تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالٞ مِّنَ ٱلۡإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٖ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَزَادُوهُمۡ رَهَقٗا} (6)

الآية 6 : وقوله تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } وذكر أن الإنس ، وهم قوم من{[22265]} العرب ، كانت إذا نزلت بواد استجارت بسيد الوادي ، وقالت : نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه .

ثم اختلف بعد هذا ، فمنهم من ذكر أنهم كانوا يجيرونهم ، ومنهم من زعم أنهم كانوا لا يجيرونهم ، وكان ذلك يزيد في رهق الإنس والجن ، وقالوا : الرهق الخوف والفرق ، كذلك روي عن أبي روق . ومنهم من يقول : هو الذلة والضعف ، فكانوا يزدادون[ ضعفا وذلة وخوفا وفرقا ]{[22266]} بامتناعهم عن الإجارة{[22267]} ومنهم من يقول بأنهم كانوا يجيرون من استجارهم . ولكن مع هذا كانوا يفرقون منهم ومن كيدهم في الأماكن التي لم تستجيروا فيها إليهم وفي غير الأوقات التي وقعت فيها الإجارة .

وعلى اختلافهم اتفقوا أن الجن هي التي كانت تزيد الإنس رهقا .

وقيل بأن هذا الفعل من الإنس ، وهو الاستجارة بهم ، شرك لأن الله تعالى ، وهو المجير ، فكان الحق عليهم أن يستجيروا بالله تعالى ليدفع عنهم مكايد الجن ولا يروا لأنفسهم ناصرا غير الله ، جل جلاله ، فإذا فزعوا في الاستجارة إلى الجن فقد رأوا غير الله تعالى ، يقوم عنهم بالذب والنصر ، فكان ذلك منهم إشراكا ولأن الجن أضعف من الإنس .

ألا ترى أنها تختفي من الإنس{[22268]} ، وتتصور بغير صورتها فرقا لئلا يشعر بها ، وبلغ من ضعفها أنها لا تقدر على إتلاف أحد من البشر ، ولا تقدر على سلب أموالهم ولا إفساد طعامهم وشرابهم ؟ واستنصار القوي بالضعيف إراءة الذلة ، فيخرج تأويل من قال بأن الرهق ، هو الذلة والضعف على هذا .

ومنهم من يقول بأن الإنس ، هي التي كانت تزيد الجن رهقا ، وقالوا : الرهق التجبر والتكبر ، وقيل : هو السفه والجهل والمأثم{[22269]} .

وقال القتبي : هو العبث في الظلم ؛ يقال : فلان مرهق في دينه إذا كان مفسدا .

ووجه زيادة الرهق ، هو أن الرؤساء من الجن ، يرون لأنفسهم الفضل على أتباعهم من الجن ، فيتداخلهم الكبر من ذلك ، ويزدادون به تجبرا وتعظما ، فكان ذلك يمنعهم عن النظر في حجج الرسل .

وكذلك أكابر الكفرة من الإنس كانوا يمتنعون عن الإجابة للرسول صلى الله عليه وسلم بما يرون لأنفسهم من الفضل على من سواهم .

ألا ترى إلى قوله : { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها } الآية ؟ [ الأنعام : 123 ] .

فمن زعم أن الرّهق الإثم أو السفه أو الجور أو الظلم أو العبث يرجعه{[22270]} كله إلى هذا المعنى الذي ذكرنا لأن سفههم ، هو الذي كان يحملهم على التجبر والتكبر لأنه كان يستعيذ بهم إلا الجاهل السفيه ، وليس في إعاذة الجاهل منقبة لما يتكبر لأجلها ، وهم بتكبرهم ازدادوا إثما وبعدا من رحمة الله تعالى ، والله أعلم .


[22265]:ساقطة من م.
[22266]:في الأصل و م: الضعف والذلة والخوف.
[22267]:في الأصل و م: الإعاذة.
[22268]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: الأصل.
[22269]:في الأصل و م: وهي المأثم.
[22270]:في الأصل وم: يرجع.