في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

( ومن شر النفاثات في العقد ) . . والنفاثات في العقد : السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس ، وخداع الأعصاب ، والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر . وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء !

والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء ؛ ولا ينشئ حقيقة جديدة لها . ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر . وهذا هو السحر كما صوره القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام : سورة طه ( قالوا : يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى . قال : بل ألقوا . فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . فأوجس في نفسه خيفة موسى . قلنا : لا تخف إنك أنت الأعلى . وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى . . . ) .

وهكذا لم تنقلب حبالهم وعصيهم حيات فعلا ، ولكن خيل إلى الناس - وموسى معهم - أنها تسعى إلى حد أن أوجس في نفسه خيفة ، حتى جاءه التثبيت . ثم انكشفت الحقيقة حين انقلبت عصا موسى بالفعل حية فلقفت الحبال والعصي المزورة المسحورة .

وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلم بها . وهو بهذه الطبيعة يؤثر في الناس ، وينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه . . مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجههم الوجهة التي يريدها الساحر ، وعند هذا الحد نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العقد . . وهي شر يستعاذ منه بالله ، ويلجأ منه إلى حماه .

وقد وردت روايات - بعضها صحيح ولكنه غير متواتر - أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة . . قيل أياما ، وقيل أشهرا . . حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء وهو لا يأتيهن في رواية ، وحتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله في رواية ، وأن السورتين نزلتا رقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما استحضر السحر المقصود - كما أخبر في رؤياه - وقرأ السورتين انحلت العقد ، وذهب عنه السوء .

ولكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن كل فعل من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - وكل قول من أقواله سنة وشريعة ، كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه مسحور ، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك . ومن ثم تستبعد هذه الروايات . . وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة . والمرجع هو القرآن . والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد . وهذه الروايات ليست من المتواتر . فضلا على أن نزول هاتين السورتين في مكة هو الراجح . مما يوهن أساس الروايات الأخرى .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

{ ومن شر النفاثات في العقد } النفث : شبيه بالنفخ ، وقيل : هو النفخ مع ريق قليل . والنفاثات : النفوس أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين . قال ابن القيم : إنهم إذا سحروا استعانوا على تأثير فعلهم بنفث يمازجه بعض أجزاء أنفاسهم الخبيثة ؛ أي أعوذ بالله من شر هؤلاء المفسدين . وقيل النفاثات : جمع نفّاثة ؛ كعلاّمة ونسّابة ، يستعمل للمذكر والمؤنث . والعقد : جمع عقدة ؛ من العقد ضد الحل . وهي اسم لكل ما ربط وأحكم ربطه . أي أعوذ به تعالى من شر النفوس المفسدة التي تسعى بين الناس لإفساد ذات بينهم ؛ كما يفعل أولئك السحرة الذين ينفثون للتفريق بين المرء وزوجه ؛ وهم أخبث الناس نفوسا ، وشرهم عملا .

وجمهور العلماء على إثبات السحر ، وأنه حقيقة واقعة ، وسبب عادي للتأثير في المسحور . وقد عرف قديما في بابل ومصر ، وورد ذكره في آيات كثيرة من القرآن [ راجع ما قدمناه في تفسير آية 102 من سورة البقرة ] ، وقال القرطبي في شرح صحيح مسلم : دل القرآن في غير ما آية ، والسنة في غير ما حديث : على أن السحر موجود ، وله أثر في المسحور ، وهو حيل صناعية ، يتوصل إليها بالاكتساب ؛ غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها أحاد الناس . وأكثرهم بغير حقيقة ؛ كعلم السيمياء – وهو ما يفعله المشعوذون – فيعظم عند من لا يعرف ذلك . ولبعض أصناف السحر تأثير في القلوب كالحب والبغض ، والتفرقة بين المرء وزوجه ، وفي الأبدان بالألم والسقم .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

النفّاثات : الساحرات ، واحدها نفّاثَة ، وهي التي تنفُثُ بِرِيقِها على عُقَدِ الخِيطان لتسحَر .

ومن شر كلّ من يسعَى بين الناس بالإفساد ، ومنهم تلك السواحِرُ اللاتي يَنْفُثْن في العُقَد لضررِ عبادِ الله ، وليفرّقنَ بين المرءِ وزوجه .

وهناك رواياتٌ في سبب نزول هذه السورة والّتي تَليها تذكُر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سَحَرَه يهوديٌّ اسمه لَبيد بن الأعصم . فنزلت المعوِّذتان ، وزال السِّحر عندما قرأهما الرسول الكريم . ومع أن بعض هذه الروايات في الصحيح ولكنها مخالِفَة للعقيدة ، وتناقض العِصمةَ التي أُعطيت للرسول بقوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] ، والواقع أنّ هاتين السورتين مكيّتان ، وفي ذلك ما يُوهِنُ صحة الروايات .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

السادسة : قوله تعالى : { ومن شر النفاثات في العقد } يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها . شبه النفخ كما يعمل من يرقي . قال الشاعر :

أعوذ بربي من النافثا*** ت في عِضهِ العاضهِ المُعْضِهِ{[16606]}

وقال متمم بن نويرة :

نَفَثْتَ في الخيط شبيهَ الرُّقَى *** من خشيةِ الجِنَّة والحاسدِ

وقال عنترة :

فإن يَبْرَأْ فلم أَنْفُثْ عليه *** وإن يُفْقَدْ فَحُقَّ لَهُ الفُقُودُ

السابعة : وروى النسائي عن أبي هريرة قال : فال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عقد عقدة ثم نفث فيها ، فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق{[16607]} شيئا وكل إليه " .

واختلف في النفث عند الرقي فمنعه قوم ، وأجازه آخرون . قال عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ، ولا يمسح ، ولا يعقد .

قال إبراهيم : كانوا يكرهون النفث في الرقى .

وقال بعضهم : دخلت على الضحاك وهو وجع ، فقلت : ألا أعَوِّذُك يا أبا محمد ؟ قال : لا شيء من ذلك ، ولكن لا تنفث ، فعوذته بالمعوذتين .

وقال ابن جريج : قلت لعطاء : القرآن ينفخ به أو ينفث ؟ قال : لا شيء من ذلك ، ولكن تقرؤه هكذا ، ثم قال بعد : انفث إن شئت .

وسئل محمد بن سيرين عن الرقية ينفث فيها ، فقال : لا أعلم بها بأسا .

وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة .

روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث في الرقية ، رواه الأئمة ، وقد ذكرناه أول السورة وفي " الإسراء " . وعن محمد بن حاطب أن يده احترقت فأتت به أمه النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام ، زعم أنه لم يحفظه . وقال محمد بن الأشعث : ذهب بي إلى عائشة رضي الله عنها وفي عيني سوء ، فرقتني ونفثت .

وأما ما روي عن عكرمة من قوله : لا ينبغي للراقي أن ينفث ، فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ به ، فلا يكون بنفسه عُوذَة . وليس هذا هكذا ؛ لأن النفث في العقد إذا كان مذموما لم يجب أن يكون النفث بلا عقد مذموما . ولأن النفث في العقد إنما أريد به السحر المضر بالأرواح ، وهذا النفث لاستصلاح الأبدان ، فلا يقاس ما ينفع بما يضر . وأما كراهة عكرمة المسح فخلاف السنة . قال علي رضي الله عنه : اشتكيت ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول : اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني ، وإن كان متأخرا فاشفني وعافني ، وإن كان بلاء فصبرني . فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( كيف قلت ) ؟ فقلت له ، فمسحني بيده ، ثم قال : " اللهم اشفه " ، فما عاد ذلك الوجع بعد . وقرأ عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن سابط وعيسى بن عمر ورويس عن يعقوب ( من شر النافثات ) في وزن ( فاعلات ) . ورويت عن عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما . وروي أن نساء سحرن النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة ، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية . قال ابن زيد : كن من اليهود ، يعني السواحر المذكورات . وقيل : هن بنات لبيد بن الأعصم .


[16606]:العضه (كعنب): الكذب والسحر والبهتان. والعاضه: الساحر.
[16607]:أي علق شيئا من التعاويذ والتمائم معتقدا أنها تجلب إليه نفعا أو تدفع عنه ضررا. وقيل: المراد تمائم الجاهلية مثل الحرازات وأظفار السباع. أما ما يكون من القرآن والأسماء الإلهية فهو خارج عن هذا الحكم. (شرح سنن النسائي).
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

ولما كان كل ساحر شريراً بخلاف الغاسق والحاسد ، وكان السحر أضر من الغسق والحسد من جهة أنه شر كله ، ومن جهة أنه أخفى من غيره ، وكان ما هو منه من النساء أعظم ؛ لأن مبنى صحته وقوة تأثيره قلة العقل والدين ، ورداءة الطبع ، وضعف اليقين ، وسرعة الاستحالة ، وهن أعرق في كل من هذه الصفات وأرسخ ، وكان ما وجد منه من جمع وعلى وجه المبالغة أعظم من غيره عرف وبالغ وجمع وأنث ليدخل فيه ما دونه من باب الأولى ، فقال تعالى : { النفّاثات } أي النفوس الساحرة ، سواء كانت نفوس الرجال أو نفوس النساء ، أي التي تبالغ في النفث ، وهو التفل ، وهو النفخ مع بعض الريق ، هكذا في الكشاف . وقال صاحب القاموس : وهو كالنفخ ، وأقل من التفل ، وقال : تفل : بزق . وفي التفسير عن الزجاج أنه التفل بلا ريق . { في العقد * } أي تعقدها للسحر في الخيوط وما أشبهها ، وسبب نزول ذلك أن يهودياً سحر النبي صلى الله عليه وسلم فمرض كما ياتي تخريجه ، فإن السحر يؤثر بإذن الله تعالى المرض ، ويصل إلى أن يقتل ، فإذا أقر الساحر أنه قتل بسحره- وهو مما يقتل غالباً- قتل بذلك عند الشافعي ، ولا ينافي قوله تعالى :

{ والله يعصمك من الناس }[ المائدة : 67 ] ، كما مضى بيانه في المائدة ، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه مسحور ، فإنهم ما أرادوا إلا الجنون ، أو ما يشبهه من فساد العقل واختلاله ، والمبالغة في أن كل ما يقوله لا حقيقه له ، كما أن ما ينشأ عن المسحور يكون مختلطاً لا تعرف حقيقته .