والمسألة كلها وهم لا أساس له من العلم ولا من الواقع . ولا حجة فيها ولا دليل :
( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس . ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) !
هذه الأسماء . اللات . العزى . مناة . . وغيرها . وتسميتها آلهة وتسميتها ملائكة . وتسمية الملائكة إناثا . وتسمية الإناث بنات الله . . . كلها أسماء لا مدلول لها ، ولا حقيقة وراءها . ولم يجعل الله لكم حجة فيها . وكل ما لم يقرره الله فلا قوة فيه ولا سلطان له . لأنه لا حقيقة له . وللحقيقة ثقل . وللحقيقة قوة . وللحقيقة سلطان فأما الأباطيل فهي خفيفة لا وزن لها . ضعيفة لا قوة لها . مهينة لا سلطان فيها .
وفي منتصف الآية يتركهم وأوهامهم وأساطيرهم ، ويترك خطابهم ، ويلتفت عنهم كأنهم لا وجود لهم ، ويتحدث عنهم بصيغة الغائب : ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) . . فلا حجة ولا علم ولا يقين . إنما هو الظن يقيمون عليه العقيدة ، والهوى يستمدون منه الدليل . والعقيدة لا مجال فيها للظن والهوى ؛ ولا بد فيها من اليقين القاطع والتجرد من الهوى والغرض . . وهم لم يتبعوا الظن والهوى ولهم عذر أو علة : ( ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) . . فانقطع العذر وبطل التعلل !
ومتى انتهى الأمر إلى شهوة النفس وهواها فلن يستقيم أمر ، ولن يجدي هدى ؛ لأن العلة هنا ليست خفاء الحق ، ولا ضعف الدليل . إنما هي الهوى الجامح الذي يريد ، ثم يبحث بعد ذلك عن مبرر لما يريد ! وهي شر حالة تصاب بها النفس فلا ينفعها الهدى ، ولا يقنعها الدليل !
ثم أنكر عليهم ما ابتدعوه من الكذِب والافتراء في عبادةِ الأصنام وتسميتها آلهةً بقوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ }
هي أسماء لفّقتموها ، وما تتبعون إلا الظنَّ الذي تهواه أنفسكم في هذا الشأن .
أما الآن وعلى لسان محمدٍ ، فقد جاءكم من ربكم الهدى لو تتبعونه .
ومع هذا فإن هذه الأصنام لا تنفعكم ، ولا تشفع لكم عند الله ، وما هي إلا أباطيل من صنع الكهنة والسَدَنة ليأكلوا أموالَ الناس بالباطل . .
قوله تعالى : " إن هي إلا أسماء سميتموها " أي ما هي يعني هذه الأوثان " إلا أسماء سميتموها " يعني نحتموها وسميتموها آلهة . " أنتم وآباؤكم " أي قلدتموهم في ذلك . " ما أنزل الله بها من سلطان " أي ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان . " إن يتبعون إلا الظن " عاد من الخطاب إلى الخبر أي ما يتبع هؤلاء إلى الظن . " وما تهوى الأنفس " أي تميل إليه . وقراءة العامة " يتبعون " بالياء . وقرأ عيسى بن عمر وأيوب وابن السميقع " تتبعون " بالتاء على الخطاب . وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس . " ولقد جاءهم من ربهم الهدى " أي البيان من جهة الرسول أنها ليست ، بآلهة .
ولما أفهم هذا الإنكار بطلان قولهم هذا ، حصر القول الحق فيها فقال مستأنفاً : { إن } أي ما { هي } أي هذه الأصنام { إلا أسماء } أي لا حقائق لها ، فما ادعيتم لها من الإلهية ليس لها من ذلك إلا الأسماء ، وأكد ذلك بقوله مبيناً : { سميتموها } أي ابتدعتم تسميتها أنتم ، واجتث{[61722]} قولهم من أصله فقال : { أنتم وآباؤكم } أي لا غير بمجرد الهوى لم تروا منها آية ولا كلمتكم قط كلمة تعتدونها ، وعلى تقدير أن تتكلم الشياطين على ألسنتها فأي طريقة قويمة شرعت لكم وأي كلام مليح أو بليغ وصل إليكم وأي آية كبرى أرتكموها - انتهى .
ولما علم بهذا أن الله تعالى لم يأمرهم بشيء من ذلك ، صرح به نافياً أن يدل على ما وسموه به دليل فقال : { ما } ولما قدم في الأعراف ترك النافي للتدريج لما تقدم بما اقتضاه ، نفى هنا الإفعال النافي لأصل الفعل سواء كان بالتدريج أو غيره لأن المفصل لباب القرآن فهو للمقاصد ، وذلك كاف في ذم الهوى الذي هو مقصود السورة فقال : { أنزل الله } الذي له جميع صفات الكمال { بها } أي بالاستحقاق للأسماء ولا لما وسمتموها به من الإلهية ، وأعرق في النفي بقوله : { من سلطان } أي حجة تصلح مسلطاً على ما يدعي فيها .
ولما كان هذا النفي المستغرق موجباً للخصم إيساع الحيلة في ذكر دليل على أي وجه كان ، وكان هؤلاء قد أبلسوا عند سماع هذا الكلام ولم يجدوا ما يقولون ولا يجدوا ، فكان من حقهم أن يرجعوا فلم يرجعوا ، أعرض عنهم إيذاناً بشديد الغبن قائلاً : { إن } أي ما { يتبعون } أي في وقت من الأوقات في أمر هذه الأوثان بغاية جهدهم من أنها آلهة ، وأنها تشفع لهم أو تقربهم من الله { إلا الظن } أي غاية أمرهم لمن يحسن الظن بهم ، فالظن ترجيح أحد الجائزين على رغم الظان .
ولما كان الظن قد يكون موافقاً للحق مخالفاً للهوى قال : { وما تهوى الأنفس } أي تشتهي ، وهي - لما لها من النقص - لا تشتهي أبداً إلا بما يهوي بها عن غاية أوجها إلى أسفل حضيضها ، وأما المعالي وحسن العواقب فإنما تشوق إليها العقل ، قال القشيري : فالظن الجميل بالله فليس من هذا الباب ، والتباس عواقب الشخص عليه ليس من هذه الجملة بسبيل ، إنما الظن المعلول في الله وصفاته وأحكامه . { ولقد } أي العجب أنهم يفعلون ذلك والحال أنه قد { جاءهم من ربهم } أي المحسن إليهم { الهدى * } أي الكامل في بابه إلى الدين الحق الناطق بالكتاب الناطق بالصواب على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ، والرأي يقتضي أن من رأى الهدى تبعه ولو أتاه به عدوه ، فكيف إذا أتاه به من هو أفضل منه من عند من إحسانه لم ينقطع عنه قط .
قوله : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } يقول الله منددا مستنكرا ما ابتدعه المشركون من الافتراء والشرك وتسميتهم الأصنام بأسماء مكذوبة : ما هذه الأسماء التي سميتموها وهي اللات والعزى ومناة إلا أسماء مفتراة سميتموها بأسمائها المصطنعة أنتم وآباؤكم من قبلكم { ما أنزل الله بها من سلطان } يعني لم يأذن الله لكم بذلك ولا أنزل لكم بذلك حجة أو برهانا .
قوله : { إن يتبعون إلا الظن } يعني ما يتبع هؤلاء المشركون السفهاء وآباؤهم الضالون في اختلاف هذه الأسماء لآلهتهم إلا التخمين والوهم وما تميل إليه أنفسهم الجانحة من ضلال وباطل . قوله : { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } أي جاءهم من الله البيان : إذ أرسل لهم رسوله الأمين مبينا وهاديا ونذيرا .