تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا} (5)

الآية5 : وقوله تعالى : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } ولم يقل على من ؟ فجائز أن يكون الثقل راجعا إلى الكفرة ، ويكون الثقيل الأمر بالجهاد لأنه اشتد على الفريقين جميعا ، وأيس الكفار من المسلمين أن يعودوا إلى ملتهم ، قال الله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا }[ المائدة : 3 ] وتخلف المنافقون{[22387]} عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فجائز أن يكون قوله : { ثقيلا } على الكفرة والمنافقين ، وكذا على أهل الكبائر ثقيل أيضا لأنهم لم يتمنوا أن ينزل عليه الكتاب .

وأما على المسلمين فليس ثقيلا{[22388]} ، بل هو كما قال تعالى : { ولقد يسرنا القرآن للذكر }[ القمر : 17 ] .

وجائز أن يصرف ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه أمر بتبليغ الرسالة إلى الفراعنة والخلق كافة ، وفي القيام بالتبليغ إلى الفراعنة مخاطرة بالروح والجسد ؛ أمر ثقيل صعب جدا ، أو يكون ذلك منصرفا إلى قيام الليل ، فيكون معنى{[22389]}{ قولا ثقيلا } أي الوفاء بما يوجبه ذلك القول .

وجائز أن يكون منصرفا إلى أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأنصاره ، فيكون قوله : { ثقيلا } من الوجه الذي كلفوا القيام بفرائضه وحفظ حدوده وتحليل حلاله واجتناب حرامه .

وزعمت/605 – ب/ الباطنية بأن القول الثقيل هو أن كلف الناطق{[22390]} ، وهو الرسول عليه السلام تفويض الأمر إلى الأساس ، وهو الباب ، وكذلك الأساس ، والباب هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عندهم ، وهم يسمون الرسل{[22391]} عليه السلام نطّقا ، ويقولون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ التنزيل إلى الخلق .

فلما بلّغ التنزيل إليهم ، واستغنوا عنه ، احتاجوا إلى من يعلمهم التأويل ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يسند أمر التأويل إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ليكون هو الذي يتولى تعليم الخلق تأويله ، فذلك{[22392]} هو القول الثقيل إذا أمر أن يسند إلى غيره ، فاشتد عليه إذ صار غيره وليّ الأمر ، وبقي هو ساكنا لا ينطق .

فيقال لهم : إن في الأمر بإسناد الأمر إلى من ذكرتم تخفيف الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بزعمكم ، لأن من مذهبكم أنه إذا فوض الأمر إلى عليّ رضي الله عنه قبض هو عليه السلام وصورة القبض عندكم أن تميز الصورة الروحانية من الصورة الجسدانية التي كانت محتبسة في الصورة الجسدانية ، ثم تتلف الصورة الجسدانية ، وتبعث الصورة الروحانية النورانية إلى دار الكرامة والحبور . والخلاص{[22393]} من الحبس لم يشتد{[22394]} عليه ، ولم يثقل ، بل كان فيه ما يرغبه إلى التفويض ، ويدعوه إليه .

ومن مذهب الباطنية أنهم لا يعلمون أحدا مذهبهم إلا بعد أن يحلفوه بالأيمان الغليظة ، بألا يخبر به أحدا إشفاقا على أنفسهم .

ولو كان الأمر على ما قدّروا أن التلف يرد إلى الصورة الجسدانية التي هي سبب لحبس الصورة الروحانية ، وإذا تلفت ردّت الروحانية إلى دار فيها كل أنواع السرور . فما الذي يحوجهم إلى الاستخلاف ؟ وما بالهم يشفقون على أنفسهم ، وليس في إتلاف أنفسهم إلا الخلاص من الحبس والوصول إلى الكرامات .

ومن هذا وصفه حق عليه الموت ليعلم أنهم يعاملون الخلق على خلاف ما يوجبه اعتقادهم .

ولو كان ما اعتقدوه حقا لما استجازوا مخالفته .

ولكن الذي دعاهم إلى ما ذكرنا تسويل الشيطان وتزيينه في قلوبهم ، وما مثلهم إلا مثل اليهود الذين ادّعوا أن الدار الآخرة لهم خالصة من دون الناس ، فقيل لهم : { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين }[ البقرة : 94 ] لأنكم لا تصلون إلى الآخرة إلا بالموت . فإن كنتم محقين في دعواكم فتمنوا الموت لتصلوا إليها .

فكان في امتناعهم عن التمني ما يظهر كذبهم ، ويبطل مقالتهم ، ويبين تمويههم .

فكذلك في إشفاق هؤلاء على أنفسهم من الهلاك إظهار وإنباء أنهم قصدوا به قصد التمويه على الضعفة ليصلوا إلى المأكلة ، ويتوسعوا{[22395]} به في أمر دنياهم{[22396]} من غير حجة لهم في ذلك .

وبهذا الفصل الذي ذكرنا يحتج على الثنوية ؛ فليس{[22397]} من مذهبهم تحريم القتل والذبح [ والحق أن ]{[22398]} يرى القتل والذبح مباحين ، لأن من مذهبهم أن العالم إنما هو بأوضاح النور والظلمة ، فما من جزء من أجزاء النور إلا وهو مشوب بجزء واحد من أجزاء الظلمة ، وكانا متباينين ، فغلبت الظلمة على النور ، فامتزجت به ، فصارت الظلمة ملابسة للنور .

ومعلوم أن في القتل تخليص أجزاء[ النور من أجزاء الظلمة ]{[22399]} ، لأن في القتل إزالة السمع والبصر والعقل ، ومعلوم بأن السمع{[22400]} والبصر في هذه الأشياء ، إذ بها رؤية الأنوار . فإذا امتازت هذه الأشياء من الجسد ، وأبقي الجسد الظلماتيّ ، لا يبصر شيئا ، فقد يتوصل جوهر النور إلى حرصه ومقصوده بالقتل ، وصار إلى مقرّه .

فإذا كان القتل يوصله إلى حرصه ، ويخلصه من وثاق الظلمة وحبسه ، فقد أحسن إليه بالقتل والذبح ، فلا يجيء أن يحرم القتل على مذهبهم ، بل يجب أن يمدح المرء على ذلك الفعل ، ويستصوب ذلك منه .

وقال القتبيّ : القول الثقيل كلام الله تعالى ، وثقله هو تبجيله وتعظيم حرمته ، ليس ككلام{[22401]} السفهاء الذي{[22402]} لا يكترث له ، ولا يؤبه به .

وقال الزجاج : الثقيل الوزين ، أي الذي له وزن وقدر في القلوب ، الذي يجب أن يعظم ، ويوقر ، وليس بالقول الذي يستصغر .

وجائز أن يكون القول الثقيل ، هو الحق على ما روي في بعض الأخبار " أن الحقّ ثقيل مرّ ، والباطل خفيف وفر " [ طرفه الأول في كشف الخفاء للعجلوني 1153 وفي تاريخ ابن عساكر 5/138 ] .

وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : حق لميزان ، لا يوضع فيه إلا الخير ، أن يثقل ، وحق لميزان ، لا يوزن[ به ]{[22403]} إلا الباطل ، أن يخف ، فيكون ثقله العمل بما فيه .

وجائز أن يكون القول الثقيل ، هو تكليف القيام عامة الليل .


[22387]:في الأصل و م: المنافقين.
[22388]:في الأصل و م: ثقيل.
[22389]:في الأصل و م: معناه.
[22390]:من م، في الأصل: الباطن.
[22391]:من م، في الأصل: الرسول.
[22392]:في الأصل و م: فكذلك.
[22393]:في الأصل و م: والإخلاص.
[22394]:أدرج بعدها في الأصل و م: ذلك.
[22395]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: وهم سعوا.
[22396]:من م، في الأصل: دنياه.
[22397]:في الأصل و م: فإن.
[22398]:في الأصل و م: وحق من.
[22399]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: النوراني من حبس الظلمات.
[22400]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: النور.
[22401]:في الأصل و م: كلام.
[22402]:في الأصل و م: الذين.
[22403]:ساقطة من الأصل و م.