئ الناس منها غيري وغير عديّ بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا الشام لتجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبني سهم ، يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ، ومعه جام فضة يريد بن الملك ، وهو عظم تجارته ، فمرض ، فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله . قال تميم : فلما مات ، أخذنا ذلك الجام ، فبعناه بألف درهم فقسمناه أنا وعديّ بن بداء ، ( فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا ، وفقدوا الجام فسألونا عنه ) فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما دفع إلينا غيره . قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ، وأدّيت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألهم البينة فلم يجدوا ، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه ، فحلف ، فأنزل الله تعالى : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . إلى قوله : أنْ تُرّدّ أيمَانٌ بَعْدَ أيمانِهِمْ " فقام عمرو بن العاص ، ورحل آخر منهم ، فحلفا ، فنزعت الخمسمائة من عديّ بن بداء .
حدثنا القاسم : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة وابن سيرين وغيره . قال : وثنا الحجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، دخل حديث بعضهم في بعض : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . " الاية ، قال : كان عديّ وتميم الداريّ وهما من لخم نصرانيان يتجران إلى مكة في الجاهلية . فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حوّلا متجرهما إلى المدينة ، فقدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة ، وهو يريد الشام تاجرا . فخرجوا جميعا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية ، فكتب وصيته بيده ثم دسّها في متاعه ، ثم أوصى إليهما . فلما مات ، فتحا متاعه ، فأخذا ما أرادا . ثم قدما على أهله فدفعا ما أرادا ، ففتح أهله متاعه ، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به ، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه ، فقالوا : هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا قال لهما أهله : فباع شيئا أو ابتاعه ؟ قالا : لا . قالوا : فهل استهلك من متاعه شيئا ؟ قالا : لا . قالوا : فهل تَجرَ تجارة ؟ قالا : لا . قالوا : فإنا قد فقدنا بعضه فاتهما ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحدَكُمُ المَوْتُ . . . إلى قوله : إنّا إذًا لَمِنَ الاثِمِينَ " قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر : بالله الذي لا إله إلاّ هو ، ما قبضنا له غير هذا ولا كتمنا ، قال : فمكثنا ما شاء الله أن نمكث ، ثم ظهر معهما على إناء من فضة منقوش مموّه بذهب ، فقال أهله : هذا من متاعه ، قالا : نعم ، ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا ، فكرهنا أن نكذّب أنفسنا فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الاية الأخرى : " فإن عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ " فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغَيّبا ويستحقانه . ثم إن تميما الداريّ أسلم وبايع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول : صدق الله ورسوله ، أنا أخذت الإناء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ . . . " الاية كلها ، قال : هذا شيء حين لم يكن الإسلام إلاّ بالمدينة ، وكانت الأرض كلها كفرا ، فقال الله تعالى : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْل مِنْكُمْ من المسلمين ، أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ من غير أهل الإسلام ، إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " قال : كان الرجل يخرج مسافرا والعرب أهل كفر ، فعسى أن يموت في سفره فيسند وصيته إلى رجلين منهم ، فيقسمان بالله إن ارتبتم في أمرهما إذا قال الورثة : كان مع صاحبنا كذا وكذا ، فيقسمان بالله : ما كان معه إلاّ هذا الذي قلنا . فإنْ عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما إنما حلفا على باطل وكذب . فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ بالميت فَيُقْسِمانِ باللّهِ لَشَهادَتَنَا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما وَما اعْتَدَيْنا إنّا إذا لَمِنَ الظّالِمِينَ ذكرنا أنه كان مع صاحبنا كذا وكذا ، قال هؤلاء : لم يكن معه . قال : ثم عثر على بعض المتاع عندهما ، فلما عثر على ذلك ردّت القَسَامة على وارثه ، فأقسما ، ثم ضمن هذان . قال الله تعالى : " ذَلِكَ أدْنَى أنْ يَأْتُوا بالشّهادَةِ على وَجْهِها أوْ يَخافُوا أنْ تُرَدّ أيمَانٌ فتبطل أيمانُهم ، وَاتّقُوا اللّهَ وَاسْمَعوا وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ " الكاذبين الذين يحلفون على الكذب . وقال ابن زيد : قدم تميم الداريّ وصاحب له ، وكانا يومئذٍ مشركين ولم يكونا أسلما ، فأخبرا أنهما أوصى إليهما رجل ، وجاءا بتركته ، فقال أولياء الميت : كان مع صاحبنا كذا وكذا ، وكان معه إبريق فضة وقال الاخران : لم يكن معه إلاّ الذي جئنا به . فحلفا خلف الصلاة . ثم عثر عليهما بعد والإبريق معهما فلما عثر عليهما ردّت القسامة على أولياء الميت بالذي قالوا مع صاحبهم ، ثم ضمنها الذي حلف ليه الأوليان .
حدثنا الربيع ، قال : حدثنا الشافعيّ ، قال : أخبرنا سعيد بن معاذ بن موسى الجعفريّ ، عن بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان ، قال بكر : قال مقاتل : أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك في قول الله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " أن رجلين نصرانيين من أهل دَارِين ، أحدهما تميمي والاخر يماني ، صاحبَهما مولى لقريش في تجارة ، فركبوا البحر ومع القرشيّ مال معلوم قد علمه أولياؤه من بين آنية وبز ورِقَة . فمرض القرشيّ ، فجعل وصيته إلى الداريّين ، فمات . وقبض الداريان المال والوصية ، فدفعاه إلى أولياء الميت ، وجاءا ببعض ماله . وأنكر القوم قلة المال ، فقالوا للداريّين : إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما اتيتمونا به ، فهل باع شيئا أو اشترى شيئا فوُضِعَ فيه ؟ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه ؟ قالا : لا . قالوا : فإنكما خنتمانا فقبضوا المال ورفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . " إلى آخر الاية . فلما نزل : أن يُحبسا من بعد الصلاة ، أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقاما بعد الصلاة ، فحلفا بالله ربّ السموات ما ترك مولاكم من المال إلاّ ما أتيناكم به ، وإنا لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلاً من الدنيا ولو كان ذا قُربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنّا إذن لمن الاثمين فلما حلفا خُلّي سبيلهما . ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناء من آنية الميت ، فأُخِذ الداريان فقالا : اشتريناه منه في حياته وكذبا ، فكُلّفا البينة فلم يقدرا عليها . فرفعوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : " فإن عُثِرَ " يقول : فإن اطّلع على أنهما استحقا إثما ، يعني الداريّين إن كَتَما حقّا ، فآخران من أولياء الميت يقومان مقامهما من الذين استحقّ عليهم الأوليان ، فيقسمان بالله إن مال صاحبنا كان كذا وكذا ، وإن الذي يُطْلَب قِبَل الداريّين لحقّ ، وما اعتدينا ، إنّا إذن لمن الظالمين . هذا قول الشاهدين أولياء الميت ، ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، يعني : الداريين والناس أن يعودوا لمثل ذلك .
قال أبو جعفر : ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا دليل واضح على صحة ما قلنا من أن حكم الله تعالى باليمين على الشاهدين في هذا الموضع ، إنما هو من أجل دعوى ورثته على المسنَد إليهما الوصية خيانة فيما دفع الميت من ماله إليهما ، أو غير ذلك مما لا يبرأ فيها المدّعي ذلك قبله إلاّ بيمين ، وإن نقل اليمين إلى ورثة الميت ، بما أوجبه الله تعالى بعد أن عثر على الشاهدين أنهما استحقّا إثما في أيمانهما ، ثم ظُهِر على كذبهما فيها ، إنّ القوم ادّعوا فيما صحّ أنه كان للميت دعوى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك ، مما يكون اليمين فيها على ورثة الميت دون المدّعَى ، وتكون البينة فيها على المدعي وفساد ما خالف في هذه الاية ما قلنا من التأويل . وفيها أيضا البيان الواضح على أن معنى الشهادة التي ذكرها الله تعالى في أوّل هذه القصة إنما هي اليمين ، كما قال الله تعالى في مواضع أخر : " والّذِينَ يَرْمونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يكُنْ لهُمْ شُهَدَاءُ إلاّ أنْفُسُهُمْ فشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ باللّهِ إنّهُ لمِنَ الصّادقينَ " ، فالشهادة في هذا الموضع معناها القسم من قول القائل : أشهد بالله إنه لمن الصادقين ، وكذلك معنى قوله : " شَهادَةُ بَيْنِكُمْ " إنما هو قَسَم بينكم ، " إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ " أن يقسم اثْنان ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ إن كانا ائتمنا على ما قال ، فارتيب بهما ، أو ائتمن آخران من غير المؤمنين فاتهما . وذلك أن الله تعالى لمّا ذكر نقل اليمين من اللذين ظهر على خيانتهما إلى الاخرين ، قال : فَيُقْسِمانِ باللّهِ لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما . ومعلوم أن أولياء الميت المدّعين قِبَل اللذين ظهر على خيانتهما ، غير جائز أن يكون شهداء بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حقّ مدّعى عليه لمدّع ، لأنه لا يعلم لله تعالى حكم قضى فيه لأحد بدعواه ، ويمينه على مدّعًى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدّعى عليه ولا برهان . فإذا كان معلوما أن قوله : لشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما إنما معناه : قسمنا أحقّ من قسمهما ، وكان قسم اللذين عثر على أنهما أثما هو الشهادة التي ذكر الله تعالى في قوله : " أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما " صح أن معنى قوله : " شَهادَةِ بَيْنِكُمْ " بمعنى الشهادة في قوله : " لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما " وأنها بمعنى القسم .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : " مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ " فقرأ ذلك قرّاء الحجاز والعراق والشام : «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ » بضم التاء . ورُوِي عن عليّ وأبي بن كعب والحسن البصري أنهم قرأوا ذلك : " مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ " بفتح التاء .
واختلفت أيضا في قراءة قوله : " الأوْلَيانِ " فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والشام والبصرة : الأوْلَيانِ ، وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة : «الأولين » . وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك : «مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأَوّلانِ » .
وأولى القراءتين بالصواب في قوله : «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِم » قراءة من قرأ بضمّ التاء ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، مع مساعدة عامّة أهل التأويل على صحة تأويله ، وذلك إجماع عامتهم على أن تأويله : فآخران من أهل الميت الذين استحقّ المؤتمنان على مال الميت الإثم فيهم ، يقومان مقام المستحقّ الإثم فيهما بخيانتهما ما خانا من مال الميت . وقد ذكرنا قائل ذلك أو أكثر قائليه فيما مضى قبل ، ونحن ذاكروا باقيهم إن شاء الله تعالى ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : " شَهادَةُ بَيْنِكُمْ " أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران لا يحضره غير اثنين منهم ، فإن رضي ورثته ما عاجل عليه من تركته فذاك ، وحلف الشاهدان إن اتهما لصادقان ، فإن عُثِر : وُجِد لطخ حلف الاثنان الأوليان من الورثة ، فاستحقا ، وأبطلا أيمان الشاهدين .
وأحسب أن الذين قرأوا ذلك بفتح التاء ، أرادوا أن يوجهوا تأويله إلى : فَآخران يقومان مقامهما مقام المؤتمنين اللذين عثر على خيانتهما في القسم والاستحقاق به عليهما دعواهما قبلهما من الذين استحقّ على المؤتمنين على المال على خيانتهما القيام مقامهما في القسم والاستحقاق في الأوليان بالميت . وكذلك كانت قراءة من رُوِيت هذه القراءة عنه ، فقرأ ذلك : " مِنَ الّذِينَ استَحَقّ " بفتح التاء على معنى : الأوليان بالميت وماله . وذلك مذهب صحيح وقراءة غير مدفوعة صحتها ، غير أنا نختار الأخرى لإجماع الحجة من القرّاء عليها مع موافقتها التأويل الذي ذكرنا عن الصحابة والتابعين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبد الرحمن وكريب عن عليّ ، أنه كان يقرأ : «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد ، عن وائل مولى أبي عبيد ، عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر ، عن أبيّ بن كعب ، أنه كان يقرأ : «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ » .
وأما أولى القراءات بالصواب في قوله : الأَوْلَيانِ عندي ، فقراءة من قرأ : الأوْلَيانِ بصحة معناها وذلك لأن معنى : فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق فيهم الإثم ، ثم حذف «الإثم » وأقيم مقامه «الأوليان » ، لأنهما هما اللذان ظلما وأثما فيهما بما كان من خيانة اللذين استحقا الإثم وعثر عليهما بالخيانة منهما فيما كان ائتمنهما عليه الميت ، كما قد بينا فيما مضى من فعل العرب مثل ذلك من حذفهم الفعل اجتزاء بالاسم ، وحذفهم الاسم اجتزاء بالفعل . ومن ذلك ما قد ذكرنا في تأويل هذه القصة ، وهو قوله : " شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ " ومعناه : أن يشهد اثنان ، وكما قال : فَيُقْسِمان باللّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي به ثَمَنا فقال «به » ، فعاد بالهاء على اسم «الله » وإنما المعنى : لا نشتري بقسمنا بالله ، فاجتزئ بالعود على اسم الله بالذكر ، والمراد به : لا نشتري بالقسم بالله استغناء بفهم السامع بمعناه عن ذكر اسم القسم . وكذلك اجتزئ بذكر الأوليين من ذكر الإثم الذي استحقه الخائنان لخيانتهما إياها ، إذ كان قد جرى ذكر ذلك بما أغنى السامع عند سماعه إياه عن إعادته ، وذلك قوله : " فإنْ عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما " . وأما الذين قرأوا ذلك «الأوّلين » فإنهم قصدوا في معناه إلى الترجمة به عن «الذين » ، فأخرجوا ذلك على وجه الجمع ، إذ كان «الذين » جمعا وخفضا ، إذ كان «الذين » مخفوضا . وذلك وجه من التأويل ، غير أنه إنما يقال للشيء أوّل إذا كان له آخر هو له أوّل ، وليس للذين استحقّ عليهم الإثم آخرهم له أوّل ، بل كانت أيمان الذين عثر على أنهما استحقا إثما قبل إيمانهم ، فهم إلى أن يكونوا إذ كانت أيمانهم آخرا أولى أن يكونوا آخرين من أن يكونوا أوّلين وأيمانهم آخرة لأولى قبلها . وأما القراءة التي حكيت عن الحسن ، فقراءة عن قراءة الحجة من القرّاء شاذّة ، وكفى بشذوذها عن قراءتهم دليلاً على بعدها من الصواب .
واختلف أهل العربية في الرافع لقوله : الأوْلَيانِ إذا قرئ كذلك ، فقال بعض نحويي البصرة : يزعم أنه رفع ذلك بدلاً من «آخران » في قوله : " فآخَرَانِ يَقومانِ مَقامَهُما " وقال : إنما جاز أن يبدل الأوليان وهو معرفة من آخران وهو نكرة ، لأنه حين قال : " يَقُومانِ مَقامهمَا مِنَ الّذِينَ اسْتحقّ عَلَيْهِم " كان كأنه قد حدّهما حتى صارا كالمعرفة في المعنى ، فقال : «الأوْلَيانِ » ، فأجرى المعرفة عليهما بدلاً . قال : ومثل هذا مما يجري على المعنى كثير . واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الراجز :
عَلَيّ يوْمَ يمْلِكُ الأمُورَا ***صَوْمَ شُهورٍ وَجَبتْ نُذورَا
***وبَادِنا مُقَلّدا مَنْحورَا ***
قال : فجعله «عليّ واجب » ، لأنه في المعنى قد أوجب .
وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك ويقول : لا يجوز أن يكون «الأوليان » بدلاً من «آخران » من أجل أنه قد نَسَق «فيقسمان » على «يقومان » في قوله : " فَآخَرَانِ يَقُومانِ " فلم يتمّ الخبر عند من قال : لا يجوز الإبدال قبل إتمام الخبر ، كما قال : غير جائز «مررت برجل قام زيد وقعد » وزيد بدل من رجل .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : «الأوليان » مرفوعان بما لم يسمّ فاعله ، وهو قوله : «اسْتُحِقّ عَلَيْهِم » وأنهما موضع الخبر عنهما ، فعمل فيهما ما كان عاملاً في الخبر عنهما وذلك أن معنى الكلام : فآخران يقومان مقامهما من الذين استحقّ عليهم الإثم بالخيانة ، فوضع «الأوليان » موضع «الإثم » كما قال تعالى في موضع آخر : " أجَعَلْتُمْ سقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَام كمَنْ آمَنَ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ " ومعناه : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الاخر ؟ وكما قال : " وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ " ، وكما قال بعض الهذليين :
يُمَشّي بَيْنَنا حانُوتُ خَمْرٍ ***مِنَ الخُرْسِ الصّرَاصِرَةِ القِطاطِ
وهو يعني صاحب حانوت خمر ، فأقام الحانوت مقامه لأنه معلوم أن الحانوت لا يمشي ، ولكن لما كان معلوما عنده أنه لا يخفى على سامعه ما قصد إليه من معناه حذف الصاحب ، واجتزأ بذكر الحانوت منه ، فكذلك قوله : «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ » إنما هو من الذين استحقّ فيهم خيانتهما ، فحذفت «الخيانة » وأقيم «المختانان » مقامها ، فعمل فيهما ما كان يعمل في المحذوف ولو ظهر . وأما قوله : «عليهم » في هذا الموضع ، فإن معناها : فيهم ، كما قال تعالى : " وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمانَ " يعني : في ملك سليمان ، وكما قال : " ولأُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ " ف «في » توضع موضع «على » ، و «على » في موضع «في » كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام ، ومنه قول الشاعر :
مَتَى ما تُنْكِرُوها تَعْرِفُوها ***على أقْطارِها عَلَقٌ نَفِيثُ
وقد تأوّلت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى : «فإنْ عُثَر على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ » أنهما رجلان آخران من المسلمين ، أو رجلان أعدل من المُقسِمَين الأوّلين .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن عامر ، عن شريح في هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّة اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ، ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ، فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا ، فشهادتهم جائزة . فإن جاء رجلان مسلمان ، فشهدا بخلاف شهادتهم ، أجيزت شهادة المسلمين وأبطلت شهادة الاخرين .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فإنْ عُثِرَ أي اطلع منهما على خيانة على أنهما كذبا أو كتما ، فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلاف ما قالا ، أجيزت شهادة الاخرين وأبطلت شهادة الأوّلين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، قال : كان ابن عباس يقرأ : «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأوّلَيْنِ » قال : كيف يكون «الأَوْلَيان » ، أرأيت لو كان الأوليان صغيرين ؟
حدثنا هناد وابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : كان يقرأ : «مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأوّلَيْنِ » قال : وقال : أرأيت لو كان الأوليان صغيرين ، كيف يقومان مقامهما ؟
قال الإمام أبو جعفر : فذهب ابن عباس فيما أرى إلى نحو القول الذي حكيت عن شريح وقتادة ، من أن ذلك رجلان آخران من المسلمين يقومان مقام النصرانِييّن ، أو عَدْلان من المسلمين هما أعدل وأجوز شهادة من الشاهدين الأوّلين أو المُقسِمَين . وفي إجماع جميع أهل العلم على أن لا حكم لله تعالى يجب فيه على شاهد يمين فيما قام به من الشهادة ، دليل واضح على أن غير هذا التأويل الذي قاله الحسن ومن قال بقوله في قول الله تعالى : " فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما " أولى به .
وأما قوله " الأوْلَيانِ " فإن معناه عندنا : الأولى بالميت من المقسمين الأوّلين فالأولى ، وقد يحتمل أن يكون معناه : الأولى باليمين منهما فالأولى ، ثم حذف «منهما » والعرب تفعل ذلك فتقول : فلان أفضل ، وهي تريد أفضل منك ، وذلك إذا وضع أفعل موضع الخبر . وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه الألف واللام ، فعلوا ذلك أيضا إذا كان جوابا لكلام قد مضى ، فقالوا : هذا الأفضل ، وهذا الأشرف يريدون هو الأشرف منك . وقال ابن زيد : معنى ذلك : الأوليان بالميت .
حدثني يونس ، عن ابن وهب ، عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : " فَيُقْسِمانِ باللّهِ لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادتِهِم وَما اعْتَدَيْنا إنّا إذَنْ لَمِنَ الظّالِمِينَ " .
يقول تعالى ذكره : فيُقسم الاخران اللذان يقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثما بخيانتهما مال الميت الأوليان باليمين والميت من الخائنين : " لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما " يقول : لأيماننا أحقّ من أيمان المقسمين المستحقين الإثم وأيمانهما الكاذبة في أنهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميتنا ، وكذا في أيمانهما التي حلفا بها . وَما اعْتَدَيْنا يقول : وما تجاوزنا الحقّ في أيماننا . وقد بينا أن معنى الاعتداء : المجاوزة في الشيء حدّه . " إنّا إذَنْ لَمِنَ الظّالِمِينَ " يقول : إنا إن كنا اعتدينا في أيماننا ، فحلفنا مبطلين فيها كاذبين ، " لمِنَ الظّالِمِينَ " يقول : لَمِنْ عِدَادِ مَنْ يأخذ ما ليس له أخذه ، ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن عثر على أنهما استحقا إثما}: فإن اطلع على أنهما، يعني النصرانيين كتما شيئا من المال أو خانا، {فآخران} من أولياء الميت، يعني عبد الله بن عمرو بن العاص، والمطلب بن أبي وداعة السهميان، {يقومان مقامهما}، يعني مقام النصرانيين، {من الذين استحق} الإثم، {عليهم الأوليان فيقسمان بالله}: فيحلفان بالله في دبر صلاة العصر أن الذي في وصية صاحبنا حق، وأن المال كان أكثر مما أتيتمانا به، وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه، وكتبه في وصيته، وأنكما خنتما، فذلك قوله سبحانه: {لشهادتنا}، يعني عبد الله بن عمرو بن العاص، والمطلب، {أحق من شهادتهما}، يعني النصرانيين، {وما اعتدينا} بشهادة المسلمين من أولياء الميت، {إنا إذا لمن الظالمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فإنْ عُثِرَ": فإن اطلع منهما، أو ظهر. وأصل العثر: الوقوع على الشيء والسقوط عليه، ومن ذلك قولهم: عثرت إصبع فلان بكذا: إذا صدمته وأصابته، ووقعت عليه، ثم يستعمل ذلك في كلّ واقع على شيء كان عنه خفيا...
"على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما": فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنا، ولو كان ذا قُربى، ولا نكتم شهادة الله "على أنهما استحقا إثما"، يقول: على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثما، وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خنّا، ولا بدّلنا، ولا غَيّرنا، فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئا، أو غَيّرا وصيته، أو بدّلا، فأثما بذلك من حلفهما بربهما "فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما": يقوم حينئذٍ مقامهما من ورثة الميت الأوليان الموصى إليهما.
عن ابن عباس، في قوله: "أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ "من غير المسلمين تحبسونهما من بعد الصلاة، فإن ارتِيبَ في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلاً فإن اطلع الأولياء على أن الكافِرَين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله: إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نَعْتَدِ فذلك قوله: "فإنْ عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما "يقول: إن اطلع على أن الكافرين كذبا، "فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما" يقول: من الأولياء، فحلفا بالله: إن شهادة الكافرين باطلة، وإنّا لم نعتد. فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء...
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حكم الله تعالى ذكره على الشاهدين بالأيمان فنقلها إلى الآخرين بعد أن عُثِر عليهما أنهما استحقا إثما؛ فقال بعضهم: إنما ألزمهما اليمين إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى لغير الذي يجوز في حكم الإسلام، وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله، أو أوصى أن يفضّل بعض ولده ببعض ماله.
وقال آخرون: بل إنما ألزم الشاهدان اليمين، لأنهما ادّعيا أنه أوصى لهما ببعض المال. وإنما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك إذا ارتابوا بدعواهما.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الشاهدين ألزما اليمين في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله، ودعواهم قبلها خيانة مال معلوم المبلغ، ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما، وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما، فيحلف الوارث حينئذٍ مع شهادة الشاهد عليهما أو على أحدهما إنما صحح دعواه إذا حقق حقه، أو الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادّعى عليهما الوارث أو بجميعه، ثم دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلاّ ببينة، ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بينة، فينقل حينئذٍ اليمين إلى أولياء الميت.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة، لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكما يجب فيه اليمين على الشهود ارتيب بشهادتهما أو لم يرتب بها، فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرا لذلك. ولم نجد ذلك كذلك صحّ بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بإجماع من الأمة، لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى، فيكون أصلاً مسلما. والمقول إذا خرج من أن يكون أصلاً أو نظيرا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة، كان واضحا فساده. وإذا فسد هذا القول بما ذكرناه، فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادّعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله أفسد من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أن من حكم الله تعالى أن مدّعيا لو ادّعى في مال ميت وصية أن القول قول ورثة المدّعي في ماله الوصية مع أيمانهم، دون قول مدّعي ذلك مع يمينه، وذلك إذا لم يكن للمدّعي بينة. وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الآية على الشهود إذا ارتيب بهما، وإنما نقل الإيمان عنهم إلى أولياء الميت، إذا عُثِر على أن الشهود استحقوا إثما في أيمانهم فمعلوم بذلك فساد قول من قال: ألزم اليمين الشهود لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت في ماله، على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به حين نزلت هذه الآية بين الذين نزلت فيهم وبسببهم... ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا دليل واضح على صحة ما قلنا من أن حكم الله تعالى باليمين على الشاهدين في هذا الموضع، إنما هو من أجل دعوى ورثته على المسنَد إليهما الوصية خيانة فيما دفع الميت من ماله إليهما، أو غير ذلك مما لا يبرأ فيها المدّعي ذلك قبله إلاّ بيمين، وإن نقل اليمين إلى ورثة الميت، بما أوجبه الله تعالى بعد أن عثر على الشاهدين أنهما استحقّا إثما في أيمانهما، ثم ظُهِر على كذبهما فيها، إنّ القوم ادّعوا فيما صحّ أنه كان للميت دعوى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك، مما يكون اليمين فيها على ورثة الميت دون المدّعَى، وتكون البينة فيها على المدعي وفساد ما خالف في هذه الآية ما قلنا من التأويل. وفيها أيضا البيان الواضح على أن معنى الشهادة التي ذكرها الله تعالى في أوّل هذه القصة إنما هي اليمين، كما قال الله تعالى في مواضع أخر: "والّذِينَ يَرْمونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يكُنْ لهُمْ شُهَدَاءُ إلاّ أنْفُسُهُمْ فشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ باللّهِ إنّهُ لمِنَ الصّادقينَ"، فالشهادة في هذا الموضع معناها القسم من قول القائل: أشهد بالله إنه لمن الصادقين، وكذلك معنى قوله:"شَهادَةُ بَيْنِكُمْ "إنما هو قَسَم بينكم،" إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ "أن يقسم اثْنان ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ إن كانا ائتمنا على ما قال، فارتيب بهما، أو ائتمن آخران من غير المؤمنين فاتهما. وذلك أن الله تعالى لمّا ذكر نقل اليمين من اللذين ظهر على خيانتهما إلى الاخرين، قال: "فَيُقْسِمانِ باللّهِ لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما". ومعلوم أن أولياء الميت المدّعين قِبَل اللذين ظهر على خيانتهما، غير جائز أن يكون شهداء بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حقّ مدّعى عليه لمدّع، لأنه لا يعلم لله تعالى حكم قضى فيه لأحد بدعواه، ويمينه على مدّعًى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدّعى عليه ولا برهان. فإذا كان معلوما أن قوله: "لشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما" إنما معناه: قسمنا أحقّ من قسمهما، وكان قسم اللذين عثر على أنهما أثما هو الشهادة التي ذكر الله تعالى في قوله:"أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما "صح أن معنى قوله:"شَهادَةِ بَيْنِكُمْ "بمعنى الشهادة في قوله:"لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما "وأنها بمعنى القسم...
وقد تأوّلت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى: «فإنْ عُثَر على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ» أنهما رجلان آخران من المسلمين، أو رجلان أعدل من المُقسِمَين الأوّلين...
وأما قوله" الأوْلَيانِ "فإن معناه عندنا: الأولى بالميت من المقسمين الأوّلين فالأولى، وقد يحتمل أن يكون معناه: الأولى باليمين منهما فالأولى، ثم حذف «منهما» والعرب تفعل ذلك فتقول: فلان أفضل، وهي تريد أفضل منك، وذلك إذا وضع أفعل موضع الخبر، وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه الألف واللام، فعلوا ذلك أيضا إذا كان جوابا لكلام قد مضى، فقالوا: هذا الأفضل، وهذا الأشرف يريدون هو الأشرف منك. وقال ابن زيد: معنى ذلك: الأوليان بالميت.
" فَيُقْسِمانِ باللّهِ لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادتِهِم وَما اعْتَدَيْنا إنّا إذَنْ لَمِنَ الظّالِمِينَ": فيُقسم الاخران اللذان يقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثما بخيانتهما مال الميت الأوليان باليمين والميت من الخائنين:"لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما ": لأيماننا أحقّ من أيمان المقسمين المستحقين الإثم وأيمانهما الكاذبة في أنهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميتنا، وكذا في أيمانهما التي حلفا بها. "وَما اعْتَدَيْنا": وما تجاوزنا الحقّ في أيماننا. وقد بينا أن معنى الاعتداء: المجاوزة في الشيء حدّه. "إنّا إذَن لَمِنَ الظّالِمِينَ" يقول: إنا إن كنا اعتدينا في أيماننا، فحلفنا مبطلين فيها كاذبين، "لمِنَ الظّالِمِينَ ": لَمِنْ عِدَادِ مَن يأخذ ما ليس له أخذه، ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) يريد، والله أعلم، أن يشهد عليهما شاهدان منا أو منهم بشيء جحداه أنه من تركة الميت، فهذا استحقاق الورثة. فإذا قال المدعي قبلهما: اشتريناه من الميت فعلى الورثة أن يحلفوا. فهذا، والله أعلم، معنى: (فآخران يقومان مقامهما) لأن الورثة صاروا مدعى عليهم، فقاموا في هذه الحال في وجوب اليمين عليهم مقام الأولين لما كانت الدعوى عليهم. فهذا، والله أعلم، أقرب الوجوه في تأويل الآية وأشبهها؛ ...
يعني ظهور شيء من مال الميت في أيديهما بعد ذلك، وهو جَامُ الفضة الذي ظهر في أيديهما من مال الميت، فزعما أنهما كانا اشترياه من مال الميت. ثم قال تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُما} يعني في اليمين، لأنهما صارا في هذه الحال مدعيين للشِّرَى، فصارت اليمين على الورثة، وعلى أنه لم يكن للميت إلاّ وارثان فكانا مُدَّعًى عليهما، فلذلك استُحْلِفا، ألا ترى أنه قال: {مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأُولَيَانِ فَيُقْسِمَانِ باللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يعني أن هذه اليمين أوْلى من اليمين التي حلف بها الوصيان أنهما ما خانا ولا بدّلا، لأن الوصيين صارا في هذه الحال مُدَّعِيَيْنِ وصار الوارثان مدَّعًى عليهما، وقد كانا برئا في الظاهر بدياً بيمينهما فمضت شهادتهما على الوصية، فلما ظهر في أيديهما شيءٌ من مال الميت صارت أيمان الوارثين أوْلى. وقد اختُلف في تأويل قوله تعالى: {الأُولَيَانِ}، فرُوي عن سعيد بن جبير قال: معنى الأولَيَانِ بالميت يعني الورثة، وقيل: الأوْليان بالشهادة وهي الأيمان في هذا الموضع؛ وليس في الآية دلالة على إيجاب اليمين على الشاهدين فيما شهدا به، وإنما أوجبت اليمين عليهما لما ادّعَى الورثة عليهما الخيانة وأخْذَ شيء من تركة الميت، فصار بعض ما ذكر في هذه الآيات من الشهادات أيماناً...
وقوله بعد ذلك: {فَيُقْسِمَانِ باللّهِ} لا يحتمل غير اليمين، ثم قال: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأُولَيَانِ فَيُقْسِمَانِ باللهِ لَشَهَادَتُنَا} يعني بها اليمين؛ لأن هذه أيمان الوارثين، وقوله: {أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يحتمل من يمينهما ويحتمل من شهادتهما، لأن الوصيين قد كان منهما شهادة ويمين، وصارت يمين الوارث أحقَّ من شهادة الوصيين ويمينها، لأن شهادتهما لأنفسهما غير جائزة ويميناهما لم توجب تصحيح دعواهما في شراء ما ادّعيا شراه من الميت...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} يعني فإن ظهر على أنهما كَذَبَا وخَانَا، فعبر عن الكذب بالخيانة والإِثم لحدوثه عنهما. وفي الذين: {عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} قولان: أحدهما: أنهما الشاهدان، قاله ابن عباس. والثاني: أنهما الوصيان، قاله سعيد بن جبير. {فَآخَرَان} يعني من الورثة. {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} في اليمين، حين ظهرت الخيانة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَإِنْ عُثِرَ} فإن اطلع {على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً} أي فعلا مّا أوجب إثماً، واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين {فَآخَرَانِ} فشاهدان آخران {يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ} أي من الذين استحق عليهم الإثم. معناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرتهم...
{الأوليان} الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما... ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحقّ بها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والذي يظهر هنا أن الإثم عل بابه، وهو الحكم اللاحق لهما والنسبة التي يتحصلان فيها بعد مواقعتها لتحريف الشهادة أو لأخذ ما ليس لهما أو نحو ذلك، و {استحقا} معناه استوجباه من الله وكانا أهلاً له فهذا استحقاق على بابه، أنه استيجاب حقيقة، ولو كان الإثم الشيء المأخوذ لم يقل فيه «استحقا» لأنهما ظلما وخانا فيه، فإنما استحقا منزلة السوء وحكم العصيان، وذلك هو الإثم، وقوله تعالى: {فآخران} أي فإذا عثر على فسادهما فالأوليان باليمين وإقامة القضية آخران من القوم الذين هم ولاة الميت واستحق عليهم حظهم أو ظهورهم أو مالهم أو ما شئت من هذه التقديرات...
وسمي المأخوذ إثماً كما يقال لما يؤخذ من المظلوم مظلمة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فإن} ولما كان المراد مجرد الاطلاع بني للمفعول قوله: {عثر} أي اطلع مطلع بقصد أو بغير قصد؛ قال البغوي: وأصله الوقوع على الشيء أي من عثرة الرجل {على أنهما} أي الشاهدين إن أريد بهما الحقيقة أو الوصيين {استحقا إثماً} أي بسبب شيء خانا فيه من أمر الشهادة {فآخران} أي من الرجال الأقرباء للميت {يقومان مقامهما} أي ليفعلا حيث اشتدت الريبة من الإقسام عند مطلق الريبة ما فعلا {من الذين استحق} أي طلب وقوع الحق بشهادة من شهد {عليهم} هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة حفص بالبناء للفاعل، المعنى: وجد وقوع الحق عليهم، وهم أهل الميت وعشيرته.
ولما كان كأنه قيل: ما منزلة هذين الآخرين من الميت؟ فقيل: {الأوليان} أي الأحقان بالشهادة الأقربان إليه العارفان بتواطن أمره، وعلى قراءة أبي بكر وحمزة بالجمع، كأنه قيل: هما من الأولين أي في الذكر وهم أهل الميت، فهو نعت للذين استحق {فيقسمان} أي هذان الآخران {بالله} أي الملك الذي لا يقسم إلا به لما له من كمال العلم وشمول القدرة {لشهادتنا} أي بما يخالف شهادة الحاضرين للواقعة {أحق من شهادتهما} أي أثبت، فإن تلك إنما ثباتها في الظاهر، وشهادتنا ثابتة في نفس الأمر وساعدها الظاهر بما عثر عليه من الريبة {وما اعتدينا} أي تعمدنا في يميننا مجاوزة الحق {إنا إذاً} أي إذا وقع منا اعتداء {لمن الظالمين} أي الواضعين الشيء في غير موضعه كمن يمشي في الظلام، وهذا إشارة إلى أنهم على بصيرة ونور مما شهدوا به، وذلك أنه لما وجد الإناء الذي فقده أهل الميت وحلف الداريان بسببه أنهما ما خانا طالبوهما، فقالا: كنا اشتريناه منه، فقالوا: ألم نقل لكما: هل باع صاحبنا شيئاً؟ فقلتما: لا، فقالا: لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر فقام اثنان من أقارب الميت فحلفا على الإناء، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إليهما، لأن الوصيين ادعيا على الميت البيع فصار اليمين في جانب الورثة لأنهم أنكروا، وسمي أيمان الفريقين شهادة كما سميت أيمان المتلاعنين شهادة -نبه على ذلك الشافعي، وكان ذلك لما في البابين من مزيد التأكيد.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان} قرأ الجمهور «استحق» بضم التاء على البناء للمفعول، وحفص عن عاصم بفتح التاء بالبناء للفاعل وهي مروية عن علي وابن عباس وأبي، وقرأ يعقوب وخلف وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر عنه (الأولين) جمع الأول الذي يقابله آخر، مع قراءتهم استحق بالبناء للمفعول، وقرأه الباقون (الأوليان) مثنى الأولى سواء منهم من قرأ استحق بالبناء للمفعول ومن قرأه بالبناء للفاعل، ورسم الأوليان والأولين في المصحف الإمام واحد وهو هكذا (الأولين). والمعنى فإن اتفق الاطلاع على أن الشهيدين المقسمين استحقا إثما بالكذب أو الكتمان في الشهادة أو بالخيانة وكتمان شيء من التركة في حالة ائتمانهما عليها – كما ظهر في الواقعة التي كانت سبب النزول – فالواجب أو فالذي يعمل لإحقاق الحق هو أن يرد اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران مقامهما من أولياء الميت الوارثين له الذين استحق ذلك الإثم بالإجرام عليهم والخيانة لهم، وهذان الرجلان الوارثان ينبغي أن يكونا هما الأوليين بالميت أي الأقربين إليه الأحقين بإرثه إن لم يمنع من ذلك مانع – كما تفيده قراءة الجمهور – أو غيرهما منهم كما تفيده قراءة من قرأ (الأولين) وهو صفة للذين استحق عليهم أو منصوب على الاختصاص.
وتحمل القراءة الأولى على طلب الأكمل وهو أن يشهد أقرب الورثة إلى الميت. والقراءة الثانية على ما إذا منع مانع من إقسام أقرب الورثة أو كانت المصلحة في حلف غيره منهم لامتيازه بالسن أو الفضيلة، هذا إذا أريد بالأوليين الأوليان بأمر الميت الموصي، ويجوز أن يراد بهما الأوليان بالقسم في هذه الحالة، أي أجدر الورثة باليمين لقربهما من الميت أو لعلمهما أو لفضلهما. وأما قراءة حفص عن عاصم – وبها يقرأ أهل بلادنا – فقال أكثر المفسرين في توجيهها أن «الأوليان» فيها فاعل استحق والمفعول محذوف والتقدير: من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان بأمر الميت منهم ما أوصى به أو ما تركه – أو ندبهما للشهادة.
وذهب الإمام الرازي إلى أن الأوليين في هذه القراءة هما الوصيان قال: ووجهه أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما – بسبب أن الميت عينهما للوصاية ولما خانا في مال الورثة صح أن يقال إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان، وقرأ الحسن الأولان ووجهه ظاهر مما تقدم اهـ.
أقول: الوجه عندي في ذلك أنهما الأوليان باليمين في الأصل لأنهما منكران واليمين على من أنكر، وكان المقام مقام الإضمار – بأن يقال: من الذين استحقا عليهم الإثم – فوضع المظهر وهو الأوليان موضع الضمير لإفادة أن الأصل في الشرع أن تكون اليمين عليهما ولكن استحقاقهما الإثم بما ظهر من حنثهما اقتضى ردها أي اليمين إلى الورثة {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا} أي يحلفان على أن ما يشهدان به من خيانة الشهيدين اللذين شهدا على وصية ميتهما أحق وأصدق من شهادتهما بما كانا شهدا به، وأنهما ما اعتديا عليهما بتهمة باطلة أو ما اعتديا الحق فيما اتهموهما به {إنا إذا لمن الظالمين} أي ويقولان في قسمهما إنا إذا اعتدينا الحق وقلنا الباطل لداخلون في عداد الظالمين لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وانتقامه، والظالمين لمن ائتمنه ميتهم، وظلمهما محرم عليهم.