الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالٞ مِّنَ ٱلۡإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٖ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَزَادُوهُمۡ رَهَقٗا} (6)

وقيل : انقطع الإخبار عن الجن ها هنا فقال الله تعالى : " وأنه كان رجال من الأنس " فمن فتح وجعله من قول الجن ردها إلى قوله : " أنه استمع " [ الجن : 1 ] ، ومن كسر جعلها مبتدأ من قول الله تعالى . والمراد به ما كانوا يفعلونه من قول الرجل إذا نزل بواد : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيبيت في جواره حتى يصبح ، قال الحسن وابن زيد وغيرهما . قال مقاتل : كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم . وقال كردم بن أبي السائب : خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم ، فقال الراعي : يا عامر الوادي ، [ أنا ]{[15446]} جارك . فنادى مناد يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد{[15447]} . وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة : " وأنه كان رجال من الإنس . يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا " أي زاد الجن الإنس " رهقا " أي خطيئة وإثما ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة . والرهق : الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم ؛ ورجل رهق إذا كان كذلك ؛ ومنه قوله تعالى : " وترهقهم ذلة " [ يونس : 27 ] وقال الأعشى :

لا شيء ينفعني من دون رؤيتها*** هل يَشْتَفِي وَامِقٌ{[15448]} ما لم يُصِبْ رَهَقًا

يعني إثما . وأضيفت الزيادة إلى الجن إذ كانوا سببا لها . وقال مجاهد أيضا : " فزادوهم " أي إن الإنس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوذ ، حتى قالت الجن : سدنا الإنس والجن . وقال قتادة أيضا وأبو العالية والربيع وابن زيد : ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن . وقال سعيد بن جبير : كفرا . ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك . وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجن ، فالمعنى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس ، وكان الرجل من الإنس يقول مثلا : أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي . قال القشيري : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجال على الجن .


[15446]:الزيادة من الدر المنثور للسيوطي.
[15447]:يشتد: يعدو.
[15448]:في أ، ح وفتح القدير الشوكاني: "عاشق".