السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا} (5)

{ إنا } أي : بما لنا من العظمة { سنلقي } أي : بوعد لا خلف فيه { عليك قولاً } أي : قرآناً ، واختلف في معنى قوله تعالى { ثقيلاً } فقال قتادة رضي الله عنه : ثقيل والله فرائضه وحدوده . وقال مجاهد رضي الله عنه : حلاله وحرامه . وقال محمد بن كعب رضي الله عنه : ثقيلاً على المنافقين لأنه يهتك أسرارهم ويبطل أديانهم . وقيل : على الكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالهم وسب آلهتهم .

قال السدّي رضي الله عنه : ثقيلاً بمعنى كريم مأخوذ من قولهم : فلان ثقل عليّ ، أي : كرم عليّ . وقال الفراء : ثقيلاً ، أي رزيناً . وقال الحسن بن الفضل : ثقيلاً أي لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد . وقال ابن زيد : هو والله ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا ثقل في الميزان يوم القيامة . وقيل : ثقيل أي ثابت كثبوت الثقيل في محله . ومعناه : إنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً .

وقيل : { ثقيلاً } بمعنى : أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته ، والفقهاء بحثوا في أحكامه ، وكذا أهل اللغة والنحو وأرباب المعاني ، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدّمون ، فعلمنا أنّ الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله ، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله .

والأولى أن تحمل هذه المعاني كلها فيه . وقيل : المراد هو الوحي كما جاء في الخبر «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها أي : صدرها على الأرض فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه » . وعن الحارث بن هشام أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس ، وهذا أشدّ عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول . قالت عائشة رضي الله عنها : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصد عرقاً ، أي : يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد . وقوله فينفصم عني أي : ينفصل عني ويفارقني ، وقد وعيت أي : حفظت ما قال . وقال القشيري : القول الثقيل هو قول لا إله إلا الله لأنه ورد في الخبر : «لا إله إلا الله خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان » . وقال الزمخشري : هذه الآية اعتراض ثم قال : وأراد بهذا الاعتراض أنّ ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن لأنّ الليل وقت السبات والراحة والهدوء ، فلا بدّ لمن أحياه من مضارّة لطبعه ومجاهدة لنفسه ا . ه . فالاعتراض من حيث المعنى لا من حيث الصناعة ، وذلك أنّ قوله تعالى : { إنّ ناشئة الليل } أي : القيام بعد النوم { هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا } .