فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ} (8)

{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } أي وزن نملة ، وهي أصغر ما يكون من النمل . قرأ الجمهور ( يره ) في الموضعين بضم الهاء وصلا وسكونها وقفا ، وقرأ هشام بسكونها وصلا ووقفا .

وقرأ الجمهور أيضا مبنيا للفاعل في الموضعين ، وقرئ على البناء للمفعول فيهما ، أي يريه الله إياه ، وقرئ يراه على توهم أن من موصولة ، أو على تقدير الجزم بحذف الحركة المقدرة في الفعل .

قال مقاتل : فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرة خيرا يره يوم القيامة في كتابه فيفرح به ، وكذلك من يعمل مثقال ذرة في الدنيا شرا يره يوم القيامة فيسؤه ، ومثل هذه الآية قوله { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } .

وقال بعض أهل اللغة : إن الذرة هو أن يضرب الرجل بيده على الأرض فما علق من التراب فهو ذرة ، وقيل : الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء ، والأول أولى .

و " من " الأولى عبارة عن السعداء ، ومن الثانية عبارة عن الأشقياء ، وقال محمد بن كعب : فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر فيرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر ، والأول أولى .

قال مقاتل : نزلت في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة ويقول : إنما أوعد الله النار على الكافرين .

قال ابن مسعود : هذه الآية أحكم آية في القرآن وأصدق ، وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية .

قال كعب الأحبار : لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيتان أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف { فمن يعمل } إلخ .

وروى محيي السنة عن ابن عباس : ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرا كان أو شرا إلا أراه الله تعالى : فأما المؤمن فيغفر له سيئآته ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته تحسرا ويعذب بسيئآته ، وهذا الاحتمال يساعده النظم والمعنى .

عن أنس قال : بينما أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يأكل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ نزلت عليه { فمن يعمل } إلخ ، فرفع أبو بكر يده وقال : يا رسول الله ، إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر ، فقال : " يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ، ويدخر لك ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة " . أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم في تاريخه وابن مردويه والبيهقي في الشعب .

عن أبي أسماء قال : بينما أبو بكر يتغدى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت هذه الآية ، فأمسك أبو بكر وقال : يا رسول الله ما عملنا من شر رأيناه ؟ فقال : " ما ترون مما تكرهون ، فذاك مما تجزون ، ويؤخر الخير لأهله في الآخرة " . أخرجه إسحق بن راهويه وعبد بن حميد والحاكم وابن مردويه .

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أنزلت { إذا زلزلت } وأبو بكر الصديق قاعد فبكى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " ما يبكيك يا أبا بكر " ؟ قال : تبكيني هذه السورة . فقال : " لولا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر لكم لخلق الله قوما يخطئون ويذنبون فيغفر لهم " . أخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب .

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : " الخيل لثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر " ، الحديث .

قال : وسئل عن الحمر فقال : " ما أنزل عليّ إلا هذه الآية الجامعة الفاذة ، { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } " . أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما .