الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ} (8)

{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } أي يُرى ثوابه .

{ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } .

قال ابن عباس : ليس مؤمن ولا كافر عمل خيراً ولا شراً في الدنيا إلاّ أراه اللّه إياه ، أما المؤمن فيرى حسناته وسيّئاته ، فيغفر له سيئاته ويثيبه لحسناته ، وأما الكافر فتردُ حسناته ويعذبه بسيّئاته .

وقال محمد بن كعب في هذه الآية : فمن يعمل مثقال ذرة خيراً من كافر يرى ثوابه في نفسه وأهله وماله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند اللّه خير ، ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند اللّه شر .

ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم ، عن ابن جرير قال : حدّثني أبو الخطاب الجنائي قال : حدّثنا الهيثم بن الربيع قال : حدّثنا سماك بن عطية ، عن أيوب ، عن أبي قُلابة ، عن أنس قال : " كان أبو بكر يأكل مع النبي ( عليه السلام ) فنزلت هذه الآية : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } فرفع أبو بكر - رضي اللّه عنه - يده وقال : يا رسول اللّه أنّى أخبر بما عملت من مثقال ذرة من شر ؟ فقال : " يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرّ الشرّ ، ويدّخر اللّه لك مثاقيل ذر الخير حتى تُوفّاه يوم القيامة " .

له عن محمد بن جرير قال : حدّثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا بن وهب قال : حدّثني حُيي بن عبد اللّه ، عن أبي عبد الرحمن الجيلي ، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه قال : " نزلت { إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا } وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه قاعد فبكى حين أُنزلت ، فقال له رسول اللّه ( عليه السلام ) : " ما يبكيك يا أبا بكر ؟ " قال : أبكتني هذه السورة ، فقال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " واللّه لو أنكم لا تُخطِئُونَ ولا تُذْنِبونَ ويغفر اللّه لكم لخلق اللّه أُمّةً يخطئون ويذنبون فيغفر لهم " .

وقراءة العامّة ( يره ) بفتح الياء في الحرفين ، وقرأ خالد بن نشيط وعاصم الجحدري بضم اليائين لقوله : { لِّيُرَوْاْ } .

قال مقاتل : نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزل{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } [ الدهر : 8 ] كان أحدهما يأتيه السائل فيستقلّ أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ونحوها ، ويقول : ما هذا بشيء ، إنّما نُؤجر على ما نعطي ونحن نحبه ، يقول اللّه سبحانه :{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } [ الدهر : 8 ] فما أحب لنا هذا فردهُ غفران ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير : الكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ، ويقول : ليس عليَّ من هذا شيء ، إنّما وعد اللّه سبحانه النار على الكبائر ، وليس في هذا إثم ، فأنزل اللّه سبحانه يرغّبهم في القليل من الخير أن يعطوه ، فإنّه يوشك أن يكثر ، ويحذّرهم اليسير من الذنب ، فإنّه يوشك أن يكبر ، فالإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعلى من الجبال ، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء ، فقال : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } .

سُئل ثعلبة عن الذرّة قال : إن مائة مثل وزن حبّة ، والذرّة واحد منها . وقال يزيد بن [ مروان ] : زعموا أن الذرّة ليس لها وزن ، ومعنى المثقال الوزن ، وهو مفعال من الثقل ، وقال ابن مسعود : أحكم آية في القرآن { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسمّيها " الجامعة الفاذة " ، وتصدق سعد بن أبي وقّاص بتمرتين وقبض السائل يده فقال سعد : ويحك تقبل اللّه منّا مثقال الذرّة والخردلة ، وكأين في هذه من مثاقيل .

وتصدّق عمر بن الخطّاب وعائشة بحبة من عنب وقالا : فيها مثاقيل ذرّ كُثر .

وروى المطّلب بن [ عبد الله عن عائشة ] " أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قرأ في مجلس ومعهم أعرابي جالس ، فقال رسول اللّه ( عليه السلام ) : " { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } " فقال الأعرابي : يا رسول اللّه مثقال ذرّة ؟ قال له : " نعم " ، فقال الأعرابي : يا رسول اللّه مثقال ذرّة ؟ قال له " نعم " ، فقال الأعرابي : واسوأتاه منّا إذاً ، ثم قام وهو يقولها ، فقال رسول اللّه ( عليه السلام ) : " لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان " .

وأخبرنا عبد اللّه بن حاطب قال : أخبرنا محمد بن عامر السمرقندي قال : حدّثنا عمر بن يحيى قال : حدّثنا عبد بن حميد ، عن وهب بن جرير ، عن أبيه قال : سمعت الحسن يقول : " قدم صعصعة عمّ الفرزدق على النبي ( عليه السلام ) فلمّا سمع { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } قال : حسبي ، ما أبالي ولا أسمع من القرآن غير هذا " .

وقال الربيع بن صبيح : مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السورة ، فلمّا بلغ آخرها قال : " حسبي قد أتممت الموعظة " ، فقال الحسن : " لقد فقه الرجل " .

أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسّر قال : أنشدني أبو الفضل أحمد بن محمد بن حمدون الفقيه قال : أنشدني أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الحواربي بواسط :

إنّ من يعتدي ويكسب إثماً *** وزن مثقال ذرّة سيراه

ويجازى بفعله الشر شرّاً *** وبفعل الجميل أيضاً جزاه

هكذا قوله تبارك ربّي *** في إذا زلزلت جلّ ثناه