( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) . .
هو هذا القرآن وما وراءه من التكليف . . والقرآن في مبناه ليس ثقيلا فهو ميسر للذكر . ولكنه ثقيل في ميزان الحق ، ثقيل في أثره في القلب : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله )فأنزله الله على قلب أثبت من الجبل يتلقاه . .
وإن تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة واستيعابه ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل .
وإن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى المجردة ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل .
وإن الإتصال بالملأ الأعلى وبروح الوجود وأرواح الخلائق الحية والجامدة على النحو الذي تهيأ لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل .
وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب ، ولا تلفت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل .
وإن قيام الليل والناس نيام ، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها ؛ والإتصال بالله ، وتلقي فيضه ونوره ، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه ، وترتيل القرآن والكون ساكن ، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة ؛ واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي . . إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل ، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل ! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل ، ويعصمه من وسوسة الشيطان ، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير .
{ إنا سنلقي عليك . . . } أي لا تبال مشقة الذي أوجبناه عليك ؛ لأنه مهما بلغ ، أسهل مما سيرد عليك في الوحي المنزل من التكاليف الكثيرة ، فانهض به ، ومرن به نفسك على تحمل المشاق . والمراد من القول : وحي القرآن . و " ثقيلا " أي على المكلفين ما فيه من الفرائض والحدود ومنها الجهاد . أو شديدا عليك تحمله ؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم يلقى من الوحي شدة عظيمة .
{ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : شديداً . قال الحسن : إن الرجل ليهذ السورة ولكن العمل بها ثقيل . وقال قتادة : ثقيل والله فرائضه وحدوده . وقال مقاتل : ثقيل لما فيه من الأمر والنهي والحدود . وقال أبو العالية : ثقيل بالوعد والوعيد والحلال والحرام . وقال محمد بن كعب : ثقيل على المنافقين . وقال الحسين بن الفضل : قولاً خفيفاً على اللسان ثقيلاً في الميزان . وقال الفراء : ثقيل ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربنا . وقال ابن زيد : هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد السرخسي ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم " أن الحرث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس ، وهذا أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول . قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا " .
قوله تعالى : " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " هو متصل بما فرض من قيام الليل ، أي سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولا ثقيلا يثقل حمله ؛ لأن الليل للمنام ، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على النفس ومجاهدة للشيطان ، فهو أمر يثقل على العبد . وقيل : إنا سنوحي إليك القرآن ، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه . قال قتادة : ثقيل والله فرائضه وحدوده . مجاهد : حلاله وحرامه . الحسن : العمل به . أبو العالية : ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام . محمد بن كعب : ثقيلا على المنافقين . وقيل : على الكفار ؛ لما فيه من الاحتجاج عليهم ، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم ، والكشف عما حرفه أهل الكتاب . السدي : ثقيل بمعنى كريم ؛ مأخوذ من قولهم : فلان ثقيل علي ، أي يكرم علي . الفراء : " ثقيلا " رزينا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربنا . وقال الحسين بن الفضل : ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ، ونفس مزينة بالتوحيد . وقال ابن زيد : هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة . وقيل : " ثقيلا " أي ثابتا كثبوت الثقيل في محله ، ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز ، لا يزول إعجازه أبدا . وقيل : هو القرآن نفسه ، كما جاء في الخبر : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض ، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى{[15505]} عنه . وفي الموطأ وغيره أنه عليه السلام سئل : كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : ( أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ) . قالت عائشة رضي الله عنها : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا .
قال ابن العربي : وهذا أولى ؛ لأنه الحقيقة ، وقد جاء : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " [ الحج : 78 ] . وقال عليه السلام : " بعثت بالحنيفية السمحة " . وقيل : القول في هذه السورة : هو قول لا إله إلا الله ؛ إذ في الخبر : خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان . ذكره القشيري .