( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) . .
وهذه إشارة من الجن إلى ما كان متعارفا في الجاهلية - وما يزال متعارفا إلى اليوم في بيئات كثيرة - من أن للجن سلطانا على الأرض وعلى الناس ، وأن لهم قدرة على النفع والضر ، وأنهم محكمون في مناطق من الأرض أو البحر أو الجو . . إلى آخر هذه التصورات . مما كان يقتضي القوم إذا باتوا في فلاة أو مكان موحش ، أن يستعيذوا بسيد الوادي من سفهاء قومه ، ثم يبيتون بعد ذلك آمنين !
والشيطان مسلط على قلوب بني آدم - إلا من اعتصم بالله فهو في نجوة منه - وأما من يركن إليه فهو لا ينفعه . فهو عدو له . إنما يرهقه ويؤذيه . . وهؤلاء النفر من الجن يحكون ما كان يحدث : ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) . . ولعل هذا الرهق هو الضلال والقلق والحيرة التي تنوش قلوب من يركنون إلى عدوهم ، ولا يعتصمون بالله منه ويستعيذون ! كما هم مأمورون منذ أبيهم آدم وما كان بينه وبين إبليس من العداء القديم !
والقلب البشري حين يلجأ إلى غير الله ، طمعا في نفع ، أو دفعا لضر ، لا يناله إلا القلق والحيرة ، وقلة الاستقرار والطمأنينة . . . وهذا هو الرهق في أسوأ صوره . . الرهق الذي لا يشعر معه القلب بأمن ولا راحة !
إن كل شيء - سوى الله - وكل أحد ، متقلب غير ثابت ، ذاهب غير دائم ، فإذا تعلق به قلب بقي يتأرجح ويتقلب ويتوقع ويتوجس ؛ وعاد يغير اتجاهه كلما ذهب هذا الذي عقد به رجاءه . والله وحده هو الباقي الذي لا يزول . الحي الذي لا يموت . الدائم الذي لا يتغير . فمن اتجه إليه اتجه إلى المستقر الثابت الذي لا يزول ولا يحول :
{ وأنه كان رجال من الإنس . . . } أي وأنه كان في الجاهلية رجال من الإنس يستعيذون برجال من الجن حين ينزلون في أسفارهم بمكان موحش ، ويقول قائلهم : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ؛
فيبيت في جواره حتى يصبح . وأول من فعل ذلك قوم من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشت هذه الجهالة في العرب ؛ فلما جاء الإسلام عاذوا بالله تعالى ، وتركوا العوذ بالجن{ فزادوهم } فزاد الإنسن الجن بهذا العوذ{ رهقا } طغيانا وسفها وجراءة عليهم . أو إثما واستحلالا لمحارم الله . وأصل الرهق : غشيان المحظور . ومراد هذا النفر : أنهم لما سمعوا القرن أيقنوا بخطأ الإنس في هذا العوذ ، وبضلال الجن في الطغيان والإثم .
يعوذون : يستجيرون ويلتجئون . كان الرجل في الجاهلية إذا أمسى في مكان خالٍ يقول : أعوذُ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، ولا يعوذ بالله .
رهقا : إثما ، وحَمْلَ المرء على ما لا يطيق .
وكذلك أخبر قومك يا محمد ، أن بعض الجن يقولون إن رجالاً من الإنس كانوا يستعيذون برجال من الجن ولا يستعيذون بالله فزادهم الجن ضلالا وطغيانا .
{ 6 } { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا }
أي : كان الإنس يعبدون الجن ويستعيذون بهم عند المخاوف والأفزاع{[1249]} ، فزاد الإنس الجن رهقا أي : طغيانا وتكبرا لما رأوا الإنس يعبدونهم ، ويستعيذون بهم ، ويحتمل أن الضمير في زادوهم يرجع إلى الجن ضمير الواو{[1250]} أي : زاد الجن الإنس ذعرا وتخويفا لما رأوهم يستعيذون بهم ليلجئوهم إلى الاستعاذة بهم ، فكان الإنسي إذا نزل بواد مخوف ، قال : " أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه " .
ولما علم من قولهم أن مستند الضلال ظنون وشبه متى حكت على محك النظر بان فسادها ، وأظهر{[69009]} زيفها نقادها ، أتبعه شبهة أخرى زادت الفريقين ضلالاً بعضهم ببعض للتقيد بالمحسوسات ، والوقوف مع الخيالات الموهومات ، فقال حاكياً عنهم تنبيهاً على عدم الاغترار بالمدح والإطراء الموجبين للغلط في النفس وعلى أنه يجب{[69010]} التثبت حتى لا يقع الغلط في الأسباب المسخرة فيظن أنها مؤثرة فيتجاوز بها الحد عن رتبة الممكنات إلى رتبة الواجب ، مؤكدين لأنه لا يكاد يصدق أن الجن يخاطبهم الإنس فيكارمونهم : { وإنه } أي الشأن { كان رجال } أي ذوو قوة وبأس { من الإنس } أي النوع الظاهر في عالم الجنس{[69011]} { يعوذون } أي يلجؤون ويعتصمون - خوفاً على أنفسهم وما معهم - إذا نزلوا وادياً { برجال من الجن } أي القبيل المستتر عن الأبصار فإنه كان القوم منهم إذا نزلوا وادياً أو غيره من القفر تعبث بهم{[69012]} الجن في بعض الأحيان لأنه لا مانع لهم{[69013]} منهم من ذكر الله تعالى ولا دين صحيح ، ولا كتاب من الله صريح ، فحملهم ذلك على أن يستجيروا بعظمائهم{[69014]} فكان الرجل يقول عند خوفه : إني أعوذ بعظيم هذا الوادي من{[69015]} شر سفهاء قومه أو{[69016]} نحو هذا فلا يرى إلا خيراً{[69017]} ، وربما هدوه إلى الطريق وردوا عليه ضالته ، فكان{[69018]} ذلك فتنة للإنس باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه ، فتبعوهم في الضلال ، وفتنة الجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا : الجن والإنس ، فيضلوا ويضلوا ، ولذلك سبب عنه قوله : { فزادوهم } أي الإنس{[69019]} الجن باستعاذتهم هذه المرتب عليها إعاذتهم ، والجن{[69020]} الإنس بترئيس الإنس لهم وخوفهم منهم { رهقاً * } أي ضيقاً وشدة وغشياناً لما هم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منها الضيق والشدة ، وأصل الرهق غشيان بقوة وشدة وقهر ، وقال البغوي{[69021]} : والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم .
كما يتفق لمن يسلك من أهل التصوف على غير أصل فيرى في أثناء السير أنواراً وأشياء تعجبه شيطانية فيظنها رحمانية ، فيقف عندها ويأنس بها لفساد في أصل جبلته{[69022]} نشأ عنه{[69023]} سوء مقصده ، فربما كان ذلك سبباً لكفره فيزداد هو وأمثاله من الإنس {[69024]}ضلالاً ويزداد{[69025]} من أضله من الجن ضلالاً وإضلالاً{[69026]} وعتواً ، ويزداد الفريقان{[69027]} بعداً عن اللجأ إلى الله وحده ، ولقد أغنانا{[69028]} الله سبحانه وتعالى بالقرآن والذكر المأخوذ عن خير خلقه بشرطه في أوقاته عن كل شيء كما أخبر{[69029]} صلى الله عليه وسلم أن من قال عند إتيانه الخلاء " بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " ستر عن الجن ، وأن من قال إذا أتى امرأته " اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني " فأتاه ولد لم يقدر الشيطان أن يضره ، ومن أذن أمن تغول الغيلان ، وروى الترمذي{[69030]} وأحمد{[69031]} - قال المنذري : ورواته رواة{[69032]} الصحيح - عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يأخذ مضجعه فيقرأ سورة من كتاب الله تعالى إلا وكل الله تعالى به ملكاً فلا يقربه شيء يؤذيه حتى يهب متى هب " وللطبراني في الكبير - قال المنذري : ورواته رواة الصحيح إلا المسيب بن واضح ، قال الهيثمي{[69033]} : وهو ضعيف وقد وثق - عن عبد الله بن بسر{[69034]} رضي الله عنه قال : " خرجت من حمص فآواني الليل إلى البقيعة{[69035]} فحضرني من أهل الأرض فقرأت هذه الآية من الأعراف
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض{[69036]} في ستة أيام ثم استوى على العرش }{[69037]}[ الأعراف : 54 ] إلى آخر الآية ، فقال بعضهم لبعض{[69038]} : احرسوه الآن حتى يصبح ، فلما أصبحت ركبت دابتي " والأحاديث في هذا كثيرة في آية{[69039]} الكرسي وغيرها ، وكذا حكايات من اعترضه بعض الجن فلما قرأ ذهب عنه .
قوله : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } يعوذون أي يلجأون ، من العوذ والمعاذ والتعوّذ وهو الالتجاء {[4651]} فقد كان الرجل من الإنس إذا أمسى بقفر قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه { فزادوهم رهقا } والرهق ، معناه ، السفه والخفّة وركوب الشر وغشيان المحارم . ومنه الإرهاق وهو حمل الإنسان على ما لا يطيقه {[4652]} والمعنى : أن الإنس زادوا الجن باستعاذتهم بهم طغيانا وكبرا وسفها فازدادت الجن على الإنس بذلك جراءة . وقيل : إن الجن زادوا الإنس غيّا وإثما ، إذ أضلوهم حتى استعاذوا بهم .