فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا} (5)

وقوله { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } اعتراض بين الأمر بقيام الليل وبين تعليله بقوله الآتي { إن ناشئة الليل } والقصد بها الاعتراض تسهيل ما كلفه من القيام كأنه يقول إن قيام الليل وإن كان عليك فيه مشقة لكنه أسهل من غيره من التكاليف فإنا سنلقي الخ . وقال السمين هذه الجملة مستأنفة ، وقال الزمخشري هذه الآية اعتراض ويعني الاعتراض من حيث المعنى لا من حيث الصناعة ، والمعنى سنوحي وسننزل إليك القرآن وهو قول ثقيل ، وكلام عظيم ذو خطر وعظمة ، لأنه كلام رب العالمين وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل .

قال قتادة : ثقيل والله فرائضه وحدوده ، وقال مجاهد : حلاله وحرامه ، وقال الحسن : العمل به ، وقال أبو العالية : ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام ، وقال محمد بن كعب : ثقيل على المنافقين والكفار بما فيها من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالهم وهتك أسرارهم ، وبطلان أديانهم وسب آلهتهم ، وقال السدي : ثقيل بمعنى كريم من قولهم فلان ثقل عليّ أي كرم عليّ ، قال الفراء " : ثقيلا أي رزينا ليس بالخفيف السفساف ، لأنه كلام ربنا ، وقال الحسين بن الفضل : ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ، ونفس مزينة بالتوحيد ، وقيل هو خفيف على اللسان بالتلاوة ثقيل في الميزان بالثواب يوم القيامة ، وقيل ثقيل أي ثابت كثبوت الثقيل في محله ، ومعناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبدا ، وقيل وصفه بكونه ثقيلا حقيقة لما ثبت " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها ( {[1650]} ) على الأرض فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه " أخرجه أحمد وعبد بن حميد والحاكم وصححه عن عائشة ( {[1651]} ) .

وقيل ثقيلا بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بادراك فوائده ومعانيه بالكلية ، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته ، والفقهاء بحثوا عن أحكامه وكذا أهل اللغة والنحو والمعاني والبيان ، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدمون ، فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله ، والأولى أن جميع هذه المعاني فيه ، وقال القشيري القول الثقيل هو قول لا إله إلا الله لأنه ورد في الخبر " لا إله إلا الله خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان " .


[1650]:الجران: باطن العنق.
[1651]:رواه البخاري في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول: قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه يتفصّد عرقا.