ووراء رؤيتها الحساب الدقيق الذي لا يدع ذرة من خير أو من شر لا يزنها ولا يجازي عليها .
( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) . .
ذرة . . كان المفسرون القدامى يقولون : إنها البعوضة . وكانوا يقولون : إنها الهباءة التي ترى في ضوء الشمس . . . فقد كان ذلك أصغر ما يتصورون من لفظ الذرة . . .
فنحن الآن نعلم أن الذرة شيء محدد يحمل هذا الإسم ، وأنه أصغر بكثير من تلك الهباءة التي ترى في ضوء الشمس ، فالهباءة ترى بالعين المجردة . أما الذرة فلا ترى أبدا حتى بأعظم المجاهر في المعامل . إنما هي " رؤيا " في ضمير العلماء ! لم يسبق لواحد منهم أن رآها بعينه ولا بمجهره . وكل ما رآه هو آثارها !
فهذه أو ما يشبهها من ثقل ، من خير أو شر ، تحضر ويراها صاحبها ويجد جزاءها ! . . .
عندئذ لا يحقر " الإنسان " شيئا من عمله . خيرا كان أو شرا . ولا يقول : هذه صغيرة لا حساب لها ولا وزن . إنما يرتعش وجدانه أمام كل عمل من أعماله إرتعاشة ذلك الميزان الدقيق الذي ترجح به الذرة أو تشيل !
إن هذا الميزان لم يوجد له نظير أو شبيه بعد في الأرض . . إلا في القلب المؤمن . .
القلب الذي يرتعش لمثقال ذرة من خير أو شر . . . وفي الأرض قلوب لا تتحرك للجبل من الذنوب والمعاصي والجرائر . . ولا تتأثر وهي تسحق رواسي من الخير دونها رواسي الجبال . .
إنها قلوب عتلة في الأرض ، مسحوقة تحت أثقالها تلك في يوم الحساب ! !
{ فمن يعمل مثقال ذرة . . . } تفصيل للرائين وما يرونه . و " مثقال ذرة " أي مقدار وزن أصغر نملة . أو ما يرى من الهباء في شعاع الشمس الداخل من الكوة ؛ وهو مثل في القلة . وعن ابن عباس : ليس مؤمن ولا كافر عمل خير أو شرا في الدنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة ؛ فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته ، فيغفر له سيئاته ، ويثيبه بحسناته . وأما الكافر فيرى حسناته وسيئاته ، فيرد حسناته ، ويعذبه بسيئاته . وقوله : " فيرد حسناته " أي لا يثيبه عليها ؛ لكفره وهو محبط للعمل . وإن خفف عنه العذاب بسببها ؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك .
الذَرَّة : شيء صغير جدا لا يُرى بالعين المجردة ، ولا بأحدثِ الآلات .
وتنشَر الصحف التي لا تغادرُ صغيرةً ولا كبيرة { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] .
وهنا يُجزى - أو يجازى - من يعمل مثقالَ ذرة واحدة ، خيراً أو شراً . والذرة شيء صغيرٌ جدا لا يُرى بالعين المجردة ، ولا بأحدث الآلات . نسأل الله السلامة .
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }فيُقَاسي عناءَه . ...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } جزاء المؤمن في الدنيا بالأحزان والمصائب ، والكافر في الآخرة . ...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
هذا على عمومه في حق الكافر ....
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ ومن يعمل } أي كائناً من كان { مثقال ذرة شراً } أي من جهة الشر { يره } فما فوقه ، فالمؤمن يراه ويعلم أنه قد غفر له ليشتد فرحه ، والكافر يراه فيشتد حزنه وترحه ، والذرة النملة الصغيرة ، أو الهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة ، وقد رجع آخرها على أولها بتحديث الأخبار وإظهار الأسرار ....
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ووراء رؤيتها الحساب الدقيق الذي لا يدع ذرة من خير أو من شر لا يزنها ولا يجازي عليها .
( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) . .
ذرة . . كان المفسرون القدامى يقولون : إنها البعوضة . وكانوا يقولون : إنها الهباءة التي ترى في ضوء الشمس . . . فقد كان ذلك أصغر ما يتصورون من لفظ الذرة . . .
فنحن الآن نعلم أن الذرة شيء محدد يحمل هذا الاسم ، وأنه أصغر بكثير من تلك الهباءة التي ترى في ضوء الشمس ، فالهباءة ترى بالعين المجردة . أما الذرة فلا ترى أبدا حتى بأعظم المجاهر في المعامل . إنما هي " رؤيا " في ضمير العلماء ! لم يسبق لواحد منهم أن رآها بعينه ولا بمجهره . وكل ما رآه هو آثارها !
فهذه أو ما يشبهها من ثقل ، من خير أو شر ، تحضر ويراها صاحبها ويجد جزاءها ! . . .
عندئذ لا يحقر " الإنسان " شيئا من عمله . خيرا كان أو شرا . ولا يقول : هذه صغيرة لا حساب لها ولا وزن . إنما يرتعش وجدانه أمام كل عمل من أعماله ارتعاشة ذلك الميزان الدقيق الذي ترجح به الذرة أو تشيل !
إن هذا الميزان لم يوجد له نظير أو شبيه بعد في الأرض . . إلا في القلب المؤمن . .
القلب الذي يرتعش لمثقال ذرة من خير أو شر . . . وفي الأرض قلوب لا تتحرك للجبل من الذنوب والمعاصي والجرائر . . ولا تتأثر وهي تسحق رواسي من الخير دونها رواسي الجبال . .
إنها قلوب عتلة في الأرض ، مسحوقة تحت أثقالها تلك في يوم الحساب ! !
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفريع على قوله : { ليروا أعمالهم } [ الزلزلة : 6 ] تفريع الفذلكة ، انتقالاً للترغيب والترهيب بعد الفراغ من إثبات البعث والجزاء ، والتفريعُ قاض بأن هذا يكون عقب ما يصدر الناس أشتاتاً .
والمثقال : ما يعرف به ثِقَل الشيء ، وهو ما يُقَدَّر به الوزن وهو كميزاننٍ زِنةً ومعْنًى .
والذّرة : النملة الصغيرة في ابتداء حياتها .
و { مثقال ذرة } مثَل في أقل القلة وذلك للمؤمنين ظاهر وبالنسبة إلى الكافرين فالمقصود ما عملوا من شر ، وأما بالنسبة إلى أعمالهم من الخير فهي كالعدم فلا توصف بخير عند الله لأن عمل الخير مشروط بالإِيمان قال تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بِقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } [ النور : 39 ] .
وإنما أعيد قوله : { ومن يعمل } دون الاكتفاء بحرف العطف لتكون كل جملة مستقلة الدلالة على المراد لتختص كل جملة بغرضها من الترغيب أو الترهيب فأهمية ذلك تقتضي التصريح والإِطناب .
وهذه الآية معدودة من جوامع الكلم وقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالجامعة الفاذة ففي « الموطأ » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الخيلُ لثلاثة " الحديث . فسُئل عن الحُمُر فقال : لم يُنْزَل عَليَّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذَّة : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } . وعن عبد الله بن مسعود أنه قال : هذه أحكم آية في القرآن ، وقال الحسن : قَدِم صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئ النبي القرآن فقرأ عليه هذه الآية فقال صَعصعة : حسبي فقد انتهت الموعظة لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها . وقال كعب الأحبار : « لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإِنجيل والزبور والصحف : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره .
وإذ قد كان الكلام مسوقاً للترغيب والترهيب معاً أوثر جانب الترغيب بالتقديم في التقسيم تنويهاً بأهل الخير ...
روى الواحدي عن مقاتل : أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا بالمدينة أحدهما لا يبالي من الذنوب الصغائر ويركبها ، والآخر يحب أن يتصدق فلا يجد إلا اليسير فيستحيي من أن يتصدق به فنزلت الآية فيهما .
ومن أجل هذه الرواية قال جمع : إن السورة مدنية . ولو صحّ هذا الخبر لما كان مقتضياً أن السورة مدنية لأنهم كانوا إذا تلوا آية من القرآن شاهداً يظنها بعض السامعين نزلت في تلك القصة كما بيناه في المقدمة الخامسة .
ولما ذكر الخير ، أتبعه ضده فقال : { ومن يعمل } أي كائناً من كان { مثقال ذرة شراً } أي من جهة الشر { يره } فما فوقه ، فالمؤمن يراه ويعلم أنه قد غفر له ليشتد فرحه ، والكافر يراه فيشتد حزنه وترحه ، والذرة النملة الصغيرة ، أو الهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة ، وقد رجع آخرها على أولها بتحديث الأخبار وإظهار الأسرار ، وقد ورد في حديث الأعرابي أن هذه السورة جامعة لهذه الآية الأخيرة ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إنها أحكم آية في القرآن ، وكان رسول الله عليه صلى الله عليه وسلم يسميها الفاذة الجامعة ، ومن فقه ذلك لم يحقر ذنباً وإن دق ؛ لأنه يجتمع إلى أمثاله فيصير كبيراً كما قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : " إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالباً " .
وروي كما ذكرته في كتابي " مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور " في حديث " إنها تعدل نصف القرآن " ، وفي حديث آخر أنها تعدل ربع القرآن ، ولا تعارض ، فالأول نظر إليها من جهة أن الأحكام تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة ، وهذه السورة اشتملت على أحكام الآخرة إجمالاً ، وزادت على القارعة بإخراج الأثقال ، وأن كل أحد يرى كل ما عمل ، والثاني نظر إليه باعتبار ما تضمنه الحديث الذي رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر " ، فاقتضى هذا الحديث أن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان الكامل الذي دل عليه القرآن ، وأيضاً فأمر الدين أربعة أجزاء : أمر المعبود ، وأمر العبيد ، وأمر العبادة ، وأمر الجزاء ، فهذه السورة تكفلت بأمر الجزاء ، وسورة الكافرون ربع ؛ لأنها في أمر العبادة على وجه الخصوص والخفاء ، وإن كانت على وجه التمام والوفاء ، وسورة النصر ربع ؛ لأنها لأمر العبادة على وجه العموم والجلاء والظهور والعلاء ، والله الهادي للصواب ، وإليه المآب .
قوله : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الذرة لا زنة لها لفرط صغرها وبساطتها . وهذا مثل ضربه الله سبحانه ، وهو أنه لا يضيّع من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة . ولسوف يريه الله سائر أعماله من خير أو شر ، ما قل من ذلك أو كثر . والمسلم المتعظ يحرص على فعل الخير مهما قل ، وذلك محسوب له في سجل أعماله ، يجده يوم الحساب . فقد روى البخاري في صحيحه عن عدي مرفوعا : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة " ، وفي الصحيح كذلك " لا تحقرنّ من المعروف شيئا ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ، ولو أن تلقى أخاك ، ووجهك إليه منبسط " .
وما ينبغي للمسلم الحريص أيضا أن يغفل عن محقرات الذنوب ، فإن اجتماعها على المرء يفضي به إلى التردي في الخسار . فقد أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم ومحقّرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه " {[4846]} .