والآن - وقد سقط عنهم غشاء الخداع والضلال - يعرفون أن المتجه لله وحده فيتجهون :
( قالوا : ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ، فاعترفنا بذنوبنا ، فهل إلى خروج من سبيل ) . .
وهي كلمة الذليل اليائس البائس . . ( ربنا ) . . وقد كانوا يكفرون وينكرون . أحييتنا أول مرة فنفخت الروح في الموات فإذا هو حياة ، وإذا نحن أحياء . ثم أحييتنا الأخرى بعد موتنا ، فجئنا إليك . وإنك لقادر على إخراجنا مما نحن فيه . وقد اعترفنا بذنوبنا . ( فهل إلى خروج من سبيل ? ) . بهذا التنكير الموحي باللهفة واليأس المرير .
{ أمتنا اثنتين } أرادوا بالأولى : خلقهم مادة لا روح فيها وهم في الأرحام . وبالثانية : قبض أرواحهم عند انقضاء آجالهم . والإماتة : جعل الشيء عادم الحياة ، سبق بحياة أم لا . { وأحييتنا اثنتين } أرادوا بالأولى : نفخ أرواحهم في أبدانهم وهي في الأرحام . وبالثانية : نفخ الأرواح فيها يوم البعث والنشور . وهو نظيره قوله تعالى : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " {[299]} .
فتمنوا الرجوع و { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ } يريدون الموتة الأولى وما بين النفختين على ما قيل أو العدم المحض قبل إيجادهم ، ثم أماتهم بعدما أوجدهم ، { وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } الحياة الدنيا والحياة الأخرى ، { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } أي : تحسروا وقالوا ذلك ، فلم يفد ولم ينجع ، ووبخوا على عدم فعل أسباب النجاة ، فقيل لهم :
قوله تعالى : " قالوا ربنا أمتنا اثنتين " اختلف أهل التأويل في معنى قولهم : " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " فقال ابن مسعود وابن عباس وقتادة والضحاك : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ، ثم أحياهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها في الدنيا ، ثم أحياهم للبعث والقيامة ، فهاتان حياتان موتتان ، وهو قوله تعالى : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " [ البقرة : 28 ] . وقال السدي : أميتوا في الدنيا ثم أحياهم في القبور للمسألة ، ثم أميتوا ثم أحيوا في الآخرة . وإنما صار إلى هذا ؛ لأن لفظ الميت لا ينطلق في العرف على النطفة . واستدل العلماء من هذا في إثبات سؤال القبر ، ولو كان الثواب والعقاب للروح دون الجسد فما معنى الإحياء والإماتة ؟ والروح عند من يقصر أحكام الآخرة على الأرواح لا تموت ولا تتغير ولا تفسد ، وهو حي لنفسه لا يتطرق إليه موت ولا غشية ولا فناء . وقال ابن زيد في قوله : " ربنا أمتنا اثنتين . . . " الآية قال : خلقهم في ظهر آدم وأخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق ، ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم . وقد مضى هذا في " البقرة " {[13362]} . " فاعترفنا بذنوبنا " اعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف وندموا حيث لا ينفعهم الندم . " فهل إلى خروج من سبيل " أي هل نرد إلى الدنيا لنعمل بطاعتك ؛ نظيره : " هل إلى مرد من سبيل " [ الشورى : 44 ] وقوله : " فارجعنا نعمل صالحا " [ السجدة : 12 ] وقوله : " يا ليتنا نرد " [ الأنعام : 27 ] الآية .
ولما كان من أعظم ذنوبهم إنكار البعث ، وكانوا قد استقرأوا العوائد ، وسبروا ما جرت به الأقدار في الدهور والمدائد ، من أن كل ثان لا بد له من ثالث ، وكان الإحياء لا يطلق عرفاً إلا من كان عن موت ، حكى سبحانه جوابهم بقوله الذي محطه الإقرار بالبعث والترفق بالاعتراف بالذنب حيث لا ينفع لفوات شرطه وهو الغيب : { قالوا ربنا } أي أيها المحسن إلينا بما تقدم في دار الدنيا { أمتَّنا اثنتين } قيل : واحدة عند انقضاء الآجال في الحياة الدنيا وأخرى بالصعق بعد البعث أو الإرقاد بعد سؤال القبر ، والصحيح أن تفسيرها آية البقرة
{ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم }[ آية : 28 ] وأما الصعق فليس بموت ، وما في القبر فليس بحياة حتى يكون عنه موت ، وإنما هو إقدار على الكلام كما أقدر سبحانه الحصى على التسبيح والحجر على التسليم ، والضب على الشهادتين ، والفرس حين قال لها فارسها ثبي إطلال على قولها وثباً وسورة البقرة { وأحييتنا اثنين } واحدة في البطن ، وأخرى بالبعث بعد الموت ، أو واحدة بالبعث وأخرى بالإقامة من الصعق ، أو الإقامة في القبر ، فشاهدنا قدرتك على البعث { فاعترفنا } أي فتسبب عن ذلك أنّا اعترفنا بعد تكرر الإحياء { بذنوبنا } الحاصلة بسبب إنكار البعث لأن من لم يخش العاقبة بالغ في متابعة الهوى ، فذلك توبة لنا { فهل إلى خروج } أي من النار ولو على أدنى أنواع الخروج بالرجوع إلى الدنيا فنعمل صالحاً { من سبيل } فنسلكه فنخرج ثم تكون لنا موتة ثالثة وإحياءة ثالثة إلى الجنة التي جعلتها جزاء من أقر بالبعث .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.