ثم مضوا في نذارتهم لقومهم في حماسة المقتنع المندفع ، الذي يحس أن عليه واجبا في النذارة لا بد أن يؤديه :
( يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، يغفر لكم من ذنوبكم ، ويجركم من عذاب أليم ) . .
فقد اعتبروا نزول هذا الكتاب إلى الأرض دعوة من الله لكل من بلغته من إنس وجن ؛ واعتبروا محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] داعيا لهم إلى الله بمجرد تلاوته لهذا القرآن واستماع الثقلين له : فنادوا قومهم : ( يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ) . .
وآمنوا كذلك بالآخرة ، وعرفوا أن الإيمان والاستجابة لله يكون معهما غفران الذنب والإجارة من العذاب . فبشروا وأنذروا بهذا الذي عرفوه .
" يا قومنا أجيبوا داعي الله " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدل على أنه كان مبعوثا إلى الجن والإنس . قال مقاتل : ولم يبعث الله نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم . قلت : يدل على قوله ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة ] . قال مجاهد : الأحمر والأسود : الجن والإنس . وفي رواية من حديث أبي هريرة " وبعثت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون " .
قوله تعالى : " وآمنوا به " أي بالداعي ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : " به " أي بالله ، لقوله : " يغفر لكم من ذنوبكم " . قال ابن عباس : فاستجاب لهم من قومهم سبعون رجلا ، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقوه بالبطحاء ، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم .
مسألة : هذه الآي تدل على أن الجن كالإنس في الأمر والنهي والثواب والعقاب . وقال الحسن : ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار ، يدل عليه قوله تعالى : " يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم " . وبه قال أبو حنيفة قال : ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار ، ثم يقال لهم : كونوا ترابا مثل البهائم . وقال آخرون : إنهم كما يعاقبون في الإساءة يجازون في الإحسان مثل الإنس . وإليه ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلي . وقد قال الضحاك : الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون . قال القشيري : والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء ، والعلم عند الله .
قلت : قوله تعالى : " ولكل درجات مما عملوا " {[13882]} [ الأنعام : 132 ] يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة ، لأنه قال في أول الآية : " يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي " {[13883]} إلى أن قال " ولكل درجات مما عملوا " [ الأنعام :130 ] . والله أعلم ، وسيأتي لهذا في سورة " الرحمن " مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
ولما أخبروهم بالكتاب وبينوا أنه من عند الله وأنه أقرب موصل إليه ، فكان قومهم جديرين بأن يقولوا : فما الذي ينبغي أن نفعل ؟ أجابوهم{[59114]} بقوله : { يا قومنا } الذين لهم قوة العلم والعمل { أجيبوا داعي الله } أي الملك الأعظم المحيط بصفات الجلال والجمال والكمال ، فإن دعوة هذا الداعي عامة لجميع الخلق ، فالإجابة واجبة على كل من بلغه أمره .
ولما كان المجيب قد يجيب في شيء دون شيء كما كان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، {[59115]}عطفوا في خطابهم لهم في الدعوة أن{[59116]} قالوا : { وآمنوا به } أي أوقعوا التصديق بسبب الداعي لا بسبب آخر ، فإن المفعول معه مفعول مع {[59117]}من أرسله وهو{[59118]} الله {[59119]}الذي جلت قدرته{[59120]} وآمنوه من كل تكذيب ، أو{[59121]} الضمير للمضاف إليه وهو الله-{[59122]} بدليل قولهم{[59123]} : { يغفر لكم } : {[59124]}فإنه يستر ويسامح{[59125]} { من ذنوبكم } أي الشرك وما شابهه مما هو حق لله تعالى {[59126]}أي وذلك الستر لا يكون إلا إذا حصل منكم الإجابة التامة والتصديق التام{[59127]} وأدخلوا " من-{[59128]} " إعلاماً بأن مظالم العباد لا تغفر إلا بإرضاء{[59129]} أهلها وكذا ما يجازى به صاحبه في الدنيا بالعقوبات والنكبات والهموم ونحوها مما أشار إليه قوله تعالى
{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }[ الشورى : 30 ] { ويجركم } أي يمنعكم {[59130]}إذا أجبتم{[59131]} منع الجار لجاره لكونكم بالتحيز إلى داعيه صرتم من حزبه { من عذاب أليم * } واقتصارهم على المغفرة تذكير {[59132]}بذنوبهم لأن{[59133]} مقصودهم الإنذار لا ينافي صريح قوله{[59134]} في هذه السورة-{[59135]} { ولكل درجات مما عملوا }[ الأنعام : 132 ] في إثبات الثواب ، ونقله أبو حيان{[59136]} عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.