الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالٞ مِّنَ ٱلۡإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٖ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَزَادُوهُمۡ رَهَقٗا} (6)

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي في الضعفاء والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن عساكر عن كردم بن أبي السائب الأنصاري رضي الله عنه قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة ، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم ، فوثب الراعي ، فقال : يا عامر الوادي أنا جار دارك ، فنادى منادٍ لا تراه يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم ، وأنزل الله على رسوله بمكة { وأنه كان رجال من الإِنس يعوذون برجال من الجن } الآية .

وأخرج ابن سعد عن أبي رجاء العطاردي من بني تميم قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رعيت على أهلي وكفيت مهنتهم ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم خرجنا هراباً فأتينا على فلاة من الأرض ، وكنا إذا أمسينا بمثلها قال شيخنا : إنا نعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة ، فقلنا ذاك ، فقيل لنا : إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فمن أقرّ بها أمن على دمه وماله ، فرجعنا فدخلنا في الإِسلام قال أبو رجاء : إني لأرى هذه الآية نزلت فيّ وفي أصحابي { وأنه كان رجال من الإِنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } .

وأخرج أبو نصر السجزي في الإِبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس أن رجلاً من بني تميم كان جريئاً على الليل والرجال ، وأنه سار ليلة فنزل في أرض مجنة ، فاستوحش ، فعقل راحلته ، ثم توسد ذراعيها وقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر أهله ، فأجاره شيخ منهم ، وكان منهم شاب وكان سيداً في الجن ، فغضب الشاب لما أجاره الشيخ ، فأخذ حربة له قد سقاها السم لينحر ناقة الرجل بها فتلقاه الشيخ دون الناقة فقال :

يا مالك بن مهلهل *** مهلاً فذلك محجري وإزاري

عن ناقة الإِنسان لا تعرض لها *** واختر إذا ورد المها أثواري

إني ضمنت له سلامة رحله *** فاكفف يمينك راشداً عن جاري

ولقد أتيت إلى ما لم أحتسب *** إلا رعيت قرابتي وجواري

تسعى إليه بحربة مسمومة *** أفّ لقربك يا أبا اليقطاري

لولا الحياء وان أهلك جيرة *** لتمزقتك بقوة أظفاري

فقال له الفتى :

أتريد أن تعلوا وتخفض ذكرنا *** في غير مزرية أبا العيزار

متنحلاً أمراً لغيرك فضله *** فارحل فإن المجد للمرار

من كان منكم سيداً فيما مضى *** إن الخيار هم بنو الأخيار

فاقصد لقصدك يا معيكر إنما *** كان المجير مهلهل بن وبار

فقال الشيخ : صدقت كان أبوك سيدنا وأفضلنا ، دع هذا الرجل لا أنازعك بعده أحداً ، فتركه ، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فقص عليه القصة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أصاب أحداً منكم وحشة ، أو نزل بأرض مجنة فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، ومن فتن الليل ، ومن طوارق النهار إلا طارقاً يطرق بخير » فأنزل الله في ذلك { وأنه كان رجال من الإِنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } قال أبو نصر : غريب جداً لم نكتبه إلا من هذا الوجه .

وأخرج الخرائطي في كتاب الهواتف عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أن رجلاً من بني تميم يقال له : رافع بن عمير حدث عن بدء إسلامه قال : إني لأسير برمل عالج ذات ليلة إذا غلبني النوم فنزلت عن راحلتي وأنختها ونمت وقد تعوذت قبل نومي فقلت : أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن فرأيت رجلاً في منامي بيده حربة يريد أن يضعها في نحر ناقتي ، فانتبهت فزعاً فنظرت يميناً وشمالاً فلم أر شيئاً ، فقلت : هذا حلم . ثم عدت فغفوت فرأيت مثل ذلك فانتبهت فدرت حول ناقتي فلم أر شيئاً ، فإذا ناقتي ترعد . ثم غفوت فرأيت مثل ذلك فانتبهت فرأيت ناقتي تضطرب ، والتفتّ فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيته في المنام بيده حربة ورجل شيخ ممسك بيده يرده عنها فبينما هما يتنازعان ، إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش فقال الشيخ للفتى : قم فخذ أيها شئت فداء لناقة جاري الإِنسي . فقام الفتى فأخذ منها ثوراً عظيماً وانصرف ، ثم التفت إلى الشيخ وقال : يا هذا إذا نزلت وادياً من الأودية فخفت هوله فقل : أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي ، ولا تعذ بأحد من الجن ، فقد بطل أمرها . فقلت له : ومن محمد هذا ؟ قال : نبي عربي لا شرقي ولا غربي بعث يوم الاثنين . قلت : فأين مسكنه ؟ قال : يثرب ذات النخل . فركبت راحلتي حين برق الصبح وجددت السير حتى أتيت المدينة ، فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحدثني بحديثي قبل أن أذكر له منه شيئاً ودعاني إلى الإِسلام فأسلمت . قال سعيد بن جبير رضي الله عنه : وكنا نرى أنه هو الذي أنزل الله فيه { وأنه كان رجال من الإِنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } .

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وأنه كان رجال من الإِنس يعوذون برجال من الجن } قال : كان رجال من الإِنس يبيت أحدهم في الجاهلية بالوادي فيقول : أعوذ بعزيز هذا الوادي { فزادوهم رهقاً } قال : إثماً .

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن في قوله : { وأنه كان رجال من الإِنس يعوذون برجال من الجن } قال : كان أحدهم إذا نزل الوادي يقول : أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيأمن في نفسه ليلته أو يومه .

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { وأنه كان رجال من الإِنس يعوذون برجال من الجن } قال : كانوا يقولون إذا هبطوا وادياً : نعوذ بعظيم هذا الوادي { فزادوهم رهقاً } قال : زادوا الكفار طغياناً .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله : { وأنه كان رجال من الإِنس يعوذون برجال من الجن } قال : كانوا في الجاهلية إذا نزلوا منزلاً قالوا : نعوذ بعزيز هذا المكان { فزادوهم رهقاً } يقول : خطيئة وإثماً .

وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم { وأنه كان رجال من الإِنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } قال : كان القوم إذا نزلوا وادياً قالوا : نعوذ بسيد أهل هذا الوادي فقالوا : نحن لا نملك لنا ولا لكم ضراً ولا نفعاً ، وهؤلاء يخافونا فاحتووا عليهم .

وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس { وأنه كان رجال من الإِنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } قال : كانوا يقولون : فلان رب هذا الوادي من الجن ، فكان أحدهم إذا دخل ذلك الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله ، فيزيده بذلك { رهقاً } أي خوفاً .

وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : إن ناساً في الجاهلية كانوا إذا أتوا وادياً للجن ناد منادي الإِنس إلى خيار الجن أن احبسوا عنا سفهاءكم فلم يغنهم ما وعظوا به { فزادوهم رهقاً } .

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان القوم في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه فلا يكونون بشيء أشد ولعاً منهم بهم ، فذلك قوله : { فزادوهم رهقاً } .

وأخرج ابن مردويه من طريق معاوية بن قرة عن أبيه قال : ذهبت لأسلم حين بعث الله محمداً مع رجلين أو ثلاثة في الإِسلام ، فأتيت الماء حيث يجتمع الناس ، فإذا الناس براعي القرية الذي يرعى لهم أغنامهم ، فقال : لا أرعى لكم أغنامكم . قالوا : لم ؟ قال : يجيء الذئب كل ليلة يأخذ شاة وصنمكم هذا راقد لا يضر ولا ينفع ولا يقر ولا ينكر ، فذهبوا وأنا أرجو أن يسلموا ، فلما أصبحنا جاء الراعي يشتد يقول : البشرى البشرى قد جيء بالذئب وهو مقموط بين يدي الصنم بغير قماط ، فذهبوا وذهبت معهم فقتلوه وسجدوا له ، وقالوا : هكذا فاصنع ، فدخلت على محمد صلى الله عليه وسلم ، فحدثته هذا الحديث فقال : لعب بهم الشيطان .