يبدأ السياق القرآني الحديث عن حادث الأحزاب بتذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم أن رد عنهم الجيش الذي هم أن يستأصلهم ، لولا عون الله وتدبيره اللطيف . ومن ثم يجمل في الآية الأولى طبيعة ذلك الحادث ، وبدءه ونهايته ، قبل تفصيله وعرض مواقفه . لتبرز نعمة الله التي يذكرهم بها ، ويطلب إليهم أن يتذكروها ؛ وليظهر أن الله الذي يأمر المؤمنين باتباع وحيه ، والتوكل عليه وحده ، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين ، هو الذي يحمي القائمين على دعوته ومنهجه ، من عدوان الكافرين والمنافقين :
( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود ، فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا ) . .
وهكذا يرسم في هذه البداءة المجملة بدء المعركة وختامها ، والعناصر الحاسمة فيها . . مجيء جنود الأعداء . وإرسال ريح الله وجنوده التي لم يرها المؤمنون . ونصر الله المرتبط بعلم الله بهم ، وبصره بعملهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم} في الدفع عنكم وذلك أن أبا سفيان بن حرب، ومن معه من المشركين يوم الخندق تحزبوا في ثلاثة أمكنة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقاتلونهم من كل وجه فبعث الله عز وجل عليهم بالليل ريحا باردة، وبعث الله الملائكة، فقطعت الريح الأوتاد، وأطفأت النيران، وجالت الخيل بعضها في بعض، وكبرت الملائكة في ناحية عسكرهم، فانهزم المشركون من غير قتال، فأنزل الله عز وجل يذكرهم: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم} في الدفع عنكم {إذ جاءتكم جنود} من المشركين يعني أبا سفيان بن حرب ومن اتبعه {فأرسلنا عليهم ريحا} شديدة {وجنودا لم تروها}... {وكان الله بما تعملون بصيرا}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ" التي أنعمها على جماعتكم وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق "إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ": جنود الأحزاب: قُريش، وغَطفان، ويهود بني النضير، "فأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا "وهي فيما ذكر: ريح الصّبا... حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو عامر، قال: ثني الزبير، يعني ابن عبد الله، قال: ثني ربيح بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي سعيد، قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله بلغت القلوب الحناجر، فهل من شيء نقوله؟ قال: «نَعَمْ قُولُوا: اللّهُمّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنا، وآمِنْ روْعاتِنا»، فَضَرَبَ اللّهُ وُجُوهَ أعْدائهِ بالرّيحِ، فهَزَمَهُمُ اللّهُ بالرّيحِ...
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة: قال: ثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ، قال: قال فتى من أهل الكوفة لحُذَيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يا بن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نَجْهَد، قال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، لحملناه على أعناقنا. قال حُذَيفة: يا بن أخي، والله لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله هَوِيّا من الليل، ثم التفت إلينا فقال: «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟ يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يرجع أدخله الله الجنة»، فما قام أحد، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هَوِيا من الليل، ثم التفت إلينا فقال مثله، فما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هَوِيا من الليل، ثم التفت إلينا فقال: «مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنا ما فَعَلَ القَوْمُ ثُمّ يَرْجِعُ، يَشْتَرِطُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلى اللّهُ عليهِ وسلّمَ الرّجْعَةَ، أسأَلُ اللّهُ أنْ يكُونَ رَفِيقي فِي الجَنّةِ» فما قام رجل من شدّة الخوف، وشدّة الجوع، وشدّة البرد فلما لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني، فقال: «يا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فادْخُلْ فِي القَوْمِ فانْظُرْ ما يَفْعَلونَ، وَلا تُحْدِثَنّ شَيْئا حتى تَأْتِينَا». قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تُقِرّ لهم قِدرا ولا نارا ولا بناء فقام أبو سُفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه، فقال حُذَيفة: فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخفّ، واختلفت بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، والله ما يطمئنّ لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلاّ وهو قائم. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ أن «لا تُحدث شيئا حتى تأتيني»، لو شئت لقتلته بسهم قال حُذَيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه فلما رآني أدخلني بين رجليه، وطرح عليّ طرَف المِرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غَطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم...
وقوله: "وكانَ اللّهُ بِمَا تَعْملُونَ بَصِيرا" يقول تعالى ذكره: وكان الله بأعمالكم يومئذٍ، وذلك صبرهم على ما كانوا فيه من الجَهْد والشدّة، وثَباتهم لعَدُوّهم، وغير ذلك من أعمالهم، بصيرا لا يخفى عليه من ذلك شيء، يُحصيه عليهم، ليجزيَهُمْ عليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الأمر في تذكير ما أنعم عليهم فيه وجوه من الحكمة والدلالة:
أحدها: تذكير لنا في مقاساة أولئك السلف والصحابة وعظيم ما امتحنوا في أمر الدين حتى بلّغوا الدين إلينا لكي لا نضيّعه نحن، بل يلزمنا أن نحفظه، ونتمسك به، ونتحمل فيه كما تحمل أولئك.
والثاني: فيه آية لهم؛ وذلك أنهم كانوا جميعا هم وأعداؤهم، فجاءتهم الريح والملائكة، فأهلكتهم دون المؤمنين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نصرت بالصبا وأهلك عاد بالدبور) [البخاري 3205] وذلك آية عظيمة.
والثالث: يذكرهم ما آتاهم من الغوث عند إياسهم من أنفسهم وإشرافهم على الهلاك وخروج أنفسهم من أيديهم، لأن العدو قد أحاطوا بهم، وبلغ أمرهم وحالهم ما ذكر حتى قال {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} الآية [الأحزاب: 10].
ويحتمل أن يذكر، لما كان منهم من العهد والميثاق ألا يولّوا الأدبار، ولا يهربوا كقوله: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار} الآية [الأحزاب: 15].
{وكان الله بما تعملون بصيرا} يذكر أنه لا عن غفلة وسهو ترككم هنالك حتى أحاط بكم العدو، ولكن أراد أن يمتحنكم محنة عظيمة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ذكرُ نعمة الله مُقابَلَتُها بالشكر، ولو تذكرتَ ما دَفَعَ عنك فيما سَلَفَ لهانت عليك مقاساةُ البلاءِ في الحال، ولو تذكرتَ ما أولاكَ في الماضي لَقَرُبَتْ من قلبك الثقةُ في إيصال ما تؤمِّلُه في المستقبل.
ومن جملة ما ذكَّرهم به: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} كم بلاءٍ صَرَفَه عن العبدِ وهو لم يشعر! وكم شُغْلٍ كان يقصده فصَدَّه ولم يعلم! وكم أمرٍ عَوَّقَه والعبدُ يَضِجُّ وهو -(سبحانه)- يعلم -أَن في تيسيره له هلاكَ العبد فمَنَعَه منه رحمةً به، والعبدُ يتَّهِمُ ويضيق صَدْرُه بذلك!
{وكان الله بما تعملون بصيرا} إشارة إلى أن الله علم التجاءكم إليه ورجاءكم فضله، فنصركم على الأعداء عند الاستعداء، وهذا تقرير لوجوب الخوف وعدم جواز الخوف من غير الله.
فإن قوله: {فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها} أي الله يقضي حاجتكم وأنتم لا ترون، فإن كان لا يظهر لكم وجه الأمن فلا تلتفتوا إلى عدم ظهوره لكم، لأنكم لا ترون الأشياء،فلا تخافون غير الله.
والله بصير بما تعملون فلا تقولوا بأنا نفعل شيئا وهو لا يبصره فإنه بكل شيء بصير.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان، عبر به ليعم المنافقين {اذكروا}، ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم فقال: {نعمة الله} عبر بها لأنها المقصودة بالذات، والمراد إنعام الملك الأعلى الذي لا كفوء له {عليكم} أي لتشكروه عليها بالنفوذ لأمره غير ملتفتين إلى خلاف أحد كائناً من كان، فإن الله كافيكم كل ما تخافون ثم ذكر لهم وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها فقال: {إذ} أي حين {جاءتكم} أي في غزوة الخندق حين اجتمعت عليكم الأحزاب {جنود} وهم الأحزاب من قريش ومن انضم إليه من الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان ابن حرب.
{فأرسلنا} أي تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم في مقاتلتهم ألهمناكم عمل الخندق ليمنعهم من سهولة الوصول إليكم، ثم لما طال مقامهم أرسلنا بما لنا من العظمة {عليهم} أي خاصة {ريحاً}... ولما أجمل سبحانه القصة على طولها في بعض هذه الآية، فصلها فقال ذاكراً الاسم الأعظم إشارة إلى أن ما وقع فيها كان معتنى به اعتناء من بذل جميع الجهد وإن كان الكل عليه سبحانه يسيراً:
{وكان الله} الذي له جميع صفات الكمال و الجلال والجمال {بما يعملون} أي الأحزاب من التحزب والتجمع والتألب والمكر والقصد السيئ -على قراءة البصري
{بصيراً} بالغ الإبصار والعلم، فدبر في هذه الحرب ما كان المسلمون به الأعلين، ولم ينفع أهل الشرك قوتهم، ولا أغنت عنهم كثرتهم، ولا ضر المؤمنين قلتهم، وجعلنا ذلك سبباً لإغنائهم بأموال بني قريظة ونسائهم وأبنائهم وشفاء لأدواتهم بإراقة دمائهم- كما سيأتي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في معترك الحياة ومصطرع الأحداث كانت الشخصية المسلمة تصاغ. ويوما بعد يوم وحدثا بعد حدث كانت هذه الشخصية تنضج وتنموا، وتتضح سماتها. وكانت الجماعة المسلمة التي تتكون من تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوماتها الخاصة وقيمها الخاصة. وطابعها المميز بين سائر الجماعات.
وكانت الأحداث تقسو على الجماعة الناشئة حتى لتبلغ أحيانا درجة الفتنة، وكانت فتنة كفتنة الذهب، تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف؛ وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها، فلا تعود خليطا مجهول القيم.
وكان القرآن الكريم يتنزل في إبان الابتلاء أو بعد انقضائه، يصور الأحداث، ويلقي الأضواء على منحنياته وزواياه، فتنكشف المواقف والمشاعر، والنوايا والضمائر. ثم يخاطب القلوب وهي مكشوفة في النور، عارية من كل رداء وستار؛ ويلمس فيها مواضع التأثر والاستجابة؛ ويربيها يوما بعد يوم، وحادثا بعد حادث؛ ويرتب تأثراتها واستجاباتها وفق منهجه الذي يريد.
ولم يترك المسلمون لهذا القرآن، يتنزل بالأوامر والنواهي، وبالتشريعات والتوجيهات جملة واحدة؛ إنما أخذهم الله بالتجارب والابتلاءات، والفتن والامتحانات؛ فقد علم الله أن هذه الخليقة البشرية لا تصاغ صياغة سليمة، ولا تنضج نضجا صحيحا، ولا تصح وتستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية، التي تحفر في القلوب، وتنقش في الأعصاب؛ وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث. أما القرآن فيتنزل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته؛ وليوجه تلك القلوب وهي منصهرة بنار الفتنة، ساخنة بحرارة الابتلاء، قابلة للطرق، مطاوعة للصياغة!
ولقد كانت فترة عجيبة حقا تلك التي قضاها المسلمون في حياة الرسول [صلى الله عليه وسلم] فترة اتصال السماء بالأرض اتصالا مباشرا ظاهرا، مبلورا في أحداث وكلمات. ذلك حين كان يبيت كل مسلم وهو يشعر أن عين الله عليه، وأن سمع الله إليه؛ وأن كل كلمة منه وكل حركة، بل كل خاطر وكل نية، قد يصبح مكشوفا للناس، يتنزل في شأنه قرآن على رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. وحين كان كل مسلم يحس الصلة المباشرة بينه وبين ربه؛ فإذا حزبه أمر، أو واجهته معضلة، انتظر أن تفتح أبواب السماء غدا أو بعد غد ليتنزل منها حل لمعضلته، وفتوى في أمره، وقضاء في شأنه. وحين كان الله سبحانه بذاته العلية، يقول:أنت يا فلان بذاتك قلت كذا، وعملت كذا وأضمرت كذا وأعلنت كذا. وكن كذا، ولا تكن كذا.. ويا له من أمر هائل عجيب! يا له من أمر هائل عجيب أن يوجه الله خطابه المعين إلى شخص معين.. هو وكل من على هذه الأرض، وكل ما في هذه الأرض، وكل هذه الأرض. ذرة صغيرة في ملك الله الكبير!
لقد كانت فترة عجيبة حقا، يتملاها الإنسان اليوم، ويتصور حوادثها ومواقفها، وهو لا يكاد يدرك كيف كان ذلك الواقع، الأضخم من كل خيال!
ولكن الله لم يدع المسلمين لهذه المشاعر وحدها تربيهم، وتنضج شخصيتهم المسلمة. بل أخذهم بالتجارب الواقعية، والابتلاءات التي تأخذ منهم وتعطي؛ وكل ذلك لحكمة يعلمها، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
هذه الحكمة تستحق أن نقف أمامها طويلا، ندركها ونتدبرها؛ ونتلقى أحداث الحياة وامتحاناتها على ضوء ذلك الإدراك وهذا التدبير.
وهذا المقطع من سورة الأحزاب يتولى تشريح حدث من الأحداث الضخمة في تاريخ الدعوة الإسلامية، وفي تاريخ الجماعة المسلمة؛ ويصف موقفا من مواقف الامتحان العسيرة، وهو غزوة الأحزاب، في السنة الرابعة أو الخامسة للهجرة الامتحان لهذه الجماعة الناشئة، ولكل قيمها وتصوراتها. ومن تدبر هذا النص القرآني، وطريقة عرضه للحادث، وأسلوبه في الوصف والتعقيب ووقوفه أمام بعض المشاهد والحوادث، والحركات والخوالج، وإبرازه للقيم والسنن. من ذلك كله ندرك كيف كان الله يربي هذه الأمة بالأحداث والقرآن في آن.
ولكي ندرك طريقة القرآن الخاصة في العرض والتوجيه فإننا قبل البدء في شرح النص القرآني، نثبت رواية الحادث كما عرضتها كتب السيرة -مع الاختصار المناسب- ليظهر الفارق بين سرد الله سبحانه، وسرد البشر للوقائع والأحداث.
عن محمد بن إسحاق قال -بإسناده عن جماعة:
إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة ابن أبي الحقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] خرجوا حتى قدموا على قريش في مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقالوا:إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. فقالت لهم قريش:يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه؟ قالوا:بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا:هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) إلى قوله: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما. فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا).
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] واتعدوا له.
ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان- من قيس عيلان -فدعوهم إلى حرب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحارث بن عوف من بني مرة، ومسعر بن رخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع.
فلما سمع بهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وما أجمعوا لهم من الأمر ضرب الخندق على المدينة؛ فعمل فيه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وعمل معه المسلمون فيه. فدأب فيه ودأبوا. وأبطأ عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ولا إذن. وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ويستأذنه في اللحوق بحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتسابا له. فأنزل الله في أولئك المؤمنين.. (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه. إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم، واستغفر لهم الله، إن الله غفور رحيم).. ثم قال تعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل، ويذهبون بغير إذن من النبي [صلى الله عليه وسلم]: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا. قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)..
ولما فرغ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، في عشرة الاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة. وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد. وخرج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة الاف من المسلمين؛ فضرب هناك عسكره والخندق بينه وبين القوم،وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام [أي الحصون].
وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم. وكان قد وادع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن قومه، وعاقده على ذلك وعاهده.. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب [أي ما زال يروضه ويخاتله] حتى سمح له- على أن أعطاه عهدا وميثاقا:لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب ابن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله [صلى الله عليه وسلم].
وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف؛ وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف:كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط! وحتى قال أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث:يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو -وذلك عن ملأ من رجال قومه- فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج من المدينة.
فأقام رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة، قريبا من شهر. لم تكن بينه وبينهم حرب إلا الرميا بالنبل والحصار.
فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث ابن عوف -وهما قائدا غطفان- فأعطاهما ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتابة؛ ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ [سيد الأوس] وسعد بن عبادة [سيد الخزرج] فذكر ذلك لهما. و استشارهما فيه، فقالا له:يا رسول الله، أمرا تحبه فنصنعه؟ أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟ قال:"بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما". فقال سعد بن معاذ:يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا. أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: "فأنت وذاك". فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال:ليجهدوا علينا.
وأقام رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر [من غطفان] أتى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال:يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: "إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة".
[وقد فعل حتى أفقد الأحزاب الثقة بينهم وبين بني قريظة في تفصيل مطول تحدثت عنه روايات السيرة ونختصره نحن خوف الإطالة]...
وخذل الله بينهم -وبعث الله عليهم الريح في ليلة شاتية باردة شديدة البرد. فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم [يعني خيامهم وما يتخذونه للطبخ من مواقد... الخ].
فلما انتهى إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعله القوم ليلا.
قال ابن إسحاق:فحدثني زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال:
قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان:يا أبا عبد الله. أرأيتم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وصحبتموه؟ قال:نعم يا ابن أخي. قال:فكيف كنتم تصنعون؟ قال:والله لقد كنا نجهد. فقال:والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. قال:فقال حذيفة:يا ابن أخي. والله لقد رأيتنا مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالخندق، وصلى رسول الله- هويا من الليل؛ ثم التفت إلينا فقال:"من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع، يشرط له رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الرجعة. أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ "فما قام رجل من القوم من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد. فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني. فقال:"يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدث شيئا حتى تأتينا "قال:فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، ولا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال:يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه. قال حذيفة:فأخذت الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت:من أنت؟ قال:فلان ابن فلان! ثم قال أبو سفيان:يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكراع والخف [يعني الخيل والجمال] وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون. ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء.. فارتحلوا فإني مرتحل.. ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث. فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولولا عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلي ألا تحدث شيئا حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم.
قال حذيفة:فرجعت إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو قائم يصلي في مرط [أي كساء] لبعض نسائه مرجل [من وشي اليمن] فلما رآني أدخلني إلى رجليه، وطرح علي طرف المرط؛ ثم ركع وسجد وإني لفيه. فلما سلم أخبرته الخبر.. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
إن النص القرآني يغفل أسماء الأشخاص، وأعيان الذوات، ليصور نماذج البشر وأنماط الطباع. ويغفل تفصيلات الحوادث وجزئيات الوقائع، ليصور القيم الثابتة والسنن الباقية. هذه التي لا تنتهي بانتهاء الحادث، ولا تنقطع بذهاب الأشخاص، ولا تنقضي بانقضاء الملابسات، ومن ثم تبقى قاعدة ومثلا لكل جيل ولكل قبيل. ويحفل بربط المواقف والحوادث بقدر الله المسيطر على الأحداث والأشخاص، ويظهر فيها يد الله القادرة وتدبيره اللطيف، ويقف عند كل مرحلة في المعركة للتوجيه والتعقيب والربط بالأصل الكبير.
ومع أنه كان يقص القصة على الذين عاشوها، وشهدوا أحداثها، فإنه كان يزيدهم بها خبرا، ويكشف لهم من جوانبها ما لم يدركوه وهم أصحابها وأبطالها! ويلقي الأضواء على سراديب النفوس ومنحنيات القلوب ومخبآت الضمائر؛ ويكشف للنور الأسرار والنوايا والخوالج المستكنة في أعماق الصدور.
ذلك إلى جمال التصوير، وقوته، وحرارته، مع التهكم القاصم، والتصوير الساخر للجبن والخوف والنفاق والتواء الطباع! ومع الجلال الرائع والتصوير الموحي للإيمان والشجاعة والصبر والثقة في نفوس المؤمنين.
إن النص القرآني معد للعمل -لا في وسط أولئك الذين عاصروا الحادث وشاهدوه فحسب. ولكن كذلك للعمل في كل وسط بعد ذلك وفي كل تاريخ. معد للعمل في النفس البشرية إطلاقا كلما واجهت مثل ذلك الحادث أو شبهه في الآماد الطويلة، والبيئات المنوعة. بنفس القوة التي عمل بها في الجماعة الأولى.
ولا يفهم النصوص القرآنية حق الفهم إلا من يواجه مثل الظروف التي واجهتها أول مرة. هنا تتفتح النصوص عن رصيدها المذخور، وتتفتح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة. وهنا تتحول تلك النصوص من كلمات وسطور إلى قوى وطاقات. وتنتفض الأحداث والوقائع المصورة فيها. تنتفض خلائق حية، موحية، دافعة، دافقة، تعمل في واقع الحياة، وتدفع بها إلى حركة حقيقية، في عالم الواقع وعالم الضمير.
إن القرآن ليس كتابا للتلاوة ولا للثقافة.. وكفى.. إنما هو رصيد من الحيوية الدافعة؛ وإيحاء متجدد في المواقف والحوادث! ونصوصه مهيأة للعمل في كل لحظة، متى وجد القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب، ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السر العجيب!
وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئات المرات؛ ثم يقف الموقف، أو يواجه الحادث، فإذا النص القرآني جديد، يوحي إليه بما لم يوح من قبل قط، ويجيب على السؤال الحائر، ويفتي في المشكلة المعقدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه القاصد، ويفيء بالقلب إلى اليقين الجازم في الأمر الذي يواجهه، وإلى الاطمئنان العميق.
وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث.
يبدأ السياق القرآني الحديث عن حادث الأحزاب بتذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم أن رد عنهم الجيش الذي هم أن يستأصلهم، لولا عون الله وتدبيره اللطيف. ومن ثم يجمل في الآية الأولى طبيعة ذلك الحادث، وبدءه ونهايته، قبل تفصيله وعرض مواقفه. لتبرز نعمة الله التي يذكرهم بها، ويطلب إليهم أن يتذكروها؛ وليظهر أن الله الذي يأمر المؤمنين باتباع وحيه، والتوكل عليه وحده، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، هو الذي يحمي القائمين على دعوته ومنهجه، من عدوان الكافرين والمنافقين:
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيرا)..
وهكذا يرسم في هذه البداءة المجملة بدء المعركة وختامها، والعناصر الحاسمة فيها.. مجيء جنود الأعداء. وإرسال ريح الله وجنوده التي لم يرها المؤمنون. ونصر الله المرتبط بعلم الله بهم، وبصره بعملهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ابتداء لغرض عظيم من أغراض نزول هذه السورة والذي حفّ بآيات وعِبَر من ابتدائه ومن عواقبه تعليماً للمؤمنين وتذكيراً ليزيدهم يقيناً وتبصيراً. فافتتح الكلام بتوجيه الخطاب إليهم لأنهم أهله وأحقّاءُ به، ولأن فيه تخليد كرامتهم ويقينهم وعناية الله بهم ولطفَه لهم وتحقيراً لعدوّهم ومن يكيد لهم، وأمروا أن يذكروا هذه النعمة ولا ينسوها لأن في ذكرها تجديداً للاعتزاز بدينهم والثقة بربهم والتصديق لنبيئهم صلى الله عليه وسلم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الامتحان الإلهي العظيم في مواجهة الأحزاب:
تتحدّث هذه الآيات والآيات الاُخرى التالية، والتي تشكّل بمجموعها سبع عشرة آية، عن أعسر الامتحانات والاختبارات الإلهية للمؤمنين والمنافقين، واختبار مدى صدقهم في العمل، الذي بحث في الآيات السابقة.
إنّ هذه الآيات تبحث أحد أهمّ حوادث تاريخ الإسلام، أي عن «معركة الأحزاب»، تلك المعركة التي كانت في الواقع نقطة انعطاف في تأريخ الإسلام، وقلبت موازين القوى بين الإسلام والكفر لصالح المسلمين، وكان ذلك النصر مفتاحاً للانتصارات المستقبلية العظيمة، فقد انقصم ظهر الأعداء في هذه الغزوة، ولم يقدروا بعد ذلك على القيام بأيّ عمل مهمّ.
إنّ حرب الأحزاب وكما يدلّ عليها اسمها كانت مجابهة شاملة من قبل عامّة أعداء الإسلام والفئات المختلفة التي تعرّضت مصالحها ومنافعها اللامشروعة للخطر نتيجة توسّع وانتشار هذا الدين.
ويلخّص القرآن الكريم هذه الحادثة في آية واحدة أوّلا، ثمّ يتناول تبيان خصوصياتها في الستّ عشرة آية الأخرى، فيقول: (يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود (كثيرة جدّاً) فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً) ويعلم أعمال كلّ جماعة وما قامت به في هذا الميدان الكبير.
وهنا جملة مطالب تستحقّ الدقّة: 1 إنّ تعبير (اذكروا) يوحي بأنّ هذه الآيات نزلت بعد انتهاء الحرب ومضي فترة من الزمن أتاحت للمسلمين أن يحلّلوا في عقولهم وأفكارهم ما كانوا قد رأوه ليكون التأثير أعمق.
يعني غزوة الخندق والأحزاب وبني قريظة{[12722]} ، وكانت حالا شديدة معقبة بنعمة ورخاء وغبطة ، وتضمنت أحكاما كثيرة وآيات باهرات عزيزة ، ونحن نذكر من ذلك بعون الله تعالى ما يكفي في عشر مسائل :
الأولى : اختلف في أي سنة كانت ، فقال ابن إسحاق : كانت في شوال من السنة الخامسة . وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك رحمه الله : كانت وقعة الخندق سنة أربع ، وهي وبنو قريظة في يوم واحد ، وبين بني قريظة والنضير أربع سنين . قال ابن وهب وسمعت مالكا يقول : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من المدينة ، وذلك قوله تعالى : " إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر " [ الأحزاب : 10 ] . قال : ذلك يوم الخندق ، جاءت قريش من ها هنا واليهود من ها هنا والنجدية من ها هنا . يريد مالك : إن الذين جاؤوا من فوقهم بنو قريظة ، ومن أسفل منهم قريش وغطفان . وكان سببها : أن نفرا من اليهود منهم كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وحيي بن أخطب النضريون وهوذة بن قيس وأبو عمار من بني وائل ، وهم كلهم يهود ، هم الذين حزبوا الأحزاب وألبوا وجمعوا ، خرجوا في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل فأتوا مكة فدعوا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وواعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك ، فأجابهم أهل مكة إلى ذلك ، ثم خرج اليهود المذكورون إلى غطفان فدعوهم إلى مثل ذلك فأجابوهم ، فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على فزارة ، والحارث بن عوف المري على بني مرة ، ومسعود بن رُخيلة على أشجع . فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم وخروجهم شاور أصحابه ، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق فرضي رأيه . وقال المهاجرون يومئذ : سلمان منا . وقال الأنصار : سلمان منا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سلمان منا أهل البيت ) . وكان الخندق أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حر . فقال : يا رسول الله ، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا ، فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين ، ونكص المنافقون وجعلوا يتسللون لواذاً{[12723]} فنزلت فيهم آيات من القرآن ذكرها ابن إسحاق وغيره . وكان من فرغ من المسلمين من حصته عاد إلى غيره ، حتى كمل الخندق . وكانت فيه آيات بينات وعلامات للنبوات .
قلت : ففي هذا الذي ذكرناه من هذا الخبر من الفقه وهي :
الثانية : مشاورة السلطان أصحابه وخاصته في أمر القتال ، وقد مضى ذلك في " آل عمران{[12724]} ، والنمل " . وفيه التحصن من العدو بما أمكن من الأسباب واستعمالها ، وقد مضى ذلك في غير موضع . وفيه أن حفر الخندق يكون مقسوما على الناس ، فمن فرغ منهم عاون من لم يفرغ ، فالمسلمون يد على من سواهم ، وفي البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال : لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق وارى عني الغبار جلدة بطنه ، وكان كثير الشعر ، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ويقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا
وأما ما كان فيه من الآيات وهي :
الثالثة : فروى النسائي عن أبي سكينة رجل من المحررين{[12725]} عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق وقال : " وتمت كلمة ربك صدقا " {[12726]} [ الأنعام : 115 ] الآية ؛ فندر{[12727]} ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر ، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة ، ثم ضرب الثانية وقال : " وتمت " [ الأنعام : 115 ] الآية ، فندر الثلث الآخر ، فبرقت برقة فرآها سلمان ، ثم ضرب الثالثة وقال : " وتمت كلمة ربك صدقا " الآية ؛ فندر الثلث الباقي ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس . قال سلمان : يا رسول الله ، رأيتك حين ضربت ! ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت ذلك يا سلمان ) ؟ فقال : أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله ! قال : ( فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني - قال له من حضره من أصحابه : يا رسول الله ، ادع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم{[12728]} ويخرب بأيدينا بلادهم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم ضربت الضربة الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها حتى رأيتها بعيني - قالوا : يا رسول الله ، ادع الله تعالى أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم ضرب الضربة الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم ) . وخرجه أيضا عن البراء قال : لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحفر الخندق عرض لنا صخرة لا تأخذ فيها المعاول ، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى ثوبه وأخذ المعول وقال : ( باسم الله ) فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة ثم قال : ( الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر إلى قصورها الحمراء الآن من مكاني هذا ) قال : ثم ضرب أخرى وقال : ( باسم الله ) فكسر ثلثا آخر ثم قال : ( الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ) . ثم ضرب الثالثة وقال : ( باسم الله ) فقطع الحجر وقال : ( الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر باب صنعاء ) . صححه أبو محمد عبد الحق .
الرابعة : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع{[12729]} في ثلاثة آلاف وضربوا عسكرهم والخندق بينهم وبين المشركين ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم - في قول ابن شهاب - وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي ، وكان صاحب عقد بني قريظة ورئيسهم ، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهده ، فلما سمع كعب بن أسد حيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه وأبى أن يفتح له ، فقال له : افتح لي يا أخي . فقال له : لا أفتح لك ، فإنك رجل مشؤوم ، تدعوني إلى خلاف محمد وأنا قد عاقدته وعاهدته ، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا ، فلست بناقض ما بيني وبينه . فقال حيي : افتح لي حتى أكلمك وأنصرف عنك . فقال : لا أفعل ؛ فقال : إنما تخاف أن آكل معك جشيشتك ، فغضب كعب وفتح له . فقال : يا كعب ! إنما جئتك بعز الدهر ، جئتك بقريش وسادتها ، وغطفان وقادتها ، قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه ، فقال له كعب : جئتني والله بذل الدهر وبجهام{[12730]} لا غيث فيه ! ويحك يا حيي ؟ دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه ، فلم يزل حيي بكعب يعده ويغره حتى رجع إليه وعاقده على خذلان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأن يسير معهم ، وقال له حيي بن أخطب : إن انصرفت قريش وغطفان دخلت عندك بمن معي من اليهود . فلما انتهى خبر كعب وحيي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وسيد الأوس سعد بن معاذ ، وبعث معهما عبدالله بن رواحة وخوات بن جبير ، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( انطلقوا إلى بني قريظة فإن كان ما قيل لنا حقا فالحنوا لنا لحنا ، ولا تفتوا في أعضاد الناس . وإن كان كذبا فاجهروا به للناس ) فانطلقوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم عنهم ، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لا عهد له عندنا ، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ، وكانت فيه حدة فقال له سعد بن عبادة : دع عنك مشاتمتهم ، فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك ، ثم أقبل سعد وسعد حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة المسلمين فقالا : عضل والقارة - يعرضان بغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه - فقال النبي صلى الله عليه وسلم . ( أبشروا يا معشر المسلمين ) وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف ، وأتى المسلمين عدوهم من فوقهم ، يعني من فوق الوادي من قبل المشرق ، ومن أسفل منهم من بطن الوادي من قبل المغرب ، حتى ظنوا بالله الظنونا ، وأظهر المنافقون كثيرا مما كانوا يسرون ، فمنهم من قال : إن بيوتنا عورة ، فلننصرف إليها ، فإنا نخاف عليها .
وممن قال ذلك : أوس بن قيظي . ومنهم من قال : يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط ! وممن قال : معتب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف . فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى . فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتد على المسلمين البلاء بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري ، وإلى الحارث بن عوف المري ، وهما قائدا غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلان قريشا ويرجعا بقومهما عنهم . وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا أتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فقالا : يا رسول الله ، هذا أمر تحبه فنصنعه لك ، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ، أو أمر تصنعه لنا ؟ قال : ( بل أمر أصنعه لكم ، والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ) فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله ، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى ، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ! ! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال : ( أنتم وذاك ) . وقال لعيينة والحارث : ( انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف ) . وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها .
الخامسة : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم ، والمشركون يحاصرونهم ولا قتال بينهم ، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري من بني عامر بن لؤي ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، وضرار بن الخطاب الفهري ، وكانوا فرسان قريش وشجعانهم ، أقبلوا حتى وقفوا على الخندق ، فلما رأوه قالوا : إن هذه لمكيدة ، ما كانت العرب تكيدها . ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق ، فضربوا خيلهم فاقتحمت بهم ، وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين سلع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ، وأقبلت الفرسان نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود أثبتته الجراح يوم بدر فلم يشهد أحدا ، وأراد يوم الخندق أن يرى مكانه ، فلما وقف هو وخيله . نادى : من يبارز ؟ فبرز له علي بن أبي طالب وقال له : يا عمرو ، إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلتين إلا أخذت إحداهما ؟ قال نعم . قال : فإني أدعوك إلى الله والإسلام . قال : لا حاجة لي بذلك . قال : فأدعوك إلى البراز . قال : يا ابن أخي ، والله ما أحب أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك . فقال له علي : أنا والله أحب أن أقتلك . فحمي عمرو بن عبد ود ونزل عن فرسه ، فعقره وصار نحو علي ، فتنازلا وتجاولا وثار النقع بينهما حتى حال دونهما ، فما انجلى النقع حتى رئي علي على صدر عمرو يقطع رأسه ، فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علي اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين . وقال علي رضي الله عنه في ذلك :
نصرَ الحجارةَ من سفاهةِ رأيه *** ونصرتُ دين محمد بضِرَابِ{[12731]}
نازلته{[12732]} فتركته متجَدِّلاً *** كالجِذْعِ بين دَكَادكٍ ورَوَابِي{[12733]}
وعففت عن أثواب ولو أنني *** كنت المقطَّرَ بَزَّنِي أثوابِي{[12734]}
لا تحسبن الله خاذلَ دينه *** ونبيِّه يا معشر الأحزاب
قال ابن هشام : أكثر أهل العلم بالسير{[12735]} يشك فيها لعلي . قال ابن هشام : وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو ، فقال حسان بن ثابت في ذلك :
فرَّ وألقى لنا رمحه *** لعلك عِكْرِمَ لم تفعلِ
ووليت تعدو كعدو الظَّلِيمِ *** ما إن تجور عن المَعْدَلِ
ولم تُلق ظهرك مستأنسا *** كأن قفاك قَفَا فُرْعُلِ
قال ابن هشام : فرعل صغير الضباع . وكانت عائشة رضي الله عنها في حصن بني حارثة ، وأم سعد بن معاذ معها ، وعلى سعد درع مقلصة{[12736]} قد خرجت منها ذراعه ، وفي يده حربته وهو يقول :
لبِّثْ قليلا يلحق الهَيْجَا جَمَلْ *** لا بأس بالموت إذا كان الأجلْ
ورمي يومئذ سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل{[12737]} . واختلف فيمن رماه ، فقيل : رماه حبان بن قيس ابن العرقة{[12738]} ، أحد بني عامر بن لؤي ، فلما أصابه قال له : خذها وأنا ابن العرقة . فقال له سعد : عرق الله وجهك في النار . وقيل : إن الذي رماه خفاجة بن عاصم بن حبان{[12739]} . وقيل : بل الذي رماه أبو أسامة الجشمي ، حليف بني مخزوم . ولحسان مع صفية بنت عبد المطلب خبر طريف يومئذ ، ذكره ابن إسحاق وغيره . قالت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها : كنا يوم الأحزاب في حصن حسان بن ثابت ، وحسان معنا في النساء والصبيان ، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحر العدو لا يستطيعون الانصراف إلينا ، فإذا يهودي يدور ، فقلت لحسان : انزل إليه فاقتله . فقال : ما أنا بصاحب هذا يا ابنة عبد المطلب ! فأخذت عمودا ونزلت من الحصن فقتلته ، فقلت : يا حسان ، انزل فاسلبه ، فلم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل . فقال : ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب ! قال : فنزلت فسلبته . قال أبو عمر بن عبد البر : وقد أنكر هذا عن حسان جماعة من أهل السير وقالوا : لو كان في حسان من الجبن ما وصفتم لهجاه بذلك الذين كان يهاجيهم في الجاهلية والإسلام ، ولَهُجِيَ بذلك ابنه عبد الرحمن ، فإنه كان كثيرا ما يهاجي الناس من شعراء العرب ، مثل النجاشي وغيره .
السادسة : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي فقال : يا رسول الله ، إني قد أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي ، فمرني بما شئت . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنت رجل واحد من غطفان فلو خرجت فخذلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك{[12740]} معنا فاخرج فإن الحرب خدعة ) . فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان ينادمهم في الجاهلية - فقال : يا بني قريظة ، قد عرفتم ودي إياكم ، وخاصة ما بيني وبينكم . قالوا : قل فلست عندنا بمتهم . فقال لهم : إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم عليه فإن رأوا نهزة{[12741]} أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، ولا طاقة لكم به ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا . ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم : قد عرفتم ودي لكم معشر قريش ، وفراقي محمدا ، وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه نصحا لكم ، فاكتموا علي ، قالوا نفعل . قال : تعلمون أن معشر يهود ، قد ندموا على ما كان من خذلانهم محمدا ، وقد أرسلوا إليه : إنا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان [ رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب ]{[12742]} أعناقهم ، ثم نكون معك على ما بقي منهم حتى نستأصلهم . ثم أتى غطفان فقال مثل ذلك . فلما كان ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله عز وجل لرسوله والمؤمنين ، أرسل أبو سفيان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نناجز محمدا . فأرسلوا إليهم : إن اليوم يوم السبت ، وقد علمتم ما نال منا من تعدى في السبت ، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا ، فلما رجع الرسول بذلك قالوا : صدقنا والله نعيم بن مسعود ، فردوا إليهم الرسل وقالوا : والله لا نعطيكم رهنا أبدا فاخرجوا معنا إن شئتم وإلا فلا عهد بيننا وبينكم . فقال بنو قريظة : صدق والله نعيم بن مسعود . وخذل الله بينهم ، واختلفت كلمتهم ، وبعث الله عليهم ريحا عاصفا في ليال شديدة البرد ، فجعلت الريح تقلب آنيتهم وتكفأ قدورهم .
السابعة : فلما اتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمرهم ، بعث حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم واستتر في غمارهم{[12743]} ، وسمع أبا سفيان يقول : يا معشر قريش ، ليتعرف كل امرئ جليسه . قال حذيفة : فأخذت بيد جليسي وقلت : ومن أنت ؟ فقال أنا فلان . ثم قال أبو سفيان : ويلكم يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، ولقد هلك الكراع والخف{[12744]} وأخلفتنا بنو قريظة ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، ما يستمسك لنا بناء ، ولا تثبت لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، فارتحلوا فإني مرتحل ، ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم . قال حذيفة : ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي إذ بعثني ، قال لي : ( مر إلى القوم فاعلم ما هم عليه ولا تحدث شيئا ) - لقتلته بسهم ، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رحيلهم ، فوجدته قائما يصلي في مرط لبعض نسائه مراجل - قال ابن هشام : المراجل ضرب من وشي اليمن - فأخبرته فحمد الله .
قلت : وخبر حذيفة هذا مذكور في صحيح مسلم ، وفيه آيات عظيمة ، رواه جرير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا عند حذيفة فقال رجل لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت . فقال حذيفة : أنت كنت تفعل ذلك ! لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ) ؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد ، ثم قال : ( ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ) ؟ فسكتنا فلم يجبه أحد . فقال : ( قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم ) فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم . قال : ( اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم{[12745]} علي ) قال : فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام{[12746]} حتى أتيتهم ، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار ، فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه ، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ولا تذعرهم علي ) ولو رميته لأصبته : فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام ، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت ، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها ، فلم أزل نائما حتى أصبحت ، فلما أصبحت قال : ( قم يا نومان ) . ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأحزاب ، رجع إلى المدينة ووضع المسلمون سلاحهم ، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم في صورة دحية بن خليفة الكلبي ، على بغلة عليها قطيفة ديباج فقال له : يا محمد ، إن كنتم قد وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة سلاحها . إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة ، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم حصونهم . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي :
الثامنة : مناديا فنادى : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ، فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة . وقال آخرون : لا نصلّي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت . قال : فما عنف واحدا من الفريقين . وفي هذا من الفقه تصويب المجتهدين . وقد مضى بيانه في " الأنبياء " {[12747]} . وكان سعد بن معاذ إذ أصابه السهم دعا ربه فقال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها ، فإنه لا قوم أحب أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه . اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ، ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة . وروى ابن وهب عن مالك قال : بلغني أن سعد بن معاذ مر بعائشة رضي الله عنها ونساء معها في الأطم{[12748]} ( فارع ){[12749]} ، وعليه درع مقلصة{[12750]} مشمر الكمين ، وبه أثر صفرة وهو يرتجز :
لبِّثْ قليلا يدرك الهَيْجَا جمل *** لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت عائشة رضي الله عنها : لست أخاف أن يصاب سعد اليوم إلا في أطرافه ، فأصيب في أكحله . وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيت رجلا أجمل من سعد بن معاذ حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأصيب في أكحله ثم قال : اللهم إن كان حرب قريظة لم يبق منه شيء فاقبضني إليك ، وإن كان قد بقيت منه بقية فأبقني حتى أجاهد مع رسولك أعداءه ، فلما حكم في بني قريظة توفي ، ففرح الناس وقالوا : نرجو أن يكون قد استجيبت دعوته .
التاسعة : ولما خرج المسلمون إلى بني قريظة أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، ونهض علي وطائفة معه حتى أتوا بني قريظة ونازلوهم ، فسمعوا سب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فانصرف علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله ، لا تبلغ إليهم ، وعرض له . فقال له : ( أظنك سمعت منهم شتمي . لو رأوني لكفوا عن ذلك ) ونهض إليهم فلما رأوه أمسكوا . فقال لهم : ( نقضتم العهد يا إخوة القرود أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ) فقالوا : ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة . وعرض عليهم سيدهم كعب ثلاث خصال ليختاروا أيها شاؤوا : إما أن يسلموا ويتبعوا محمدا على ما جاء به فيسلموا . قال : وتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم ، فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه مكتوبا في كتابكم . وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا ، فيقاتلون حتى يموتوا من آخرهم . وإما أن يبيتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلا . فقالوا له : أما الإسلام فلا نسلم ولا نخالف حكم التوراة ، وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم ، ونحن لا نتعدى في السبت . ثم بعثوا إلى أبي لبابة ، وكانوا حلفاء بني عمرو بن عوف وسائر الأوس ، فأتاهم فجمعوا إليه أبناءهم ونساءهم ورجالهم وقالوا له : يا أبا لبابة ، أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال نعم ، - وأشار بيده إلى حلقه - إنه الذبح إن فعلتم . ثم ندم أبو لبابة في الحين ، وعلم أنه خان الله ورسوله ، وأنه أمر لا يستره الله عليه عن نبيه صلى الله عليه وسلم . فانطلق إلى المدينة ولم يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فربط نفسه في سارية وأقسم ألا يبرح من مكانه حتى يتوب الله عليه فكانت امرأته تحله لوقت كل صلاة . قال ابن عيينة وغيره : فيه نزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " {[12751]} [ الأنفال : 27 ] الآية . وأقسم ألا يدخل أرض بني قريظة أبدا مكانا أصاب فيه الذنب . فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من فعل أبي لبابة قال : ( أما إنه لو أتاني لاستغفرت له ، وأما إذ فعل ما فعل فلا أطلقه حتى يطلقه الله تعالى ) فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة : " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " {[12752]} [ التوبة : 102 ] الآية . فلما نزل فيه القرآن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقه ، فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواثب الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله ، وقد علمت أنهم حلفاؤنا ، وقد أسعفت{[12753]} عبد الله بن أبي ابن سلول في بني النضير حلفاء الخزرج ، فلا يكن حظنا أوكس وأنقص عندك من حظ غيرنا ، فهم موالينا . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم - قالوا بلى . قال - : فذلك إلى سعد بن معاذ ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد ، ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق . فحكم فيهم بأن تقتل المقاتلة ، وتسبى الذرية والنساء ، وتقسم أموالهم . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة ){[12754]} . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا إلى موضع بسوق المدينة اليوم - زمن ابن إسحاق - فخندق بها خنادق ، ثم أمر عليه السلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق ، وقتل يومئذ حيي بن أخطب وكعب بن أسد ، وكانا رأس القوم ، وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة . وكان على حيي حلة فقاحية{[12755]} قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة ، أنملة أنملة لئلا يسلبها . فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي به ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل قال : أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ،
ثم قال : يا أيها الناس ، لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة{[12756]} كتبت على بني إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه . وقتل من نسائهم امرأة ، وهي بنانة امرأة الحكم القرظي التي طرحت الرحى على خلاد ابن سويد فقتلته . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت منهم وترك من لم ينبت . وكان عطية القرظي ممن لم ينبت ، فاستحياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مذكور في الصحابة . ووهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس ولد الزبير بن باطا فاستحياهم . منهم عبد الرحمن بن الزبير أسلم وله صحبة . ووهب أيضا عليه السلام رفاعة بن سموأل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس ، أخت سليط بن قيس من بني النجار ، وكانت قد صلت إلى القبلتين ، فأسلم رفاعة وله صحبة ورواية . وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال : أتى ثابت بن قيس بن شماس إلى ابن باطا - وكانت له عنده يد - وقال : قد استوهبتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدك التي لك عندي ، قال : ذلك يفعل الكريم بالكريم ، ثم قال : وكيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل ؟ قال : فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأعطاه أهله وولده ، فأتى فأعلمه فقال : كيف يعيش رجل لا مال له ؟ فأتى ثابت النبي صلى الله عليه وسلم فطلبه فأعطاه ماله ، فرجع إليه فأخبره ، قال : ما فعل ابن أبي الحقيق الذي كأن وجهه مرآة صينية ؟ قال : قتل . قال : فما فعل المجلسان ، يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة ؟ قال : قتلوا . قال : فما فعلت الفئتان ؟ قال : قتلتا . قال : برئت ذمتك ، ولن أصب فيها دلوا أبدا ، يعني النخل ، فألحقني بهم ، فأبى أن يقتله فقتله غيره . واليد التي كانت لابن باطا عند ثابت أنه أسره يوم بعاث فجز ناصيته وأطلقه .
العاشرة : وقسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما . وقد قيل : للفارس سهمان وللراجل سهم . وكانت الخيل للمسلمين يومئذ ستة وثلاثين فرسا . ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن جنافة{[12757]} أحد بني عمرو بن قريظة ، فلم تزل عنده إلى أن مات صلى الله عليه وسلم . وقيل : إن غنيمة قريظة هي أول غنيمة قسم فيها للفارس والراجل ، وأول غنيمة جعل فيها الخمس . وقد تقدم أن أول ذلك كان في بعث عبد الله بن جحش ؛ فالله أعلم . قال : أبو عمر : وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة قريظة أول غنيمة جرى فيها الخمس بعد نزول قوله : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول " {[12758]} [ الأنفال : 41 ] الآية . وكان عبد الله بن جحش قد خمس قبل ذلك في بعثه ، ثم نزل القرآن بمثل ما فعله ، وكان ذلك من فضائله رحمة الله عليه ، وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة . فلما تم أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الفاضل الصالح سعد بن معاذ ، فانفجر جرحه ، وانفتح عرقه ، فجرى دمه ومات رضي الله عنه . وهو الذي أتى الحديث فيه : ( اهتز لموته عرش الرحمن ) يعني سكان العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه واهتزوا له . وقال ابن القاسم عن مالك : حدثني يحيى بن سعيد قال : لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ، ما نزلوا إلى الأرض قبلها . قال مالك : ولم يستشهد يوم الخندق من المسلمين إلا أربعة أو خمسة .
قلت : الذي استشهد يوم الخندق من المسلمين ستة نفر فيما ذكر أهل العلم بالسير : سعد بن معاذ أبو عمرو من بني عبد الأشهل ، وأنس بن أوس بن عتيك ، وعبد الله بن سهل ، وكلاهما أيضا من بني عبد الأشهل ، والطفيل بن النعمان ، وثعلبة بن غنمة{[12759]} ، وكلاهما من بني سلمة ، وكعب بن زيد من بني دينار بن النجار ، أصابه سهم غرب{[12760]} فقتله ، رضي الله عنهم . وقتل من الكفار ثلاثة : منبه بن عثمان ابن عبيد بن السباق بن عبد الدار ، أصابه سهم مات منه بمكة . وقد قيل : إنما هو عثمان بن أمية بن منبه بن عبيد بن السباق . ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ، اقتحم الخندق فتورط فيه فقتل ، وغلب المسلمون على جسده ، فروي عن الزهري أنهم أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جسده عشرة آلاف درهم فقال : ( لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه ) فخلى بينهم وبينه . وعمرو بن عبد ودّ الذي قتله علي مبارزة ، وقد تقدم . واستشهد يوم قريظة من المسلمين خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو من بني الحارث بن الخزرج ، طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته . ومات في الحصار أبو سنان بن محصن بن حرثان الأسدي ، أخو عكاشة بن محصن ، فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقبرة بني قريظة التي يتدافن فيها المسلمون السكان بها اليوم . ولم يصب غير هذين ، ولم يغز كفار قريش المؤمنين بعد الخندق . وأسند الدارمي أبو محمد في مسنده : أخبرنا يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال : حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي{[12761]} من الليل حتى كفينا ، وذلك قول الله عز وجل : " وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا " [ الأحزاب : 25 ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام فصلى الظهر فأحسن كما كان يصليها في وقتها ، ثم أمره فأقام العصر فصلاها ، ثم أمره فأقام المغرب فصلاها ، ثم أمره فأقام العشاء فصلاها ، وذلك قبل أن ينزل : " فإن خفتم فرجالا{[12762]} أو ركبانا " [ البقرة : 239 ] خرجه النسائي أيضا . وقد مضت هذه المسألة في " طه " {[12763]} . وقد ذكرنا في هذه الغزاة أحكاما كثيرة لمن تأملها في مسائل عشر . ثم نرجع إلى أول الآي وهي تسع عشرة آية تضمنت ما ذكرناه .
قوله تعالى : " إذ جاءتكم جنود " يعني الأحزاب . " فأرسلنا عليهم ريحا " قال مجاهد : هي الصبا ، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم . قال : والجنود الملائكة ولم تقاتل يومئذ . وقال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت الشمال : إن محوة{[12764]} لا تسري بليل . فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) . وكانت هذه الريح معجزة للنبي الله عليه وسلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريبا منها ، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق ، وكانوا في عافية منها ، ولا خبر عندهم بها . " وجنودا لم تروها " وقرئ بالياء ، أي لم يرها المشركون . قال المفسرون : بعث الله تعالى عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها في بعض ، وأرسل الله عليهم الرعب ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر ، حتى كان سيد كل خباء يقول : يا بني فلان هلم إلي فإذا اجتمعوا قال لهم : النجاء النجاء ؛ لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب . " وكان الله بما تعملون بصيرا " وقرئ : " يعملون " بالياء على الخبر ، وهي قراءة أبي عمرو . الباقون بالتاء ، يعني من حفر الخندق والتحرز من العدو .