سورة التغابن مدنية وآياتها ثماني عشرة
هذه السورة أشبه شيء بالسور المكية في موضوعها وفي سياقها وفي ظلالها وإيحاءاتها ، وبخاصة المقاطع الأولى منها . فلا يكاد الجو المدني يتبين إلا في فقراتها الأخيرة .
والفقرات الأولى إلى ابتداء النداء : يا أيها الذين آمنوا . . تستهدف بناء أسس العقيدة ، وإنشاء التصور الإسلامي في القلوب بأسلوب السور المكية التي تواجه الكفار المشركين ابتداء ، وتخاطبهم بهذا التصور خطاب المبتدئ في مواجهته . ثم هي تستخدم المؤثرات الكونية والنفسية كما تستعرض مصائر الغابرين من المكذبين قبلهم ؛ وتعرض عليهم مشاهد القيامة لإثبات البعث ، وتوكيده توكيدا شديدا ، يدل على أن المخاطبين به من المنكرين الجاحدين .
فأما الفقرات الأخيرة فهي تخاطب الذين آمنوا بما يشبه خطابهم في السور المدنية ، لحثهم على الإنفاق ، وتحذرهم فتنة الأموال والأولاد . وهي الدعوة التي تكررت نظائرها في العهد المدني بسبب مقتضيات الحياة الإسلامية الناشئة فيها . كما أن فيها ما قد يكون تعزية عن مصاب أو تكاليف وقعت على عاتق المؤمنين ، ورد الأمر فيها إلى قدر الله ، وتثبيت هذا التصور . . وهو ما يتكرر في السور المدنية وبخاصة بعد الأمر بالجهاد وما ينشأ عنه من تضحيات .
ولقد وردت روايات أن السورة مكية ، ووردت روايات أخرى أنها مدنية مع ترجيحها . وكدت أميل إلى اعتبارها مكية تأثرا بأسلوب الفقرات الأولى فيها وجوها . ولكني أبقيت اعتبارها مدنية - مع الرأي الراجح فيها - لأنه ليس ما يمنع أن تكون الفقرات الأولى فيها خطابا للكفار بعد الهجرة سواء كانوا كفار مكة أم الكفار القريبين من المدينة . كما أنه ليس ما يمنع أن يستهدف القرآن المدني في بعض الأحيان جلاء أسس العقيدة ، وإيضاح التصور الإسلامي ، بهذا الأسلوب الغالب على أسلوب القرآن المكي . . والله أعلم . .
والمقطع الأول في السورة يستهدف بناء التصور الإيماني الكوني ، وعرض حقيقة الصلة بين الخالق - سبحانه - وهذا الكون الذي خلقه . وتقرير حقيقة بعض صفات الله وأسمائه الحسنى وأثرها في الكون وفي الحياة الإنسانية :
( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير . خلق السماوات والأرض بالحق ، وصوركم فأحسن صوركم ، وإليه المصير . يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون . والله عليم بذات الصدور ) . .
وهذا التصور الكوني الإيماني هو أدق وأوسع تصور عرفه المؤمنون في تاريخ العقيدة . ولقد جاءت الرسالاتالإلهية كلها بوحدانية الله ، وإنشائه لهذا الوجود ولكل مخلوق ، ورعايته لكل كائن في الوجود . . لا نشك في هذا لأن القرآن يحكيه عن الرسل وعن الرسالات كلها . ولا عبرة بما نجده في الكتب المفتراة والمحرفة ؛ أو فيما يكتبه عن الديانات المقارنة أناس لا يؤمنون بالقرآن كله أو بعضه . إنما جاء الانحراف عن العقيدة الإيمانية من أتباعها ، فبدا أنها لم تأت بالتوحيد الخالص ، أو لم تأت بهيمنة الله واتصاله بكل كائن . فهذا من التحريف الطارئ لا من أصل الديانة . فدين الله واحد منذ أولى الرسالات إلى خاتمة الرسالات . ويستحيل أن ينزل الله دينا يخالف هذه القواعد ، كما يزعم الزاعمون بناء على ما يجدونه في كتب مفتراة أو محرفة باسم الدين !
ولكن تقرير هذه الحقيقة لا ينافي أن التصور الإسلامي عن الذات الإلهية ، وصفاتها العلوية ، وآثار هذه الصفات في الكون وفي الحياة الإنسانية . . أن هذا التصور أوسع وأدق وأكمل من كل تصور سابق في الديانات الإلهية . . وهذا متفق مع طبيعة الرسالة ومهمتها الأخيرة . ومع الرشد البشري الذي جاءت هذه الرسالة لتخاطبه وتوجهه ؛ وتنشئ فيه هذا التصور الشامل الكامل بكل مقتضياته وفروعه وآثاره .
ومن شأن هذا التصور أن يدرك القلب البشري - بمقدار ما يطيق - حقيقة الألوهية وعظمتها ، ويشعر بالقدرة الإلهية ويراها في آثارها المشهودة في الكون ، ويحسها في ذوات الأنفس بآثارها المشهودة والمدركة ؛ ويعيش في مجال هذه القدرة وبين آثارها التي لا تغيب عن الحس والعقل والإلهام . ويراها محيطة بكل شيء ، مهيمنة على كل شيء ، مدبرة لكل شيء ، حافظة لكل شيء ، لا يند عنها شيء . سواء في ذلك الكبير والصغير والجليل والحقير .
ومن شأنه كذلك أن يعيش القلب البشري في حساسية مرهفة ، وتوفز دائم ، وخشية وارتقاب ، وطمع ورجاء ؛ وأن يمضي في الحياة معلقا في كل حركة وكل خالجة بالله ، شاعرا بقدرته وهيمنته ، شاعرا بعلمه ورقابته ، شاعرا بقهره وجبروته ، شاعرا برحمته وفضله ، شاعرا بقربه منه في كل حال .
وأخيرا فإن من شأنه أن يحس بالوجود كله متجها إلى خالقه فيتجه معه ، مسبحا بحمد ربه فيشاركه تسبيحه ، مدبرا بأمره وحكمته فيخضع لشريعته وقانونه . . ومن ثم فهو تصور إيماني كوني بهذا المعنى ، وبمعان أخرى كثيرة تتجلى في المواضع المتعددة في القرآن التي تضمنت عرض جوانب من هذا التصور الإيماني الشامل الكامل المحيط الدقيق . وأقرب مثل منها ما ورد في ختام سورة الحشر ، في هذا الجزء .
( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض ، له الملك وله الحمد ) . .
فكل ما في السماوات والأرض متوجه إلى ربه ، مسبح بحمده ؛ وقلب هذا الوجود مؤمن ، وروح كل شيء في هذا الوجود مؤمنة ، والله مالك كل شيء . وكل شيء شاعر بهذه الحقيقة . والله محمود بذاته ممجد من مخلوقاته . فإذا وقف الإنسان وحده في خضم هذا الوجود الكبير كافر القلب جامد الروح ، متمردا عاصيا ، لا يسبح لله ، ولا يتجه إلى مولاه ، فإنه يكون شاذا بارز الشذوذ ، كما يكون في موقف المنبوذ من كل ما في الوجود .
فهي القدرة المطلقة ، التي لا تتقيد بقيد . وهي حقيقة يطبعها القرآن في القلب المؤمن فيعرفها ويتأثر بمدلولها ، ويعلم أنه حين يركن إلى ربه فإنما يركن إلى قدرة تفعل ما تشاء ، وتحقق ما تريد . بلا حدود ولا قيود .
وهذا التصور لقدرة الله وتسبيح كل شيء له ، وتوجه الوجود إليه بالحمد . . هو طرف من ذلك التصور الإيماني الكبير .
مدنية في قول الأكثرين . وقال الضحاك : مكية . وقال الكلبي : هي مكية ومدنية . وهي ثماني عشرة آية . وعن ابن عباس أن " سورة التغابن " نزلت بمكة ، إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي ، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده ، فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " [ التغابن : 14 ] إلى آخر السورة . وعن عبدالله بن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة " سورة التغابن " .
سورة التغابن{[1]}
مقصودها الإبلاغ في التحذير مما حذرت منه{[2]} المنافقون بإقامة الدليل القاطع على أنه لا بد من العرض على الملك للدينونة على النقير والقطمير يوم القيامة يوم الجمع الأعظم ، واسمها التغابن واضح الدلالة على ذلك [ و-{[3]} ] هو أدل ما فيها عليه فلذلك سميت{[4]} به ( بسم الله ) مالك الملك فلا كفوء له ولا مثيل ( الرحمن ) الذي وسع الخلائق بره الجليل ( الرحيم ) الذي خص ممن عمه بالبر قوما فوقهم للجميل .
لما ختمت تلك بإثبات القهر بنفوذ الأمر وإحاطة العلم ، افتتح هذه بإحاطة الحمد ودوام التنزه{[65641]} عن كل شائبة نقص ، إرشاداً إلى النظر في أفعاله والتفكر في مصنوعاته لأنه الطريق إلى معرفته ، وأما معرفته بكنه الحقيقة فمحال فإنه{[65642]} لا يعرف الشيء كذلك إلا مثله ولا مثل له ، فقال مؤكداً لما أفهمه{[65643]} أول الجمعة : { يسبح } أي يوقع التنزيه التام مع التجديد والاستمرار { لله } الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال { ما في السماوات } الذي من جملته الأراضي وما فيها فلا يريد من شيء {[65644]}منه شيئاً{[65645]} إلا كان على وفق الإرادة ، فكان لذلك{[65646]} الكون والكائن شاهداً له بالبراءة عن كل شائبة نقص .
ولما كان الخطاب مع من{[65647]} تقدم في آخر المنافقين ممن هو محتاج إلى التأكيد ، قال مؤكداً بإعادة الموصول : { وما في الأرض } أي كذلك بدلالتها على كماله واستغنائه ، وقد تقدم أن موافقة العاقل للأمر مثل موافقة غير العاقل للارادة ، فعليه أن يهذب نفسه غاية التهذيب فيكون في طاعته بامتثال الأوامر كطاعة غير العاقل {[65648]}في امتثاله{[65649]} لما يراد منه .
ولما ساق سبحانه ذلك الدليل النقلي على كمال نزاهته على وجه يفهم الدليل العقلي لمن له لب كما قال علي رضي الله عنه : لا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوع ، كما لا تنفع الشمس و{[65650]}ضوء العين ممنوع ، وذلك لكونه سبحانه جعلهم مظروفين كما هو المشاهد ، والمظروف محتاج لوجود ظرفه قبله فهو عاجز فهو مسبح دائماً إن لم يكن بلسان قاله كان بلسان حاله ، وصانعه الغني عن الظرف فغيره سبوح ، علل{[65651]} ذلك بقوله : { له } أي وحده { الملك } أي{[65652]} كله مطلقاً في الدنيا والآخرة ، وهو السيادة العامة للخاص والعام والسياسة العامة بركنيها{[65653]} دفع الشرور وجلب الخيور الجالب للسرور والحبور من الإبداع والإعدام ، فهو أبلغ مما في الجمعة ، فإن الملك قد يكون ملكاً في الصورة ، وذلك الملك الذي هو ظاهر فيه لغيره ، فداوم التسيبح الذي اقتضته عظمة الملك هنا أعظم من ذلك الدوام .
ولما أتبعه في الجمعة التنزيه عن النقص ، أتبعه هنا الوصف بالكمال فقال : { وله } أي وحده { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال كلها فلذلك ينزهه جميع مخلوقاته ، فمن فهم تسبيحها فذلك{[65654]} المحسن{[65655]} ، ومن كان في طبعه وفطرته الأولى بالفهم ثم ضيعه يوشك أن يرجع فيفهم ، ومن لم يهيأ لذلك فذلك الضال الذي لا حيلة فيه { وهو } أي وحده { على كل شيء } أيّ شيء أي ممكن أن يتعلق به المشيئة { قدير * } لأنه وحده بكل شيء مطلقاً عليم ، لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الأشياء كلها على حد سواء وهذا واضح جداً ، ولأن من عرف نفسه بالنقص عرف ربه{[65656]} بالكمال وقوة السلطان والجلال .
وقال الإمام{[65657]} أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى : لما بسط في السورتين قبل من حال من حمل التوراة من بني إسرائيل ثم لم يحملها ، وحال المنافقين المتظاهرين بالإسلام ، وقلوبهم كفرا وعناداً متكاثفة الإظلام ، وبين خروج الطائفتين عن سواء السبيل المستقيم ، وتنكبهم عن هدى الدين القويم ، وأوهم ذكر اتصافهم بمتحد أوصافهم خصوصهم{[65658]} في الكفر بوسم الانفراد وسماً ينبىء عن عظيم ذلك الإبعاد ، سوى ما تناول غيرهم من أحزاب الكفار ، فأنبأ تعالى عن{[65659]} أن الخلق بجملتهم وإن تشعبت الفرق وافترقت الطرق راجعون بحكم السوابق إلى طريقين{[65660]} فقال تعالى { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } [ التغابن : 2 ] وقد أوضحنا الدلائل أن المؤمنين على درجات ، وأهل{[65661]} الكفر ذو طبقات ، وأهل النفاق أدونهم حالاً وأسوأهم كفراً وضلالاً " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " وافتتحت السورة بالتنزيه لعظيم مرتكب المنافقين في جهلهم{[65662]} ولو لم تنطو{[65663]} سورة المنافقين من عظيم مرتكبهم إلا على ما حكاه تعالى من قولهم{ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها{[65664]} الأذل }[ المنافقين : 8 ] وقد أشار قوله تعالى{ يعلم ما في السماوات وما في الأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور }[ التغابن : 4 ] إلى ما قبله وبعده من الآيات إلى سوء جهل المنافقين وعظيم حرمانهم في قولهم بألسنتهم مما{[65665]} لم تنطو عليه قلوبهم{ والله يشهد أن المنافقين لكاذبون }[ المنافقين : 1 ] واتخاذهم أيمانهم جنة{[65666]} وصدهم عن سبيل{[65667]} الله إلى ما وصفهم سبحانه به ، فافتتح سبحانه وتعالى سورة التغابن بتنزيهه عما توهموه من مرتكباتهم التي لا تخفى عليه سبحانه{ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم }[ التوبة : 78 ] ثم قال تعالى :{ ويعلم ما تسرون وما تعلنون }[ التغابن : 4 ] فقرع ووبخ في عدة آيات ثم أشار إلى ما منعهم من تأمل الآيات ، وصدهم عن اعتبار المعجزات ، وأنه الكبر المهلك غيرهم ، فقال تعالى مخبراً عن سلفهم في هذا المرتكب ، ممن أعقبه ذلك أليم العذاب وسوء المنقلب{ ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا }[ التغابن : 6 ] ثم تناسج الكلام معرفاً بمآلهم الأخروي ومآل غيرهم إلى قوله{ وبئس المصير }[ التغابن : 10 ] ومناسبة ما بعد يتبين في التفسير بحول الله - انتهى .
هذه السورة مدنية وآياتها ثماني عشرة آية . وقد تضمنت جملة من الحقائق والأفكار في الحياة والكون ، أولها الإخبار بأن كل شيء في السموات والأرض عاكف على التسبيح لله ، وذلك بذكره والإقرار له بالإلهية والربوبية وبتنزيهه عما لايليق به من الصفات .
وفي السورة بيان من الله بأنه خلق العباد متفاوتين في فطرهم وفي طبائعهم ، وبذلك فإن فيهم المؤمنين والكافرين . والله جل وعلا عليم بما في الكون من علوم وأخبار وهو سبحانه عليم بالسر والعلن ، وبما تخفيه الصدور من القصود والنوايا .
وفي السورة تنديد بالكافرين الذين يكذبون بيوم القيامة ، وهي قائمة لا محالة ، وآتية لا ريب فيها { قل بلى وربيّ لتبعثنّ } وفي السورة تحذير من التلهي بالأزواج والأولاد والانشغال بهم عن عبادة الله وطاعته .
{ يسبح لله ما في السموات والأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير 1 هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير 2 خلق السماوات والأرض بالحق وصوّركم أحسن صوركم وإليه المصير 3 يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور } .
كل شيء في هذا الوجود دائم الذكر لله فيعظمه ويقدسه وينزهه عن غير أوصاف الكمال { له الملك وله الحمد } الله جل جلاله بيده ملكوت كل شيء وهو سبحانه مختص بالحمد وبالغ الثناء ، لأنه المتفضل على الخلق بنعمه وآلائه { وهو على كل شيء قدير } الله الخالق المقتدر ، لا يعز عليه فعل ما يشاء .