اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ} (8)

قوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } .

قال ابن عباس - رضي الله عنه - : من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيراً يره في الدنيا ، ولا يثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات ، ويتجاوز عنه ، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه ، ويضاعف له في الآخرة{[60654]} .

وفي بعض الحديث : «أن الذرة لا زنةَ لهَا » ، وهذا مثل ضربه الله تعالى أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة ، وهو مثل قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] وقد تقدم أن الذر لا وزن له .

وذكر بعض أهل اللغةِ أن الذَّرَّ : أن يضرب الرَّجل بيده على الأرض ، فما علق بها من التراب فهو الذَّر ، وكذا قال ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ، ورفعتها ، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة{[60655]} .

وقيل : الذر نملة صغيرة ، وأصغر ما تكون إذا مضى عليها حول .

قال امرؤ القيس : [ الطويل ]

5266- مِنَ القَاصِراتِ الطَّرفِ لوْ دَبَّ مُحوِلٌ *** مِنَ الذَّرَّ فوْقَ الإتْبِ منْهَا لأثَّرَا{[60656]}

قال محمد بن كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله ووطنه ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في ماله ونفسه وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر{[60657]} ، ودليله ما رواه أنس - رضي الله عنه - «أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم [ وأبو بكر يأكل فأمسك ، وقال : يا رسول الله ]{[60658]} ، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر ؟ قال النبي : «يا أبا بكر ، مَا رأيْتَ في الدُّنيا مِمَا تكرَهُ فَهُوَ مَثَاقيلُ ذر الشر ، ويدخر لكم مثاقِيلُ ذرِّ الخَيْرِ ، حتَّى تُعطوهُ يَوْمَ القِيَامَةِ »{[60659]} .

قال أبو إدريس : إن مصداقه في كتاب الله : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] .

قال مقاتل : نزلت في رجلين ، وذلك أنه لما نزل { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ } [ الإنسان : 8 ] ، كان أحدهم يأتيه السائلُ ، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ، وكان الآخر يتهاون بالذَّنب اليسير ، كالكذبة والغيبة والنظرة ، ويقول : إنما أوعد الله النَّار على الكبائر ، فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه ، فإنه يوشك أن يكثر ، وتحذرهم اليسير من الذنب ، فإنه يوشك أن يكثر ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشقِّ تَمرةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجدْ فَبِكَلمَةٍ طيِّبةٍ » .

فصل في قراءة «يره »

قوله : { يَرَهُ } ، جواب الشرط في الموضعين .

وقرأ هشام : بسكون{[60654]} هاء «يَرَهُ » وصلاً في الحرفين ، وباقي السبعة : بضمها موصولة بواو وصلاً ، وساكنة وقفاً ، كسائر «ها » الكناية .

ونقل أبو حيان{[60655]} عن هشام وأبي بكر : سكونها .

وعن أبي عمرو : بضمها مشبعتين ، وباقي السبعة بإشباع الأولى وسكون الثانية انتهى .

وكان ذلك لأجل الوقف على آخر السورة غالباً ، أما لو وصلوا آخرها بأول «العَادِيَات » كان الحكم الإشباع ، وهذا مقتضى أصولهم ، وهو المنقول .

وقرأ العامة : «يَرَهُ » مبنياً للفاعل فيهما .

وقرأ ابن عبَّاسٍ والحسن ابنا علي بن{[60656]} أبي طالب ، وزيد بن علي وأبو حيوة وعاصم والكسائي في رواية الجحدريِّ والسلمي وعيسى بن عمر : بضم الياء ، أي : يريه اللهُ إياه .

قال القرطبيُّ{[60657]} : والأولى الاختيار ، لقوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران : 30 ] .

وقرأ عكرمة : «يَرَاه »{[60658]} بالألف ، إما على تقدير الجزم بحذف الحركة المقدرة ، وإما على توهم أن «من » موصولة . وتقدم هذا في أواخر «يوسف » . ومعنى «يره » أي : يرى جزاءه ؛ لأن ما عمله قد مضى وعدم .

وحكى الزمخشري{[60659]} أن أعرابياً أخر : «خَيْراً يرهُ » ، فقيل له : قدمت وأخرت ؛ فقال : [ الطويل ]

5267- خُذَا جَنْبَ هَرْشَى أو قَفَاهَا فإنَّهُ *** كِلاَ جَانِبَيْ هَرْشَى لهُنَّ طَريقُ{[7]}

انتهى .

يريد : أن التقديم والتأخير سواء ، وهذا لا يجوز - ألبتة - فإنه خطأ ، فلا يعتمد به قراءة . وفي نصب «خيراً ، وشراً » ، وجهان :

أظهرهما : أنهما تمييز لأنه مقدار .

والثاني : أنهما بدلان من مثقال .

فصل في الكلام على هذه الآية

قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : هذه أحكم آية في القرآن وأصدق{[8]} . وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية ، القائلون بالعموم ومن لم يقل به .

قال كعبُ الأحبار - رضي الله عنه - : لقد أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم آيتين ، أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }{[9]} . [ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الآية الجامعة الفاذّة ]{[10]} .

روى مالك في «الموطأ » : أن مسكيناً استطعم عائشة - رضي الله عنها - وبين يديها عنب ، فقالت لإنسان : خذ حبة وأعطه إياها ، فجعل ينظر إليها ويتعجب ، فقالت عائشة : أتعجب ، كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة{[11]} .

ختام السورة:

روى الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأ { إِذَا زُلْزِلَتِ } عدَلتْ لهُ نِصفَ القُرآنِ ، ومَنْ قَرَأ : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } عدلتْ لهُ ثُلُثَ القُرآنِ »{[1]} .

وعن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأ { إِذَا زُلْزِلَتِ } أربعَ مرَّاتٍ ، كَانَ كَمَنْ قَرَأ القُرآنَ كُلَّهُ »{[2]} والله أعلم .


[7]:تقدم.
[8]:ينظر: تفسير القرطبي (20/93).
[9]:سقط من: ب.
[10]:الجامع لأحكام القرآن 20/91.
[11]:سقط في ب.
[60654]:ينظر القرطبي (20/102).
[60655]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/103).
[60656]:تقدم.
[60657]:ينظر القرطبي (20/103).
[60658]:سقط من أ.
[60659]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/662)، من حديث أنس وذكره الهيثمي في "مجمع الزاوئد" (7/144-145)، وقال رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه موسى بن سهل والظاهر أنه الوشاء وهو ضعيف. والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/646)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في "تاريخه" وابن مردويه والبيهقي في "شعب الإيمان". وله شاهد من حديث أبي أسماء الرحبي أخرجه الحاكم (2/532-533)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي فقال: مرسل. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/646)، وزاد نسبته إلى إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد وابن مردويه. وللحديث شاهد آخر عن أبي أيوب ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/646)، وعزاه إلى ابن مردويه. وللحديث شاهد أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص دون ذكر الأكل أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/663)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/646)، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في "كتاب البكاء" والطبراني وابن مردويه والبيهقي في "شعب الإيمان". وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/144)، وقال رواه الطبراني وفيه حيي بن عبد عبد الله المعافري وثقه ابن معين وغيره وبقية رجاله رجال الصحيح. وحيي بن عبد الله ليس في إسناد الطبري.

[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.