وكذبوا بالآيات وبشهادتها . كذبوا اتباعا لأهوائهم لا استنادا إلى حجة ، ولا ارتكانا إلى دليل ، ولا تدبرا للحق الثابت المستقر في كل ما حولهم في هذا الوجود . .
( وكل أمر مستقر ) . . فكل شيء في موضعه في هذا الوجود الكبير . وكل أمر في مكانه الثابت الذي لا يتزعزع ولا يضطرب . فأمر هذا الكون يقوم على الثبات والاستقرار ، لا على الهوى المتقلب ، والمزاج المتغير ؛ أو المصادفة العابرة والارتجال العارض . . كل شيء في موضعه وفي زمانه ، وكل أمر في مكانه وفي إبانه . والاستقرار يحكم كل شيء من حولهم ، ويتجلى في كل شيء : في دورة الأفلاك ، وفي سنن الحياة . وفي أطوار النبات والحيوان . وفي الظواهر الثابتة للأشياء والمواد . لا بل في انتظام وظائف أجسامهم وأعضائهم التي لا سلطان لهم عليها . والتي لا تخضع للأهواء ! وبينما هذا الاستقرار يحيط بهم ويسيطر على كل شيء من حولهم ، ويتجلى في كل أمر من بين أيديهم ومن خلفهم . . إذ هم وحدهم مضطربون تتجاذبهم الأهواء !
أهواءهم : ما زينه لهم الشيطانُ من الوساوس والأوهام .
مستقر : منتهٍ إلى غاية ينتهي إليها .
بذلك كذّبوا بالحق إذ جاءهم { واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } فهو منتهٍ إلى غاية يستقر عليها .
إن هذا الكون يا محمد يسير وفق قوانينَ منتظِمة محدّدة مستقرة . وإن أمرك أيها الرسول ، سينتهي إلى الاستقرار بالنصر في الدنيا والفوزِ بالجنّة في الآخرة .
وهذا من البهت ، الذي لا يروج إلا على أسفه الخلق وأضلهم عن الهدى والعقل ، وهذا ليس إنكارا منهم لهذه الآية وحدها ، بل كل آية تأتيهم ، فإنهم مستعدون لمقابلتها بالباطل{[924]} والرد لها ، ولهذا قال : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا } ولم يعد الضمير على انشقاق القمر فلم يقل : وإن يروها بل قال : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا } وليس قصدهم اتباع الحق والهدى ، وإنما قصدهم اتباع الهوى ، ولهذا قال : { وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } كقوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } فإنه لو كان قصدهم اتباع الهدى ، لآمنوا قطعا ، واتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، لأنه أراهم الله على يديه{[925]} من البينات والبراهين والحجج القواطع ، ما دل على جميع المطالب الإلهية ، والمقاصد الشرعية ، { وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } أي : إلى الآن ، لم يبلغ الأمر غايته ومنتهاه ، وسيصير الأمر إلى آخره ، فالمصدق يتقلب في جنات النعيم ، ومغفرة الله ورضوانه ، والمكذب يتقلب في سخط الله وعذابه ، خالدا مخلدا أبدا .
" وكذبوا " نبينا " واتبعوا أهواءهم " أي ضلالاتهم واختياراتهم . " وكل أمر مستقر " أي يستقر بكل عامل عمله ، فالخير مستقر بأهله في الجنة ، والشر مستقر بأهله في النار . وقرأ شيبة " مستقر " بفتح القاف ، أي لكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر . وقد روي عن أبي جعفر بن القعقاع " وكل أمر مستقر " بكسر القاف والراء جعله نعتا لأمر و " كل " على هذا يجوز أن يرتفع بالابتداء والخبر محذوف ، كأنه قال : وكل أمر مستقر في أم الكتاب كائن . ويجوز أن يرتفع بالعطف على الساعة ، المعنى : اقتربت الساعة وكل أمر مستقر ، أي اقترب استقرار الأمور يوم القيامة . ومن رفعه جعله خبرا عن " كل " .
ولما فطم عن التشوف إلى إجابتهم في المقترحات على ما قدرته ، تسبب منهم عن الانشقاق بقوله : { وكذبوا } أي بكون الانشقاق دالاً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وجزموا بالتكذيب عناداً أو خبثاً منهم . ولما كان التكذيب في نفسه قد يكون حقاً ، قال مبيناً أنه باطل ، فبين عن حالهم بقوله : { واتبعوا } أي بمعالجة فطرهم الأولى المستقيمة في دعائها إلى التصديق { أهواءهم } أي حتى نابذوا ما دلتهم عليه بعد الفطرة الأولى عقولهم ، قال القشيري : إذا حصل اتباع الهوى فمن شؤمه يحصل التكذيب ، لأن الله سبحانه وتعالى يلبس على قلب صاحبه حتى لا يستبصر الرشد ، واتباع الرضى مقرون بالتصديق لأن الله تعالى ببركات الاتباع للحق يفتح عين البصيرة فيأتي بالتصديق - والله الهادي . ولما كان ذلك مفظعاً لقلوب المحقين ، سلاهم بالوصول إلى محط تظهر فيه الحقائق وتضمحل فيه الشقاشق ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فسيستقر أمر كل من أمر المحق والمبطل في قراره ، ويطلع على دقائقه وأسراره : { وكل أمر } من أموركم وغيرها { مستقر * } أي ثابت وموجود ، انتهاؤه إلى غاية تظهر فيها حقيقته من غير حيلة تصاحبه إلى رد ذلك القرار ولا خفاء على أحد ، فلا بد أن ينتهي الحق من كل شيء من الآجال والهدايات والضلالات والسعادات والشقاوات وغيرها إلى نهايته فيثبت ثبوتاً لا زوال له ، وينتهي الباطل مما دعاه الخلق فيه إلى غايته فيتلاشى تلاشياً لا ثبات له بوجه من الوجوه ، فإذا استقرت الأمور ظهر ما لهم عليه وعلموا الخاسر من الفائز ، وفي مثل هذا قال ابن عمرو التيمي أخو القعقاع في وقعة السي ( ؟ ) من بلاد العراق :
والموت خيلنا لما التقينا *** بقارن والأمور لها انتهاء
وقرأ أبو جعفر{[61755]} بالجر صفة لأمر ، فيكون معطوفاً على الساعة أي واقترب كل أمر مستقر أي ثابت وهو الحق أي اقترب الظهور وثباته ، وذلك لا يكون إلا وقد كان خفاء الباطل وفواته .
قوله : { وكذبوا واتبعوا أهواءهم } يعني كذب المشركون ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحدوا ما رأوه من الآيات الظاهرة الباهرة بعد معاينتهم انشقاق القمر فلقتين . واتبعوا الضلال والباطل مما دعتهم إليه أهواؤهم الجانحة السقيمة .
قوله : { وكل أمر مستقر } أي كل أمر واقع لا محالة ، أو صائر إلى غاية يستقر عليها من خير أو شر ، أو كل أمر منته إلى غاية ، فالخير يستقر بأهل الخير ، والشر يستقر بأهل الشر . كل مبتدأ ، ومستقر خبره .