اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالٞ مِّنَ ٱلۡإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٖ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَزَادُوهُمۡ رَهَقٗا} (6)

{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس } فمن فتح ، وجعله من قول الجنِّ ردَّها إلى قوله : { أَنَّهُ استمع } ، ومن كسرها جعلها من قول الله تعالى .

والمراد به ما كانوا يفعلونه ، من قول الرجل إذا نزل بواد : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيبيت في جواره حتى يصبح ، قاله الحسن وابن{[58118]} زيد وغيرهما .

وقيل : كانوا في الجاهلية إذ أقحطوا ، بعثُوا رائدهم ، فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماءٌ رجع إلى أهله فسار بهم حتى إذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذُ بك بربِّ هذا الوادي أن تصيبنا فيه آفةٌ ، يعنون من الجن ، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا ، وإن أفزعهم الجن رجعوا .

قال مقاتل : أول من تعوذ بالجنِّ قومٌ من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلَّما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم{[58119]} .

وقال كردم بن أبي السائب : خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فآواني المبيت إلى راعي غنمٍ ، فلما انتصف الليل جاء الذئب ، فحمل حملاً من الغنم ، فقال الراعي : يا عامر الوادي جارك الله ، فنادى منادٍ : يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمةٌ ، فأنزل الله تعالى على رسوله السيد الكامل المكمل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمكة : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً } ، أي : زاد الجنُّ الإنس رهقاً ، أي : خطيئة ، وإنما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم{[58120]} .

والرَّهقُ : الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم ، ورجل رهق إذا كان كذلك ، ومنه قوله : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ }[ يونس : 27 ] ؛ وقال الأعشى : [ البسيط ]

4895 - لا شَيْءَ يَنْفعُنِي من دوُنِ رُؤْيتها***هَلْ يَشتفِي عَاشقٌ ما لم يُصِبْ رَهقَا{[58121]}

يعني إثماً ، ورجل مرهق ، أي : يغشاه السائلون .

قال الواحديُّ : الرَّهَقُ : غشيان الشيء ، ومنه قوله تعالى : { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } .

وأضيفت الزيادةُ إلى الجن إذ كانوا سبباً لها .

وقال مجاهد أيضاً : «فزَادُوهُم » أي : أن الإنس زادوا الجنَّ طغياناً بهذا التعوذ ، حتى قالت الجنُّ : «سدنا الإنس والجن »{[58122]} .

وقال قتادة أيضاً ، وأبو العالية والربيع وابن زيد : ازداد الإنس بهذا فرقاً وخوفاً من الجن{[58123]} .

وقال سعيد بن جبير : كفراً .

ولا يخفى أنَّ الاستعاذة بالجنِّ دون الاستعاذة بالله شركٌ وكفرٌ .

وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجنِّ ، فالمعنى : وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون من شرِّ الجن برجال من الإنس وكان الرجل من الإنس يقول مثلاً : أعوذ بحذيفة بن بدر من جنِّ هذا الوادي .

قال القشيريُّ : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرِّجالِ على الجن .

وقوله : «مِنَ الإنس » صفة ل «رِجَالٌ » وكذلك قوله «مِنَ الجِنِّ » .


[58118]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/63) عن الحسن ومجاهد وابن زيد. وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(6/432) عن الحسن وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر كما ذكره عن مجاهد وعزاه أيضا إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[58119]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/8).
[58120]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/263) عن قتادة وابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/432) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.
[58121]:ينظر القرطبي 19/8، والبحر 8/341، وروح المعاني 29/106.
[58122]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/432) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[58123]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/264) عن الربيع بن أنس وابن زيد. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/433) عن الربيع بن أنس وعزاه إلى عبد بن حميد.