( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) . . والله يعلم . ولكن المقصود هو أن يقع منهم البلاغ فيتعلق به علمه في عالم الواقع .
( وأحاط بما لديهم ) . . فما من شيء في نفوسهم وفي حياتهم ومن حولهم ، إلا وهو في قبضة العلم لا يند منه شيء . .
( وأحصى كل شيء عددا ) . . لا يقتصر على ما لدى الرسل ؛ بل يحيط بكل شيء إحصاء وعدا ، وهو أدق الإحاطة والعلم !
وبهذا الإيقاع الهائل الرهيب تختم السورة ، التي بدأت بالروعة والرجفة والانبهار بادية في مقالة الجن الطويلة المفصلة ، الحافلة بآثار البهر والرجفة والارتياع !
وتقرر السورة التي لا تتجاوز الثماني والعشرين آية ، هذا الحشد من الحقائق الأساسية التي تدخل في تكوين عقيدة المسلم ، وفي إنشاء تصوره الواضح المتزن المستقيم ، الذي لا يغلو ولا يفرط ، ولا يغلق على نفسه نوافذ المعرفة ، ولا يجري - مع هذا - خلف الأساطير والأوهام !
وصدق النفر الذي آمن حين سمع القرآن ، وهو يقول : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ) . .
{ لِيَعْلَمَ } بذلك { أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ } بما جعله لهم من الأسباب ، { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } أي : بما عندهم ، وما أسروه وأعلنوه ، { وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } وفي هذه السورة فوائد كثيرة : منها : وجود الجن ، وأنهم مكلفون مأمورون مكلفون منهيون ، مجازون بأعمالهم ، كما هو صريح في هذه السورة .
ومنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول إلى الجن ، كما هو رسول إلى الإنس{[1254]} ، فإن الله صرف نفر الجن ليستمعوا ما يوحى إليه ويبلغوا قومهم .
ومنها : ذكاء الجن ومعرفتهم بالحق ، وأن الذي ساقهم إلى الإيمان هو ما تحققوه من هداية القرآن ، وحسن أدبهم في خطابهم .
ومنها : اعتناء الله برسوله ، وحفظه لما جاء به ، فحين ابتدأت بشائر نبوته ، والسماء محروسة بالنجوم ، والشياطين قد هربت عن أماكنها ، وأزعجت عن مراصدها ، وأن الله رحم به الأرض وأهلها رحمة ما يقدر لها قدر ، وأراد بهم ربهم رشدا ، فأراد أن يظهر من دينه وشرعه ومعرفته في الأرض ، ما تبتهج به القلوب ، وتفرح به أولو الألباب ، وتظهر به شعائر الإسلام ، وينقمع به أهل الأوثان والأصنام .
ومنها : شدة حرص الجن لاستماع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتراكمهم عليه .
ومنها : أن هذه السورة قد اشتملت على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ، وبينت حالة الخلق ، وأن كل أحد منهم لا يستحق من العبادة مثقال ذرة ، لأن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ، إذا كان لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا ، بل ولا يملك لنفسه ، علم أن الخلق كلهم كذلك ، فمن الخطأ والغلط{[1255]} اتخاذ من هذا وصفه إلها [ آخر ] مع الله . ومنها : أن علوم الغيوب قد انفرد الله بعلمها ، فلا يعلمها أحد من الخلق ، إلا من ارتضاه الله وخصه{[1256]} بعلم شيء منها . تم تفسير سورة قل أوحي إلي ، ولله الحمد{[1257]}
قوله تعالى : " ليعلم " قال قتادة ومقاتل : أي ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة . وفيه حذف يتعلق به اللام ، أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق . وقيل : ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه . قاله ابن جبير . قال : ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة عليهم السلام . وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم . وقيل : ليعلم الرسول أي رسول كان أن الرسل سواه بلغوا . وقيل : أي ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه . وقال ابن قتيبة : أي ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما نزل عليهم ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم . وقال مجاهد : ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين قد بلغوا رسالات ربهم . وقراءة الجماعة " ليعلم " بفتح الياء وتأويله ما ذكرناه . وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد ويعقوب بضم الياء أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا . وقال الزجاج : أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته بفتح الياء ، كقوله تعالى : " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " [ آل عمران : 142 ] المعنى ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبا . " وأحاط بما لديهم " أي أحاط علمه بما عندهم ، أي بما عند الرسل وما عند الملائكة . وقال ابن جبير : المعنى : ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط علمه بما لديهم ، فيبلغوا رسالاته . " وأحصى كل شيء عددا " أي أحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه فلم يخف عليه منه شيء . و " عددا " نصب على الحال ، أي أحصى كل شيء في حال العدد ، وإن شئت على المصدر ، أي أحصى وعد كل شيء عددا ، فيكون مصدر الفعل المحذوف . فهو سبحانه المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيء وقد بينا جميعه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى . والحمد لله وحده{[15494]} .
ولما كان هذا الدأب من الحفظ في كل{[69320]} رسول بين الغاية جامعاً{[69321]} تعييناً لما اقتضاه الجنس ، وبياناً لأن الأفراد أولاً مراد به الجمع ، وأنه ما عبر به إلا لتشمل الحراسة كل فرد{[69322]} منهم فقال : { ليعلم } أي الله علماً كائناً واقعاً على هذه الصفة التي تعلق{[69323]} بها علمه{[69324]} في الأزل قبل وجودها بما لا يعلمه إلا هو سبحانه أنها ستكون { أن } أي إن الرسل عليهم الصلاة والسلام { قد أبلغوا } أي إلى من أرسلوا إليه { رسالات ربهم } أي الذي أوجدهم ودبر جميع أمورهم واختارهم لرسالاته{[69325]} على ما {[69326]}هي عليه{[69327]} لم يشبها شائبة ولا لحقها غبر . ولما كان هذا ربما أوهم أنه محتاج في الحفظ إلى الرصد{[69328]} أزال ذلك بقوله{[69329]} : { وأحاط } أي فعل ذلك والحال أنه قد أحاط { بما لديهم } أي الرسل والمرسل إليهم من الملائكة والبشر على أدق الوجوه وأعظمها وأغربها بما أشار إليه التعبير بلدى ، ولما كان هذا كافياً في المقصود ، لكنه قاصر على محل الحاجة عم تعريفاً بالأمر على ما هو عليه ، فقال حاملاً على شدة الوثوق بما تقوله الرسل عن ربهم وأنه لا لبس فيه ولا غائلة بوجه ، مبيناً غاية البيان كذب حديث الغرانيق الذي ذكره بعض المفسرين وغيرهم في سورة والنجم : { وأحصى } أي الله سبحانه وتعالى { كل شيء } أي على العموم من غير استثناء أصلاً { عدداً * } أي من جهة العدد لكل{[69330]} ما يمكن عده ولو على أقل مقادير{[69331]} الذر فيما لم يزل وفيما لا يزال ، فهو دليل قاطع على علمه تعالى بالجزئيات كعلمه بالكليات ، وقد التقى أول السورة وآخرها وباطنها الغيبي وظاهرها ، فدل آخرها على الأول المجمل ، وأولها على الآخر المفصل ، وذلك أن أول السورة بين عظمة الوحي بسبب الجن ، ثم بين في أثنائها حفظه من مسترقي السمع ، وختم بتأكيد حفظه و{[69332]}حفظ جميع{[69333]} كلماته واستمر في تأكيد أمره حتى بانت عظمة هذا القرآن ، وظهرت عزة هذا الفرقان ، على كل كتاب ، بكل اعتبار وحساب
وقد التقى أول السورة وآخرها وباطنها الغيبي وظاهرها ، فدل آخرها على الأول المجمل ، وأولها على الآخر المفصل ، وذلك أن أول السورة بين عظمة الوحي بسبب الجن ، ثم بين في أثنائها حفظه من مسترقي السمع ، وختم بتأكيد حفظه وحفظ جميع كلماته واستمر في تأكيد أمره حتى بانت عظمة هذا القرآن ، وظهرت عزة هذا الفرقان{[1]} ، على كل كتاب ، بكل اعتبار وحساب ، فافتتح المزمل بمثل ذلك وختمها بالأمر بقراءة ما تيسر منه ، وذكر في المدثر طعن الطاعن فيه وما ناله بسبب ذلك الطعن من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة مع ضمان الحفظ منه ، ثم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة القيامة عن العجلة في أمره لئلا يختل حفظه ، أو يزيغ أدنى زيغ لفظه ، و{[2]}تشريعاً لأمته في ترك الاستعجال ، فإنه ليس من دأب الرجال ، ثم أكد أمر تنزيله في الإنسان ، وبين أن علة الإعراض عنه حب العاجلة التي هي عين النقصان ، وختم المرسلات بنهاية ما تخيل الأوهام والظنون ، فقال
فبأي حديث بعده يؤمنون }[ الأعراف : 185 ] فسبحان{[3]} من نظمه هذا{[4]} النظام ، وجعله أقصى المراد وغاية المرام ، وصلى الله على من لا نبي بعده على الدوام{[5]} .
قوله : { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } اختلف المفسرون في المراد بقوله : { ليعلم } فقد قيل : المراد ، الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون المعنى : وليعلم رسوله الله أن الرسل من قبله قد أبلغوا رسالات ربهم ، وأن الله قد حفظهم ودفع عنهم أذى الشياطين . وقيل : المراد المشركون . أي ليعلم المشركون أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم . وقيل : ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته أي ليعلم ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبا .
قوله : { وأحاط بما لديهم } أحاط علم الله بما عند الرسل وما عند الملائكة . { وأحصى كل شيء عدد } عددا ، منصوب على التمييز{[4664]} يعني أحاط علم الله بعدد كل شيء . فما يخفى عليه علم شيء وجودا وموضعا وصفة وعددا{[4665]} .