السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالٞ مِّنَ ٱلۡإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٖ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَزَادُوهُمۡ رَهَقٗا} (6)

{ وأنه } أي : الشان { كان رجال } أي : ذوو قوة وبأس { من الإنس } أي : النوع الظاهر في عالم الحس { يعوذون } أي : يلتجئون ويعتصمون خوفاً على أنفسهم وما معهم إذا نزلوا وادياً { برجال من الجنّ } أي : القبيل المستتر عن الأبصار ، وذلك أنّ القوم منهم كانوا إذا نزلوا وادياً أو غيره من القفر تعبث بهم الجنّ في بعض الأحيان ؛ لأنه لا مانع لهم منهم من ذكر الله ولا دين صحيح ولا كتاب من الله تعالى صريح ، فحملهم ذلك على أن يستجيروا بعظمائهم ، فكان الرجل يقول عند نزوله : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، فيبيت في أمن وفي جوار منهم حتى يصبح فلا يرى إلا خيراً ، وربما هدوه إلى الطريق وردوا عليه ضالته ، قال مقاتل : كان أوّل من تعوذ بالجنّ قوم من أهل اليمن من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله تعالى وتركوهم .

وقال كرم بن أبي السائب الأنصاري : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم فوثب الراعي وقال : يا عامر الوادي جارك فنادى منادٍ لا نراه يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة ، فكان ذلك فتنة للإنس باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه ، فتبعوهم في الضلال وفتنة للجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا الإنس والجن فيَضلوا ويُضلوا ولذلك سبب عنه قوله تعالى : { فزادوهم } أي : الإنس والجن باستعاذتهم { رهقاً } أي : ضيقاً وشدّة وغشياناً ، فجاءهم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منها الضيق والشدّة وقال مجاهد : الرهق : الإثم وغشيان المحارم ورجل رهق إذا كان كذلك . ومنه قوله تعالى : { وترهقهم ذلة } [ يونس : 27 ] وقال الأعشى :

لا شيء ينفعني من دون رؤيتها *** هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا

يعني إثماً ، وقال مجاهد أيضاً : زادوهم أي : أنّ الإنس زادوا الجن طغياناً بهذا التعوّذ حتى قالت الجن : سدنا الإنس والجن ، وقيل : لا ينطلق لفظ الرجال على الجنّ ، فالمعنى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس من شرّ الجن ، فكان الرجل مثلاً يقول : أعوذ بحذيفة بن بدر من جنّ هذا الوادي . قال القشيري : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجل على الجن .

تنبيه : قوله تعالى : { من الإنس } صفة لرجال وكذا قوله { من الجنّ } .