السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ} (8)

{ فمن يعمل } من محسن أو مسيء ، مسلم أو كافر { مثقال ذرّة خيراً } أي : من جهة الخير { يره } أي : يرى ثوابه حاضراً لا يغيب عنه شيء منه ، لأنّ المحاسب له الإحاطة علماً وقدرة .

{ ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره } فالمؤمن يراه ليشتدّ سروره به ، والكافر يوقف على عمله أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان ، أو على أنه جوزي في الدنيا ، فهو صورة بلا معنى ، ليشتدّ ندمه وتبقى حسرته . وعن ابن عباس : من يعمل من الكفار خيراً يره في الدنيا ولا يثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا تاب ويتجاوز عنه ، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يقبل منه ويضاعف في الآخرة .

وفي بعض الأحاديث : إنّ الذرّة لا زنة لها ، وهذا مثل ضربه الله تعالى ليبين أنه لا يغفل عن عمل ابن آدم صغيراً ولا كبيراً ، وهو كقوله تعالى : { إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة } [ النساء : 40 ] . وذكر بعض أهل اللغة أنّ الذر أن يضرب الرجل يده على الأرض فما علق من التراب فهو الذر . وعن ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها فكل واحدة مما لزق من التراب ذرّة ، وفسرها بعضهم بالنملة الصغيرة ، وبعضهم بالهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة . وقال محمد كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى خير ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شر ، ودليله ما روى أنس «أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل فأمسك وقال : يا رسول الله وإنا لنرى ما عملنا من خير وشرّ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر ، ويدّخر لكم مثاقيل ذر الخير حتى تعطوه يوم القيامة » . وقال أبو إدريس : إنّ مصداقه من كتاب الله عز وجل : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] . وقال مقاتل : نزلت في رجلين أحدهما كان يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة ، ويقول : إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر ، فنزلت هذه الآية لترغبهم في القليل من الخير يعطوه ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : «اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة » ، وتحذرهم من اليسير من الذنب ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعائشة : «إياك ومحقرات الذنوب ، فإنّ لها من الله تعالى طالباً » ، وقال ابن مسعود : هذه الآية أحكم آية في القرآن وأصدق . وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية .

وقال كعب الأحبار : لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آيتان أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف { فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره } . وكان صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الجامعة الفاذة حين سئل عن زكاة الحمير فقال : «ما نزل عليّ فيها شيء غير هذه الآية الجامعة الفاذة » : { فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره } . وروى مالك في الموطأ أنّ مسكيناً استطعم عائشة رضي الله عنها وبين يديها عنب ، فقالت لإنسان : خذ حبة فأعطه إياها ، فجعل ينظر إليها ويتعجب ، فقالت : أتعجب ، كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرّة ، وكذا تصدّق عمر رضي الله عنه ، وإنما فعلا ذلك لتعليم الغير ، وإلا فهما من كرماء الصحابة . قال الربيع بن خيثم : مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه الآية فلما بلغ آخرها قال : حسبي ، قد انتهت الموعظة .

تنبيه : قوله تعالى : { يره } جواب الشرط في الموضعين . وقرأ هشام بسكون هاء ( يره ) وصلاً في الحرفين ، والباقون بضمها وصلاً وساكنة وقفاً كسائر هاء الكناية .

ختام السورة:

وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «من قرأ إذا زلزلت أربع مرّات كان كمن قرأ القرآن كله » ، رواه الثعلبي بسند ضعيف ، لكن يشهد له ما رواه ابن أبي شيبة مرفوعاً «إذا زلزلت تعدل ربع القرآن » .