تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأوحى إلى عبده} محمد صلى الله عليه وسلم {ما أوحى}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أوْحَى "اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: فأوحى الله إلى عبده محمد وحيه، وجعلوا قوله: "ما أوْحَى" بمعنى المصدر...
وقد يتوجه على هذا التأويل «ما» لوجهين:
أحدهما: أن تكون بمعنى «الذي»، فيكون معنى الكلام فأوحى إلى عبده الذي أوحاه إليه ربه.
والآخر: أن تكون بمعنى المصدر...
عن قتادة "فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أَوْحَى"، قال الحسن: جبريل.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع "فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أوْحَى" قال: على لسان جبريل...
قال ابن زيد، في قوله: فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أَوْحَى قال: أوحى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إليه.
وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فأوحى جبريل "إلى عبده" محمد صلى الله عليه وسلم "ما أوحى" إليه ربه، لأن افتتاح الكلام جرى في أوّل السورة بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن جبريل عليه السلام، وقوله: "فأوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أوْحَى" فِي سِياقِ ذلكَ، ولم يأت ما يدلّ على انصراف الخبر عنهما، فيوجه ذلك إلى ما صرف إليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فأوحى إلى عبده ما أوحى} هذا يخرّج على وجهين:
أحدهما: على التقديم والتأخير، أي فأوحى جبرائيل ما أوحي إليه إلى محمد عبده ورسوله عليه السلام.
والثاني: فأوحى الله، جل، وعلا، إلى عبده جبرائيل ما أوحى هو إلى محمد صلى الله عليه وسلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إلى عَبْدِهِ} إلى عبد الله، وإن لم يجر لاسمه عزّ وجل ذكر، لأنه لا يلبس.. {مَا أوحى} تفخيم للوحي الذي أوحي إليه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{مَا أَوْحَى} أي: الذي أوحاه إليه من الشرع العظيم، والنبأ المستقيم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهي رؤية عن قرب بعد الترائي عن بعد. وهو وحي وتعليم ومشاهدة وتيقن.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحاصل المعنى أن جبريل كان على مسافة قوسين من النبي صلى الله عليه وسلم الدال عليه التفريع بقوله: {فأوحى إلى عبده ما أوحى}، ولعل الحكمة في هذا البعد أن هذه الصفة حكاية لصورة الوحي الذي كان في أوائل عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة فكانت قُواه البشرية يومئذٍ غير معتادة لتحمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة رفقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتجشم شيئاً يشق عليه، ألا ترى أنه لما اتصل به في غار حراء ولا اتصال وهو الذي عبر عنه في حديثه بالغطّ قال النبي صلى الله عليه وسلم "فغطّنِي حتى بلغ مني الجَهْد " ثم كانت تعتريه الحالة الموصوفة في حديث نزول أول الوحي المشار إليها في سورة المدثّر وسورة المزمّل قال تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5]، ثم اعتاد اتصال جبريل به مباشرة فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة أنه « جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه» إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أيامئذٍ بالمدينة وقد اعتاد الوحي وفارقته شدته، ولمراعاة هذه الحكمة كان جبريل يتمثل للنبيء صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان وقد وصفه عمر في حديث بيانِ الإِيمان والإِسلام بقوله: « إذ دخل علينا رجل شديدُ بياض الثياب شديدُ سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد» الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم بعد مفارقته " يا عمر أتدري من السائل؟ قال عمر: الله ورسوله أعلم، قال: « فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". وقوله: {أو أدنى} {أو} فيه للتخيير في التقدير، وهو مستعمل في التقريب، أي إن أراد أحد تقريب هذه المسافة فهو مخيّر بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى، أي لا أزيد إشارة إلى أن التقدير لا مبالغة فيه. وتفريع {فأوحى إلى عبده ما أوحى} على قوله: {فتدلى فكان قاب قوسين} المفرّع على المفرّع على قوله: {علمه شديد القوى}، وهذا التفريع هو المقصود من البيان وما قبله تمهيد له، وتمثيل لأحوال عجيبة بأقرب ما يفهمه الناس لقصد بيان إمكان تلقّي الوحي عن الله تعالى إذ كان المشركون يحيلونه فبينّ لهم إمكان الوحي بوصف طريق الوحي إجمالاً، وهذه كيفية من صور الوحي. وضمير {أوحى} عائد إلى الله تعالى المعلوم من قوله: {إن هو إلا وحي يوحى} كما تقدم، والمعنى: فأوحى الله إلى عَبده محمد صلى الله عليه وسلم وهذا كافٍ في هذا المقام لأن المقصود إثبات الإِيحاء لإِبطال إنكارهم إياه. وإيثار التعبير عن النبي صلى الله عليه وسلم بعنوان {عبده} إظهار في مقام الإِضمار في اختصاص الإِضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} أي عبد الله، وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)، {مَآ أَوْحَى} من القرآن بالمستوى الذي لا مجال فيه لأيّ شكَ أو شبهةٍ، لأن هذا المستوى من القرب لا يمكن أن يخدع العين، أو يُثير الريب في النفس...
قوله تعالى : " فأوحى إلى عبده ما أوحى " تفخيم للوحي الذي أوحى إليه . وتقدم معنى الوحي ، وهو إلقاء الشيء بسرعة ومنه الوَحَاء{[14359]} الوَحَاء .
والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى . وقيل : المعنى " فأوحى إلى عبده " جبريل عليه السلام " ما أوحى{[14360]} " . وقيل : المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه . قاله الربيع والحسن وابن زيد وقتادة . قال قتادة : أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد . ثم قيل : هذا الوحي هل هو مبهم ؟ لا نطلع عليه نحن وتعبدنا بالإيمان به على الجملة ، أو هو معلوم مفسر ؟ قولان . وبالثاني قال سعيد بن جبير ، قال : أوحى الله إلى محمد : ألم أجدك يتيما فآويتك ! ألم أجدك ضالا فهديتك ! ألم أجدك عائلا فأغنيتك ! " ألم نشرح لك صدرك . ووضعنا عنك وزرك . الذي أنقض ظهرك . ورفعنا لك ذكرك " [ الانشراح : 4 ] . وقيل : أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .
{ فأوحى } أي ألقى سراً من كلام الله بسبب هذا القرب ، وعقبه بقوله : { إلى عبده } أي عبد الله ، وإضماره من غير تقدم ذكره صريحاً لما هو معلوم مما تقدم في آخر الشورى أن كلام الله يكون وحياً بواسطة رسول يوحي بإذنه سبحانه ، والمقام يناسب الإضمار لأن الكلام هو الوحي الخفي ، وعبر بالبعد إشارة إلى أنه لم يكن أحد ليستحق هذا الأمر العظيم غيره لأنه لم يتعبد قط لأحد غير الله ، وكل من عاداه حصل منهم تعبد لغيره في الجملة ، فكان أحق الخلق بهذا الوصف مع أنه كان يتعبد لله في غار حراء وغيره ، وهذه النزلة - والله أعلم - كانت على هذا التقدير في أول الوحي لما كان بحراء وفرق منه صلى الله عليه وسلم فرجع ترجف بوادره ، وقال : زملوني زملوني . وأشار إلى عظمة ما أنزل بقوله : { ما أوحى * } أي إنه يجل عن الوصف فأجمل له ما فصل له بعد ذلك ، هذا الذي ذكر من تفسير لضمائر مظاهر العبارة وإن كان الإضمار في جميع الأفعال لا يخلو عن التباس وإشكال ، ويمكن لأجل احتمال الضمائر لما يناسبها من الظواهر أن يكون ضمير { دنا } وما بعده لله تعالى ، وحينئذ يصير في { عبده } واضحاً كما تقدم في هذا الوجه جعله له سبحانه لأنه لا يجوز لغيره ، روى البخاري{[61674]} في التوحيد في باب { وكلم الله موسى تكليماً } عن أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة " أنه جاءه ثلاثة{[61675]} نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم " : أيهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم ، فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، وكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه{[61676]} وتنام عينه ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلموه{[61677]} حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبرئيل عليه السلام فشق جبرئيل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشواً إيماناً وحكمة فحشا به{[61678]} صدره ولغاديده{[61679]} - يعني عروق حلقه ، ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء : من هذا ؟ فقال : جبرئيل ، قالوا : ومن معك ، قال : معي محمد ، قالوا : وبعث إليه ، قال : نعم ، قالوا : فمرحباً به وأهلاً{[61680]} - ثم ذكر عروجه إلى السماوات السبع ، وأنه لما وصل إلى السماء السابعة {[61681]}علا به{[61682]} فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى{[61683]} جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى منه فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه فيما يوحي الله إليه خمسين صلاة - فذكر مشورة موسى عليهما السلام في سؤال التخفيف حتى صارت خمساً كل واحدة بعشرة ، ودنا الجبار رب العزة في هذا الوجه وهو رب العزة " وهو في غاية الحسن إذا جمعته مع ما يأتي في هذا الوجه المنقول عن جعفر الصادق رضي الله عنه فيكون المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لما استوى بالأفق الأعلى فوصل إلى حد لا يمكن المخلوق الصعود إليه تنزل له الخالق سبحانه ، ولذلك عبر عنه ب { ثم } يعني أنه سبحانه تنزل له تنزلاً{[61684]} لا يمكن الاطلاع على كنه رتبته في العلو والعظمة ، ثم نزل ثم تنزل .
ولما كانت العبارة ربما أوهمت شيأ لا يليق به{[61685]} نفاه صلى الله عليه وسلم بما في الرواية من تخصيص التعبير باسم الجبار فعلم أنه قربه تقريباً يليق به ، وسمى ذلك دنواً فكان الدنو والتدلي تمثيلاً لما وصل منه سبحانه إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم بغاية السهولة واليسر واللطافة مع اتصاله بالحضرات القدسية ، والتعبير بالتدلي لإفهام العلو مثل ما كني بالنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا عن إجابة الدعاء بفتح أبواب السماء كما رويناه في جزء العيشي من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه تمثيلاً بما نعرفه من{[61686]} حال الملوك في أن أحدهم يكون نزوله عن سريره أدنى في إتيان خواصه إليه ، وفتح بابه أدنى لمن يليهم ، وكلما نزل درجة كان الإذن أعم إلى أن يصل إلى الإذن العام لجميع الناس ، هذا علم المخاطبين بأن ذلك على سبيل التمثيل بمن يحتاج إلى هذه الدرجات ، وأما من هو غني عن كل شيء فله سبحانه المثل الأعلى ولا يشبه شيئاً ، ولا يشبهه شيء ، وفي { قرآن الفجر } من سورة سبحان لهذا مزيد بيان ، وقال القاضي عياض في الشفاء{[61687]} ما حاصله أن تلك الضمائر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : قال جعفر بن محمد - يعني الصادق بن الباقر : أدناه ربه حتى كان منه كقاب قوسين ، وقال أيضاً : انقطعت الكيفية عن الدنو ، ألا ترى كيف حجب جبريل عليه السلام عن دنوه ودنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما أودع قلبه من المعرفة والإيمان فتدلى بسكون قلبه إلى ما أدناه وزال عن قلبه الشك والارتياب ، وقال جعفر أيضاً : والدنو من الله تعالى لا حد له ، ومن العباد بالحدود - انتهى .
وحينئذ يكون ضمير " استوى " له صلى الله عليه وسلم ، ويكون المعنى : فتسبب عن تعليم جبريل له استواوه - أي اعتدال علمه - إلى غاية لم يصلها غيره من الخلق علماً وكسباً بالملك والملكوت والحال أنه بالأفق الأعلى ليلة الإسراء ، وتدليه كناية عن وصوله بسبب عظيم حامل حمل السبب للمتدلي ، وعبر به وهو ظاهر في النزول من علو مع عدم الانفصال منه لئلا يوهم اختصاص جهة العلو به سبحانه دون بقية الجهات ، ومنه " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " وكذا قيل في الإشارة ب " لا تفضلوني على يونس بن متى " ومن المحاسن جداً أن تكون ألف { تدلى } المنقلبة عن ياء في هذا الوجه بدلاً من لام فيكون من التدلل وهو الانبساط وثوقاً بالمحبة ، يقال : تدلل عليه ، أي انبسط ووثق بمحبته فأفرط عليه ، وانبساطه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة إفراط كثرة سؤاله ، وشفاعته في أمته ، وبذلك ظهر إلى عالم الشهادة أنه أرحم الخلق كما كان معلوماً إلى عالم الغيب ، فتسبب عنه زيادة تقريبه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، وإبراز هذا الكلام في هذه الضمائر المتحملة لهذه الوجوه من غير ظاهر يعين المراد يناسب لتلك الحالة ، فإنها كانت حالة غيب وخفاء وستر ، وكان العلم فيها واسعاً ، وسوق الضمائر هكذا يكثر احتمال الكلام للوجوه ، فيتسع العلم مع أنه ليس فيها وجه يؤدي إلى لبس في الدين ولا ركاكة في معنى ولا نظم ولا مجال للعلم - والله أعلم .