في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ وَيَتۡلُوهُ شَاهِدٞ مِّنۡهُ وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةًۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ مِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ فَٱلنَّارُ مَوۡعِدُهُۥۚ فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّنۡهُۚ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (17)

1

بعد ذلك يلتفت السياق إلى موقف المشركين من رسول الله [ ص ] وما جاءه من الحق ؛ وإلى هذا القرآن الذي يشهد له بأنه على بينة من ربه ، وأنه مرسل من عنده ؛ كما يشهد له كتاب موسى من قبله . يلتفت السياق إلى هذا الحشد من الأدلة المحيطة بالنبي [ ص ] وبدعوته ورسالته . ذلك ليثبت بهذه الالتفاتة قلب رسول الله [ ص ] والقلة المؤمنة معه . ثم ليوعد الذين يكفرون به من أحزاب المشركين بالنار ؛ وليعرضهم في مشهد من مشاهد العذاب يوم القيامة يجلله الخزي والعار جزاء العتو والاستكبار ؛ وليقرر أن هؤلاء المتبجحين بالباطل ، المعاندين في الحق أعجز من أن يفلتوا من عذاب الله ؛ وأعجز من أن يجدوا لهم من دون الله أولياء ( لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) . . وليعقد بينهم وبين المؤمنين موازنة في صورة حسية مشهودة ؛ تصور الفارق البعيد بين الفريقين في طبيعتهما ، وفي موقفهما وحالهما في الدنيا وفي الآخرة سواء :

( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) .

( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ؛ أولئك يعرضون على ربهم ؛ ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أولياء ، يضاعف لهم العذاب . ما كانوا يستطيعون السمع ، وما كانوا يبصرون . أولئك الذين خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) .

( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون )

( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ، هل يستويان مثلا ؟ أفلا تذكرون ؟ ) . .

إن طول هذه الجملة ، وتنوع الإشارات والإيحاءات فيها ، وتنوع اللفتات والإيقاعات أيضا . . إن هذا كله يشي بما كانت تواجهه القلة المؤمنة ، في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة ؛ ويصور لنا حاجة الموقف إلى هذه المعركة التقريرية الإيحائية ؛ كما يصور لنا طبيعة هذا القرآن الحركية ؛ وهو يواجه ذلك الواقع ويجاهده جهادا كبيرا .

إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة ؛ ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها . والذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون . يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ؛ بعيدا عن المعركة وبعيدا عن الحركة . . إن حقيقة هذا القرآن لا تتكشف للقاعدين أبدا ، وإن سره لا يتجلى لمن يؤثرون السلامة والراحة مع العبودية لغير الله ، والدينونة للطاغوت من دون الله !

( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .

وردت روايات شتى فيما هو المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ) . . وفي قوله تعالى : ( ويتلوه شاهد منه ) . وفي عائد هذه الضمائر في : ( ربه )وفي ( يتلوه ) وفي ( منه ) . . وأرجحها - كما يبدو لي - هو أن المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ) هو رسول الله [ ص ] وبالتبعية له كل من يؤمن بما جاء به - وأن المقصود بقوله تعالى : ( ويتلوه شاهد منه )أي ويتبعه شاهد من ربه على نبوته ورسالته . وهو هذا القرآن الذي يشهد بذاته أنه وحي من الله لا يقدر عليه بشر . ( ومن قبله )- أي من قبل هذا الشاهد وهو القرآن ؛ " كتاب موسى " يشهد كذلك بصدق النبي [ ص ] سواء بما تضمنه من البشارة به ؛ أو بموافقة أصله لما جاء به محمد من بعده .

والذي يرجح هذا عندي هو وحدة التعبير القرآني في السورة - في تصوير ما بين الرسل الكرام وربهم ، من بينة يجدونها في أنفسهم ، يستيقنون معها أن الله هو الذي يوحي إليهم ، ويجدون بها ربهم في قلوبهم وجودا مستيقنا واضحا لا يخالجهم معه شك ولا ريبة . فنوح - عليه السلام - يقول لقومه : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ . . وصالح عليه السلام يقول الكلمة ذاتها : ال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . . وشعيب عليه السلام يقولها كذلك : ( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، ورزقني منه رزقا ) . . فهو تعبير موحد عن حال واحدة للرسل الكرام مع ربهم ، تصور حقيقة ما يجدونه في أنفسهم من رؤية قلبية مستيقنة لحقيقة الألوهية في نفوسهم ؛ ولصدق اتصال ربهم بهم عن طريق الوحي أيضا . . وهذا التوحيد في التعبير عن الحال الواحدة مقصود قصدا في سياق السورة - كما أسلفنا في التعريف بها - لإثبات أن شأن النبي [ ص ] مع ربه ومع الوحي الذي تنزل عليه شأن سائر الرسل الكرام قبله ؛ مما يبطل دعاوى المشركين المفتراة عليه [ ص ] وكذلك لتثبيته هو والقلة المؤمنة معه على الحق الذي معهم ؛ فهو الحق الواحد الذي جاء به الرسل جميعا ، والذي أسلم عليه المسلمون من أتباع الرسل جميعا .

ويكون المعنى الكلي للآية : أفهذا النبي الذي تتضافر الأدلة والشواهد على صدقه وصحة إيمانه ويقينه . . حيث يجد في نفسه بينة واضحة مستيقنة من ربه . وحيث يتبعه - أو يتبع يقينه هذا - شاهد من ربه هو هذا القرآن الدال بخصائصه على مصدره الرباني . وحيث يقوم على تصديقه شاهد آخر قبله ، هو كتاب موسى الذي جاء إماما لقيادة بني إسرائيل ورحمة من الله تنزلت عليهم . وهو يصدق رسول الله [ ص ] بما تضمنه من التبشير به ، كما يصدقه بما فيه من مطابقة للأصول الاعتقادية التي يقوم عليها دين الله كله .

يقول : أفمن كان هذا شأنه يكون موضعا للتكذيب والكفر والعناد كما تفعل الأحزاب التي تناوئه من شتى فئات المشركين ؟ إنه لأمر مستنكر إذن في مواجهة هذه الشواهد المتضافرة من شتى الجهات . .

ثم يعرض مواقف الذين يؤمنون بهذا القرآن والذين يكفرون به من الأحزاب ، وما ينتظر هؤلاء من جزاء في الآخرة . ويعرج على تثبيت الرسول - [ ص ] - والذين يؤمنون بما معه من الحق ؛ فلا يقلقهم شأن المكذبين الكافرين ، وهم كثرة الناس في ذلك الحين :

( أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .

وقد وجد بعض المفسرين إشكالا في قوله تعالى : ( أولئك يؤمنون به )إذا كان المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه )هو شخص رسول الله [ ص ] كما أسلفنا . . فإن أولئك " تعني جماعة يؤمنون بهذا الوحي وبتلك البينة . . ولا إشكال هناك . فالضمير في قوله تعالى ( أولئك يؤمنون به )يعود على " شاهد " وهو القرآن . وكذلك الضمير في قوله تعالى ( ومن قبله )فإنه يعود على القرآن كما أسلفنا . . فلا إشكال في أن يقول : ( أولئك يؤمنون به )- أي بهذا الشاهد أي بهذا القرآن - والرسول [ ص ] هو أول من آمن بما أنزل إليه ، ثم تبعه المؤمنون : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . . . )كما جاء في آية البقرة . . والآية هنا تشير إلى رسول الله [ ص ] وتدمج معه المؤمنين الذين آمنوا بما آمن به هو وبلغهم إياه . . وهو أمر مألوف في التعبير القرآني ، ولا إشكال فيه .

( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) . .

وهو موعد لا يخلف ، والله سبحانه هو الذي قدره ودبره !

( فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .

وما شك رسول الله [ ص ] فيما أوحي إليه ، ولا امترى - وهو على بينة من ربه - ولكن هذا التوجيه الرباني عقب حشد هذه الدلائل والشواهد يشي بما كان يخالج نفس رسول الله [ ص ] من ضيق وتعب ووحشة من جراء تجمد الدعوة وكثرة المعاندين ، تحتاج كلها إلى التسرية عنه بهذا التوجيه والتثبيت . وكذلك ما كان يخالج قلوب القلة المسلمة من ضيق وكرب يحتاج إلى برد اليقين يتنزل عليهم من ربهم الرحيم .

وما أحوج طلائع البعث الإسلامي ؛ وهي تواجه مثل تلك الحال في كل مكان ؛ ويتآزر عليها الصد والإعراض ، والسخرية والاستهزاء ، والتعذيب والإيذاء ؛ والمطاردة بكل صورها المادية والمعنوية ؛ وتتضافر عليها كل قوى الجاهلية في الأرض من محلية وعالمية ؛ وتسلط عليها أبشع ألوان الحرب وأنكدها ؛ ثم تدق الطبول وتنصب الرايات لمن يحاربونها هذه الحرب ومن يطاردونها هذه المطاردة . . .

ما أحوج هذه الطلائع إلى تدبر هذه الآية بكل فقرة فيها ، وبكل إشارة ، وبكل لمحة فيها وكل إيماءة ! ما أحوجها إلى اليقين الذي يحمله التوكيد الرباني الحكيم :

( فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .

وما أحوجها إلى أن تجد في نفوسها ظلالا لما كان يجده الرسل الكرام صلوات الله عليهم وسلامه من بينة من ربهم ، ومن رحمة لا يخطئونها ولا يشكون فيها لحظة ؛ ومن التزام بالمضي في الطريق مهما تكن عقبات الطريق :

( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . . )

إن هذه الطلائع تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم جميعا - وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون . . لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء رسول الله [ ص ] إلى البشرية كلها بهذا الدين ؛ فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد الإسلام الذي جاءها به من قبل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى ، وسائر النبيين !

إنها الجاهلية التي تعترف بوجود الله - سبحانه - أولا تعترف . ولكنها تقيم الناس أربابا في الأرض يحكمونهم بغير ما أنزل الله ؛ ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والأوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الأرباب لا لله . . ثم هي الدعوة الإسلامية للناس كافة أن ينحوا هذه الأرباب الأرضية عن حياتهم وأوضاعهم ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم ، وأن يعودوا إلى الله وحده يتخذونه ربا لا أرباب معه ؛ ويدينون له وحده . فلا يتبعون إلا شرعه ونهجه ، ولا يطيعون إلا أمره ونهيه . . ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك والتوحيد ، وبين الجاهلية والإسلام . وبين طلائع البعث الإسلامي وهذه الطواغيت في أرجاء الأرض والأصنام !

ومن ثم لا بد لهذه الطلائع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الأوان . . وهذا بعض ما نعنيه حين نقول : ( إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة . ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها ، وإن الذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ، بعيدا عن المعركة ، وبعيدا عن الحركة . . . ) .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ وَيَتۡلُوهُ شَاهِدٞ مِّنۡهُ وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةًۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ مِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ فَٱلنَّارُ مَوۡعِدُهُۥۚ فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّنۡهُۚ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (17)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه} يعني القرآن، {شاهد منه}، يقول: يقرأه جبريل، عليه السلام، على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو شاهد لمحمد أن الذي يتلوه محمد من القرآن أنه جاء من الله تعالى.

ثم قال: {ومن قبله كتاب موسى} يقول: ومن قبل كتابك يا محمد، قد تلاه جبريل على موسى، يعني التوراة؛ ، {إماما} يقتدى به، يعني التوراة، {ورحمة} لهم من العذاب، لمن آمن به، {أولئك يؤمنون به}، يعني أهل التوراة يصدقون بالقرآن كقوله في الرعد: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون} [الرعد:36]، يعني بقرآن محمد صلى الله عليه وسلم أنه من الله عز وجل. {ومن يكفر به} بالقرآن {من الأحزاب}... {فالنار موعده}، يقول: ليس الذي عمل على بيان من ربه كالكافر بالقرآن موعده النار ليسوا بسواء، {فلا تك في مرية منه} وذلك أن كفار قريش قالوا: ليس القرآن من الله، إنما تقوله محمد، وإنما يلقيه الري، وهو شيطان... على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {فلا تك في مرية منه}، يقول: في شك من القرآن، {إنه الحق من ربك}، إنه من الله عز وجل، وأن القرآن حق من ربك، {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}، يعني ولكن أكثر أهل مكة لا يصدقون بالقرآن أنه من عند الله تعالى...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ" قد بين له دينه فتبينه، "وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ".

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: يعني بقوله: "أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ "محمدا صلى الله عليه وسلم... عن الحسن: "وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ" قال: لسانه...

وقال آخرون: يعني بقوله: "وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ" محمدا صلى الله عليه وسلم... قال ابن زيد، في قوله: "أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ" قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على بينة من ربه، والقرآن يتلوه شاهد منه أيضا من الله بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم...

وقال آخرون: هو عليّ بن أبي طالب... وقال آخرون: هو جبرئيل...

وقال آخرون: هو ملك يحفظه... وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصواب في تأويل قوله: "وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ": قول من قال: هو جبرئيل، لدلالة قوله: "وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى إماما وَرَحْمَةً" على صحة ذلك وذلك أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لم يتلُ قبل القرآن كتاب موسى، فيكون ذلك دليلاً على صحة قول من قال: عُنِي به لسان محمد صلى الله عليه وسلم، أو محمد نفسه، أو عليّ على قول من قال: عُنِي به عليّ. ولا يعلم أن أحدا كان تلا ذلك قبل القرآن أو جاء به ممن ذكر أهل التأويل أنه عُنِي بقوله: "وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ" غير جبرئيل عليه السلام...

وأما قوله: "إماما"... وقوله "وَرَحْمَةً"... كأنه قيل: ومن قبله كتاب موسى إماما لبني إسرائيل يأَتَمّون به، ورحمة من الله تلاه على موسى... وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ذكر عليه منه، وهو: "أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى إِمَاما وَرَحْمَةً" كمن هو في الضلالة متردّد، لا يهتدي لرشد، ولا يعرف حقّا من باطل، ولا يطلب بعمله إلا الحياة الدنيا وزينتها؟ وذلك نظير قوله: "أمّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللّيْلِ ساجِدا وقائِما يَحْذَرُ الاَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" والدليل على حقيقة ما قلنا في ذلك أن ذلك عَقِيب قوله: "مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا..." الآية، ثم قيل: أهذا خير أمّن كان على بينة من ربه؟...

وقوله: "أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ" يقول: هؤلاء الذين ذكرت يصدّقون ويقرّون به إن كفر به هؤلاء المشركون الذين يقولون: إن محمدا افتراه.

"وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فالنّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّكَ وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ".

يقول تعالى ذكره: ومن يكفر بهذا القرآن فيجحد أنه من عند الله من الأحزاب وهم المتحزبة على مللهم، "فالنار موعده"، إنه يصير إليها في الآخرة بتكذيبه. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ" يقول: فلا تك في شكّ منه، من أن موعد من كفر بالقرآن من الأحزاب النار، وأن هذا القرآن الذي أنزلناه إليك من عند الله، ثم ابتدأ جلّ ثناؤه الخبر عن القرآن، فقال: إن هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد الحقّ من ربك لا شكّ فيه، ولكن أكثر الناس لا يصدّقون بأن ذلك كذلك.

فإن قال قائل: أو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في شكّ من أن القرآن من عند الله، وأنه حقّ، حتى قيل له: فلا تك في مرية منه؟ قيل: هذا نظير قوله: "فإنْ كُنْتَ فِي شَكَ مِمّا أَنْزَلْنا إلَيْكَ" وقد بيّنا ذلك هنالك...

[عن] سعيد بن جبير قال: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مِصْداقه في كتاب الله تعالى، حتى قال «لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ وَلاَ يَهُودِيّ وَلا نَصْرَانِيّ ثُمّ لا يُؤْمِنُ بِمَا أُرْسِلْتُ بِهِ إلاّ دَخَلَ النّارَ». قال سعيد: فقلت أين هذا في كتاب الله؟ حتى أتيت على هذه الآية: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى إماما وَرَحْمَةً أُولَئكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فالنّارُ مَوْعِدُهُ قال: من أهل الملل كلها...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ} معناه: أمّن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتاً بعيداً وتبايناً بيناً، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، كان على بينة {مّن رَّبّهِ} أي على برهان من الله وبيان أنّ دين الإسلام حق وهو دليل العقل {وَيَتْلُوهُ} ويتبع ذلك البرهان {شَاهِدٌ مّنْهُ} أي شاهد يشهد بصحته، وهو القرآن {مِنْهُ} من الله، أو شاهد من للقرآن، فقد تقدّم ذكره آنفاً {وَمِن قَبْلِهِ} ومن قبل القرآن {كِتَابُ موسى} وهو التوراة، أي: ويتلو ذلك البرهان أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى. وقرئ: «كتاب موسى» بالنصب، ومعناه: كان على بينة من ربه، وهو الدليل على أنّ القرآن حق، {وَيَتْلُوهُ}: ويقرأ القرآن {شَاهِدٌ مّنْهُ} شاهد ممن كان على بينة. كقوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسرائيل على مِثْلِه} [الأحقاف: 10]، {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43]، {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} ويتلو من قبل القرآن والتوراة {إِمَاماً} كتاباً مؤتما به في الدين قدوة فيه {وَرَحْمَةً} ونعمة عظيمة على المنزل إليهم {أولئك} يعني من كان على بينة {يُؤْمِنُونَ بِهِ} يؤمنون بالقرآن {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب} يعني أهل مكة ومن ضامهم من المتحزِّبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم {فالنار مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ}: الشك. {مِّنْهُ} من القرآن أو من الموعد...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

...اعلم أن كون كتاب موسى تابعا للقرآن ليس في الوجود بل في دلالته على هذا المطلوب و {إماما} نصب على الحال، فالحاصل أنه يقول اجتمع في تقرير صحة هذا الدين أمور ثلاثة؛

أولها: دلالة البينات العقلية على صحته.

وثانيها: شهادة القرآن بصحته.

وثالثها: شهادة التوراة بصحته. فعند اجتماع هذه الثلاثة لا يبقى في صحته شك ولا ارتياب...

واعلم أنه تعالى وصف كتاب موسى عليه السلام بكونه إماما ورحمة، ومعنى كونه إماما أنه كان مقتدى العالمين، وإماما لهم يرجعون إليه في معرفة الدين والشرائع، وأما كونه رحمة فلأنه يهدي إلى الحق في الدنيا والدين، وذلك سبب لحصول الرحمة والثواب، فلما كان سببا للرحمة أطلق اسم الرحمة عليه إطلاقا لاسم المسبب على السبب.

ثم قال تعالى: {أولئك يؤمنون به} والمعنى: أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم في صحة هذا الدين يؤمنون...

ثم قال: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} والتقدير: لما ظهر الحق ظهورا في الغاية، فكن أنت متابعا له ولا تبال بالجهال سواء آمنوا أو لم يؤمنوا، والأقرب أن يكون المراد لا يؤمنون بما تقدم ذكره من وصف القرآن...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده، من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]... فالمؤمن باق على هذه الفطرة. [وقوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} أي]: وجاءه شاهد من الله، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء، من الشرائع المطهرَة المُكَمَّلَة المعظَّمة المُخْتَتَمَةِ بشريعة محمد، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. ولهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وأبو العالية، والضحاك، وإبراهيم النَّخَعي، والسُّدِّي، وغير واحد في قوله تعالى: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} إنه جبريل عليه السلام...

.وعن علي، والحسن، وقتادة: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وكلاهما قريب في المعنى؛ لأن كلا من جبريل ومحمد، صلوات الله عليهما، بلَّغ رسالة الله تعالى، فجبريل إلى محمد، ومحمد إلى الأمة. وقيل: هو عليّ. وهو ضعيف لا يثبت له قائل، والأول والثاني هو الحق؛ وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة، والفطرة تصدقها وتؤمن بها؛

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما اتضحت الحجج وانتهضت الدلائل فأغرقتهم عوالي اللجج، كان ذلك موضع الإنكار على من يسوي بين المهتدي والمعتدي، فكيف بمن يفضل إما باعتبار النظر إلى الرئاسة الدنيوية غفلة من حقائق الأمور أو عناداً كمن قال من اليهود للمشركين: أنتم أهدى منهم، فقال: {أفمن كان على بينة} أي برهان وحجة {من ربه} بما آتاه من نور البصيرة وصفاء العقل فهو يريد الآخرة ويبني أفعاله على أساس ثابت {ويتلوه} أي ويتبع هذه البينة {شاهد} هو القرآن {منه} أي من ربه، أو تؤيد ذلك البرهان برسالة رسول عربي بكلام معجز وكان {من قبله} أي هذا الشاهد مؤيداً له {كتاب موسى} أي شاهد أيضاً وهو التوراة حال كونه {إماماً} يحق الاقتداء به {ورحمة} أي لكل من اتبعه. ولما كان الجواب ظاهراً حذفه، وتقديره -والله أعلم: كمن هو على الضلالة فهو يريد الدنيا فهو يفعل من المكارم ما ليس مبنياً على أساس صحيح، فيكون في دار البقاء والسعادة هباء منثوراً؛ ولما كان هذا الذي على البينة عظيماً، ولم يكن يراد به واحداً بعينه، استأنف البيان لعلو مقامه بأداة الجمع بشارة لهذا النبي الكريم بكثرة أمته فقال: {أولئك} أي العالو الرتبة بكونهم على هدى من ربهم وتأيد هداهم بشاهد من قبله وشاهد من بعده مصدق له {يؤمنون به} أي بهذا القرآن الذي هو الشاهد ولا ينسبون الآتي به إلى أنه افتراه {ومن يكفر به} أي بهذا الشاهد {من الأحزاب} من جميع الفرق وأهل الملل سواء، سوى بين الفريقين جهلاً أو عناداً {فالنار موعده} أي وعيده وموضع وعيده يصلى سعيرها ويقاسي زمهريرها. ولما عم بوعيد النار، اشتد تشوف النفس لما سبب عنه فقرب إزالة ما حملت من ذلك بالإيجاز، فاقتضى الأمر حذف نون "تَكن "فقيل: {فلا تكُ} أي أيها المخاطب الأعظم {في مرية} أي شك عظيم ووهم {منه} أي من القرآن ولا يضيق صدرك عن إبلاغه، أو من الوعد الذي هو النار والخيبة وإن أنعمنا على المتوعد بذلك ونعمناه في الدنيا؛ ثم علل النهي بقوله: {إنه} القرآن أو الموعد {الحق} أي الكامل، وزاد في الترغيب فيه بقوله: {من ربك} أي المحسن إليك بإنزاله عليك. ولما كان كونه حقاً سبباً يعلق الأمل بإيمان كل من سمعه، قال: {ولكن أكثر الناس} أي الذين هم في حيز الاضطراب {لا يؤمنون} بأنه حق لا لكون الريب يتطرق إليه بل لما على قلوبهم من الرين ويؤولون إليه من العذاب المعد لهم ممن لا يبدل القول لديه ولا ينسب الظلم إليه، والقصد بهذا الاستفهام الحث على ما حث عليه الاستفهام في قوله {فهل أنتم مسلمون} من الإقبال على الدين الحق على وجه مبين لسخافة عقول الممترين وركاكة آرائهم...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ من ربّهِ} أي برهانٍ نيِّرٍ عظيمِ الشأنِ يدل على حقية ما رَغّب في الثبات عليه من الإسلام وهو القرآنُ، وباعتباره أو بتأويل البرهانِ ذُكر الضميرُ الراجعُ إليها في قوله تعالى: {وَيَتْلُوهُ} أي يتبعه {شَاهِدٌ} يشهد بكونه من عند الله تعالى وهو الإعجازُ في نظمه المطّردِ في كل مقدارِ سورةٍ منه أو ما وقع في بعض آياتِه من الإخبار بالغيب، وكلاهما وصفٌ تابعٌ له شاهدٌ بكونه من عند الله عز وجل غيرَ أنه على التقدير الأولِ يكون في الكلامِ إشارةٌ إلى حال رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في تمسّكهم بالقرآن عند تبيُّنِ كونِه منزلاً بعلم الله بشهادة الإعجاز {مِنْهُ} أي من القرآنِ غيرَ خارجٍ عنه أو من جهة الله تعالى فإن كلاًّ منهما واردٌ من جهته تعالى للشهادة، ويجوز على هذا التقديرِ أن يراد بالشاهد المعجزاتُ الظاهرةُ على يدَيْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أيضاً من الشواهد التابعةِ للقرآن الواردةِ من جهته تعالى، فالمرادُ بَمنْ في قوله تعالى: {أَفَمَنِ} كلُّ من اتصف بهذه الصفةِ الحميدةِ فيدخُل فيه المخاطَبون بقوله تعالى {فاعلموا فَهَلْ أَنتُمْ} [هود: 14] دخولاً أولياً... ولما كان المرادُ بتلوّ الشاهدِ للبرهان إقامةَ الشهادة بصحته وكونِه من عند الله تابعاً له بحيث لا يفارقه في مشهد من المشاهد فإن القرآنَ بيِّنةٌ باقيةٌ على وجه الدهرِ مع شاهدها الذي يشهد بأمرها إلى يوم القيامةِ عند كلِّ مؤمنٍ وجاحدٍ عُطف كتابُ موسى في قوله عز قائلاً: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} على فاعله مع كونه مقدَّماً عليه في النزول فكأنه قيل: أفمن كان على بينةٍ من ربه ويشَهد به شاهدٌ منه وشاهدٌ آخرُ مِنْ قبله هو كتابُ موسى، وإنما قُدّم في الذكر المؤخَّرِ في النزول لكونه وصفاً لازماً له غيرَ مفارِقٍ عنه ولعراقته في وصف التلوِّ، والتنكيرُ في (بينةٍ) و (شاهدٌ) للتفخيم {إِمَاماً} أي مؤتماً به في الدين ومقتدىً، وفي التعرض لهذا الوصفِ بصدد بيانِ تلوِّ الكتابِ ما لا يخفى من تفخيم شأنِ المَتْلوِّ {وَرَحْمَةً} أي نعمةً عظيمة على من أُنزل إليهم ومَنْ بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامِه الباقيةِ المؤيَّدةِ بالقرآن العظيمِ وهما حالان من الكتاب. {أولئك} الموصوفون بتلك الصفةِ الحميدةِ وهو الكونُ على بينة من الله، ولِما أن ذلك عبارةٌ عن مطلق التمسكِ بها وقد يكون ذلك بطريق التقليدِ لمن سلف من عظماء الدين من غير عُثورٍ على دقائق الحقائقِ وصفهم بأنهم {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي يصدقونه حقَّ التصديقِ حسبما تشهد به الشواهدُ الحقّة المعربةُ عن حقيته {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} أي بالقرآن ولم يصدِّق بتلك الشواهد الحقَّةِ {من الأحزاب} من أهل مكةَ ومن تحزّب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم {فالنار مَوْعِدُهُ} يردّها لا محالة حسبما نطَق به قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ في الآخرة إِلاَّ النار} [هود، الآية 16] وفي جعلها موعداً إشعارٌ بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذابِ {فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ منْهُ} أي في شك من أمر القرآنِ وكونِه من عند الله عز وجل حسبما شهِدت به الشواهدُ المذكورةُ وظهر فضلُ من تمسك به {أَنَّهُ الحق مِن ربّكَ} الذي يربِّيك في دينك ودنياك {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بذلك إما لقصور أنظارِهم واختلالِ أفكارِهم وإما لعنادهم واستكبارِهم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذه الآية في المقابلة والموازنة بين من يهتدي ويهدي بالقرآن على علم وبينة ومن يكفر به على جهل وتقليد، أو عناد وجحود، فهي صلة بين ما قبلها وما بعدها.

{أفمن كان على بينة من ربه} أي على حجة وبصير من ربه فما يؤمن به ويدعو إليه هاديا مهتديا به، فالبينة ما يتبين به الحق في كل شيء بحسبه، كالبرهان في العقليات، والنصوص في النقليات، والخوارق في الإلهيات، والتجارب في الحسيات، والشهادات في القضائيات، والاستقراء في إثبات الكليات، وقد نطق القرآن بأن الرسل كلهم قد جاءوا بالبينات، وأن كل نبي منهم كان يحتج على قومه بأنه على بينة من ربه، وأنه جاءهم ببينة من ربهم، كما ترى في قصصهم من سورة الأعراف وهذه السورة وكانت بيناتهم قسمين: حججا عقلية، وآيات كونية، وكان من لم يقتنع ببينة الرسول أو يكابرها يقولون: {ما جئتنا ببينة} [هود: 53] وكان من جحد الآية الكونية بعد التحدي والإنذار بالعذاب يهلكون بعذاب الاستئصال، وتجد هذا وذاك مفصلا في قصصهم من هذه السورة، وفرق بين قول الرسول منهم (إني على بينة من ربي) وقوله: (قد جئتكم ببينة من ربكم) فالأولى ما علم هو به أنه رسول من ربه بوحيه إليه، وبإظهاره على ما شاء من رؤية ملك الوحي وغيره من عالم الغيب، والثانية ما آتاه من الحجة العقلية على قومه كقوله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: 83] أو ما آتاه من آية كونية نستخذي لها أنفسهم، وتنقطع بها مكابرتهم.

وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يطلق البينة تارة على الحجة والبرهان، وتارة على آيته الكبرى الجامعة للبراهين الكثيرة وهي القرآن، قال تعالى له: {قل إني على بينة من ربي وكذبتم به} [الأنعام: 57] وأمره أن يقول لهم بعد ذكر موسى والتوراة {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كان عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون} [الأنعام: 155-157] فهذا السياق يشبه سياق الآية التي نفسرها.

وفي المراد بصاحب البينة فيها وجهان: أحدهما: أنه عام قوبل به ما قبله وهو من لا يريدون من حياتهم إلا لذات الدنيا وزينتها، وإن البينة هي نور البصيرة الفطرية والحجة العقلية التي يميز بها الإنسان بين الحق والباطل، والهدى والضلال. والمعنى: أفمن كان على بينة وبصيرة في دينه من ربه –فهو كقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} [الزمر: 22] {ويتلوه شاهد منه} أي ويتبع هذا النور الفطري والبرهان العقلي المراد بالبينة وأعاد الضمير عليها مذكر باعتبار معناها، ويؤيده نور آخر غيبي إلهي منه تعالى يشهد بحقيته وصحته، وهو هذا القرآن، الذي هو مشرق النور والهدى والبرهان.

{ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة} ويتبعه ويؤيده شاهد آخر جاء من قبله وهو الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام حال كونه إماما متبعا في الهدى والتشريع، ورحمة لمن آمن وعمل به من بني إسرائيل، وشهادته له من وجهين: شهادة مقال وشهادة حال، فالأولى تصريحه بالبشارة بنبوة محمد ورسالته وقد بيناها مفصلة في تفسير والثانية ما بين رسالة موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام من التشابه.

وحاصل المعنى أفمن كان هذا شأنه في كمال الفطرة والعقل، الذي عرف به حقية الوحي العام الأخير، وما فيه من كمال الهداية والنور، وعرف تأييده بالوحي السابق الذي اهتدى به بنو إسرائيل، فاتسقت له أنوار الحجج الثلاث في هداية دينه، كمن كان يريد من حياته الحياة الدنيا الناقصة الفانية وزينتها الموقتة، محروما من الحياة العقلية والروحية العالية، الموصولة إلى سعادة الآخرة الباقية.

{أولئك يؤمنون به} أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الجمع بين البينة الوهبية، وشهادة الوحي لعقائدهم وأعمالهم الكسبية، يؤمنون بهذا القرآن إيمان معرفة وإذعان، على علم بما فيه من الهدى والفرقان، وأنه ما كان أن يفترى من دون الله {ومن يكفر به من الأحزاب} الذين تحزبوا من أهل مكة وزعماء قريش للصد عنه، وقال مقاتل هم بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي وآل طلحة بن عبيد الله، والذين سيتحزبون لمثل ذلك من أهل الكتاب {فالنار موعده} أي فإن نار جهنم هي الدار التي ينتهون إليها بمقتضى وعده تعالى آنفا: {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار} [هود: 16] وما في معناه في السور الكثيرة، فالموعد اسم مكان.

{فلا تكن في مرية منه} أي فلا تكن أيها المكلف العاقل في شك من هذا الوعد، أو من أمر هذا القرآن {إنه الحق من ربك} إنه هو الحق الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من ربك وخالقك الذي يربيك بما تكمل به فطرتك ويوصلك إلى السعادة في دنياك وآخرتك {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} هذا الإيمان الكامل، أما المشركون فلاستكبار زعمائهم ورؤسائهم، وتقليد مرؤوسيهم ودهمائهم، وأما أهل الكتاب فلتحرفيهم وابتداعهم في دين أنبيائهم، قال ابن عباس: المراد بالناس في مثل هذه الآية أهل مكة، وقال غيره: جميع الكفار، ولكن أكثر أهل مكة أو كلهم كانوا قد آمنوا في عهد ابن عباس (رضي الله عنهما) فإذا صحت الرواية عنه مراده بيان حالهم عند نزول السورة، وأن فعل المضارع لبيان الحال الواقع.

الوجه الثاني: في الآية أن المراد ب (من كان على بينة من ربه) فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن تكون البينة على هذا علمه اليقيني الضروري بنبوته كما تقدم، وسيأتي مثله في هذه السورة حكاية عن نوح في الآية 28 وعن صالح في الآية 63 وعن شعيب في الآية 88 ويكون الشاهد الذي يتلوه منه تعالى القرآن، وهو الأظهر عندي، وروي عن ابن عباس ومجاهد والنخعي والضحاك وعكرمة وأبي صالح وسعيد بن جبير أن البينة القرآن والشاهد جبريل عليه السلام، وقوله: [يتلوه] على هذا من التلاوة لا من التلو والتبعية، فهو الذي كان يقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم عند نزوله به، وكان يعارضه ويدارسه في رمضان من كل سنة جميع ما نزل منه، حتى إذا كان آخر رمضان من آخر عمره صلى الله عليه وسلم عارضه القرآن مرتين.

وفي الشاهد روايات أخرى ضعيفة الرواية والدراية:"منها" أنه ملك "آخر "غير جبريل كان يحفظه القرآن أن ينسى منه شيء، "ومنها" أنه لسانه صلى الله عليه وسلم الذي كان يتلوه به على الناس، "ومنها" أنه علي [رضي الله عنه] يرويه الشيعة ويفسرونه بالإمامة، وروي أنه كرم الله وجهه سئل عنه فأنكره وفسره بأنه لسانه صلى الله عليه وسلم، وقابلهم خصومهم بمثلها فقالوا إنه أبو بكر، وهما من التفسير بالهوى، وأنت ترى أن بقية الآية لا تظهر على هذا الوجه بالجلاء والضياء الذي يظهر به الوجه الأول، بل يحتاج الجمع في قوله تعالى: {أولئك يؤمنون به} إلى تأويل متكلف.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يذكر تعالى، حال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من ورثته القائمين بدينه، وحججه الموقنين بذلك، وأنهم لا يوصف بهم غيرهم ولا يكون أحد مثلهم، فقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} بالوحي الذي أنزل الله فيه المسائل المهمة، ودلائلها الظاهرة، فتيقن تلك البينة. {وَيَتْلُوهُ} أي: يتلو هذه البينة والبرهان برهان آخر {شَاهِدٌ مِنْهُ} وهو شاهد الفطرة المستقيمة، والعقل الصحيح، حين شهد حقيقة ما أوحاه الله وشرعه، وعلم بعقله حسنه، فازداد بذلك إيمانا إلى إيمانه...

{إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} إما جهلا منهم وضلالا، وإما ظلما وعنادا وبغيا، وإلا فمن كان قصده حسنا وفهمه مستقيما، فلا بد أن يؤمن به، لأنه يرى ما يدعوه إلى الإيمان من كل وجه...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

بعد ذلك يلتفت السياق إلى موقف المشركين من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وما جاءه من الحق؛ وإلى هذا القرآن الذي يشهد له بأنه على بينة من ربه، وأنه مرسل من عنده؛ كما يشهد له كتاب موسى من قبله. يلتفت السياق إلى هذا الحشد من الأدلة المحيطة بالنبي [صلى الله عليه وسلم] وبدعوته ورسالته. ذلك ليثبت بهذه الالتفاتة قلب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والقلة المؤمنة معه. ثم ليوعد الذين يكفرون به من أحزاب المشركين بالنار؛ وليعرضهم في مشهد من مشاهد العذاب يوم القيامة يجلله الخزي والعار جزاء العتو والاستكبار؛ وليقرر أن هؤلاء المتبجحين بالباطل، المعاندين في الحق أعجز من أن يفلتوا من عذاب الله؛ وأعجز من أن يجدوا لهم من دون الله أولياء (لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون).. وليعقد بينهم وبين المؤمنين موازنة في صورة حسية مشهودة؛ تصور الفارق البعيد بين الفريقين في طبيعتهما، وفي موقفهما وحالهما في الدنيا وفي الآخرة سواء...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الفاء للتفريع على جملة {أم يقولون افتراه إلى قوله: فهل أنتم مسلمون} [هود: 13، 14] وأن ما بينهما اعتراض لتقرير توغلهم في المكابرة وابتعادهم عن الإيمان، وهذا التفريع تفريع الضدّ على ضده في إثبات ضد حكمه له، أي إن كان حال أولئك المكذبين كما وُصف فثَمّ قوم هم بعكس حالهم قد نفعتهم البيّنات والشواهد، فهم يؤمنون بالقرآن وهم المسلمون وذلك مقتضى قوله: {فهل أنتم مسلمون} [هود: 14]، أي كما أسلم من كانوا على بيّنة من ربهم منكم ومن أهل الكتاب. والهمزة للاستفهام التقريري، أي إن كفر به هؤلاء أفيُؤمِنُ به من كان على بينة من ربه... و {مَن كان على بيّنة} لا يراد بها شخص معيّن. فكلمة (مَن) هنا تكون كالمعرّف بلام العهد الذهني صادقة على من تحققت له الصلة، أعني أنه على بينة من ربه. وبدون ذلك لا تستقيم الإشارة. وإفراد ضمائر {كان على بيّنة من ربه} مراعاةٌ للفظ (مَن) الموصولة وذلك أحد استعمالين. والجمع في قوله: {أولئك يؤمنون} مراعاة لمعنى (مَن) الموصولة وذلك استعمال آخر. والتقدير: أفمن كانوا على بينة من ربهم أولئك يؤمنون به...

والذين هم على بينة من ربهم يجوز أن يكونوا النصارى فقط فإنهم كانوا منتشرين في العرب ويعرف أهل مكة كثيراً منهم، وهم الذين عرفوا أحقية الإسلام مثل ورقة بن نوفل ودحية الكلبي، ويجوز أن يراد النصارى واليهود مثل عبد الله بن سلام ممّن آمن بعد الهجرة فدلوا على تمكنهم من معرفة البينة لصحة أفهامهم ولوضوح دلالة البيّنة، فأصحابها مؤمنون بها. والمراد بالبيّنة حجة مجيء الرسول المبشّر به في التوراة والإنجيل. فكون النصارى على بينة من ربهم قبل مجيء الإسلام ظاهر لأنهم لم يكذّبُوا رسولاً صادقاً. وكون اليهود على بيّنة إنما هو بالنسبة لانتظارهم رسولاً مبشّراً به في كتابهم وإن كانوا في كفرهم بعيسى عليه السلام ليسوا على بيّنة. فالمراد على بيّنة خاصة يدل عليها سياق الكلام السابق من قوله: {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} [هود: 14]، ويعينها اللاحق من قوله: {أولئك يؤمنون به} أي بالقرآن. و (مِن) في قوله: {من ربه} ابتدائية ابتداء مجازياً. ومعنى كونها من ربه أنها من وحي الله ووصايته التي أشار إليها قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لمَا مَعكم لتُؤمنن به ولتنصرنه} [آل عمران: 81] وقوله: {الذينَ يَتبعون الرسول النّبيء الأمّيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التّوراة والإنجيل} [الأعراف: 157]. وذكر كتاب موسى وأنه من قبله يشير إلى أن البيّنة المذكورة هنا من الإنجيل، ويقوي أن المراد ب {من كان على بينة من ربه} النصارى...

و {إماماً ورحمة} حالان ثناء على التوراة بما فيها من تفصيل الشريعة فهو إمام يهتدى به ورحمة للنّاس يعملون بأحكامها فيرحمهم الله في الدنيا بإقامة العدل وفي الآخرة بجزاء الاستقامة إذ الإمام ما يؤتم به ويعمل على مثاله...

وحاصل معنى الآية وارتباطها بما قبلها {فهل أنتم مسلمون} [هود: 14] فإن الذين يؤمنون به هم الذين كانوا على بيّنة من ربّهم مؤيّدة بشاهد من ربهم ومعضودة بكتاب موسى عليه السلام من قَبْل بيّنتهم... وجملة {ومن يكفر به من الأحزاب} عطف على جملة {أفمن كان على بيّنة من ربّه} لأنه لمّا حرض أهل مكة على الإسلام بقوله: {فهل أنتم مسلمون} [هود: 14]، وأراهم القِدْوة بقوله: {أولئك يؤمنون به}، عاد فحذر من الكفر بالقرآن فقال: {ومن يكفر به من الأحزاب}، وأعرض عما تبين له من بيّنة ربه وشواهد رسله فالنّار موعده. والأحزاب: هم جماعات الأمم الذين يجمعهم أمْرٌ يجتمعون عليه، فالمشركون حزب، واليهود حزب، والنصارى حزب، قال تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوحٍ وعادً وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة أولئك الأحزاب} [ص: 12، 13]. والباء في {يكفر به} كالباء في {يؤمنون به}. والموعد: ظرف للوعد من مكان أو زمان. وأطلق هنا على المصير الصائر إليه لأن شأن المكان المعيّن لعمل أن يعين به بوعد سابق. {فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}. تفريع على جملة {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم. والنهي مستعمل كناية تعريضية بالكافرين بالقرآن لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ونقصه، فمن لوازمه ذم المتلبس بالمنهي عنه. ولما كان المخاطب غير مظنة للتلبس بالمنهي عنه فيُطلبَ منه تركه ويكون النهيُ طلبَ تحصيل الحاصل، تعيّنَ أن يكون النهي غير مراد به الكفّ والإقلاع عن المنهي عنه فيكون مستعملاً في لازم ذلك بقرينة المقام، ومما يزيد ذلك وضوحاً قوله تعالى في سورة آلم [السجدة: 23] {ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه} فإنه لو كان المقصود تحذير النّبيء صلى الله عليه وسلم من الامتراء في الوحي لما كان لتفريع ذلك على إيتاء موسى عليه السلام الكتاب ملازمة، ولكن لما كان المراد التعريض بالذين أنكروا الوحي قدّم إليهم احتجاجَ سبق الوحي لموسى عليه السلام. و {في} للظرفية المجازية المستعملة في تمكن التلبس نظراً لحال الذين استعمل النهي كناية عن ذمّهم فإنهم متلبسون بمزية شديدة في شأن القرآن. وضميرا الغيبة عائدان إلى القرآن الذي عاد إليه ضمير {افتراه} [هود: 13]. وجملة {إنه الحق من ربك} مستأنفة تأكيد لما دلت عليه جملة {فلا تَكُ في مرية منه} من أنه لوضوح حقيته لا ينبغي أن يمترى في صدقه. وحرف التأكيد يقوم مقام الأمر باعتقاد حقيته لما يدل عليه التأكيد من الاهتمام. والمرية: الشك. وهي مرادفة الامتراء المتقدم في أول الأنعام. واختير النهي على المرية دون النهي عن اعتقاد أنه كذب كما هو حال المشركين، لأن النهي عن الامتراء فيه يقتضي النهي عن الجزم بالكذب بالأوْلى، وفيه تعريض بأن ما فيه المشركون من اليقين بكذب القرآن أشد ذمّاً وشناعة. و {مِن} ابتدائية، أي في شك ناشئ عن القرآن، وإنما ينشأ الشك عنه باعتبار كونه شكّاً في ذاته وحقيقته لأن حقيقة القرآنية أنه كتاب من عند الله، فالشك الناشئ على نزوله شك في مجموع حقيقته. وهذا مثل الضمير في قوله: {يؤمنون به} من غير احتياج إلى تقدير مضاف يؤول به إلى إضافة الحكم إلى الأعيان المراد أوصافها. وتعريف {الحق} لإفادة قصر جنس الحق على القرآن. وهو قصر مبالغة لكمال جنس الحق فيه حتى كأنه لا يوجد حق غيره مثل قولك: حاتم الجواد. والاستدراك بقوله: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} ناشئ على حكم الحصر، فإنّ الحصر يقتضي أن يؤمن به كل من بلغه ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. والإيمان هو التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين. وحذف متعلق {يؤمنون} لأن المراد انتفاء حقيقة الإيمان عنهم في كل ما طلب الإيمان به من الحق، أي أن في طباع أكثر الناس تغليب الهوى على الحق فإذا جاء ما يخالف هواهم لم يؤمنوا...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

هذه موازنة بين الذين يتبعون الحق والذين يطلبون الدنيا وزينتها وتكون وحدها مقصدهم ويشركون بالله تعالى، وبين الذين يؤمنون بالله. {أفمن كان على بينة من ربه} (الفاء) هنا مؤخرة عن تقديم، وهي تفيد أن الاستفهام المتسائل مترتب على ما قبله من عمل غير فاضل، وكلمة {من} اسم موصول بمعنى الذي، والمعنى أمن كان على بينة من ربه كمن هو في عماية عن الحق ولا يدرك إلا الحياة الدنيا، وحذفت الموازنة الدالة على المفارقة الواضحة بينهما، إذا فرق بين من يطلب الحق الباقي ومن يطلب العاجل الفاني. (البينة) الأمر البين الذي تدركه العقول السليمة في غير اعوجاج، ويصح أن يراد به الإسلام؛ لأنه بين لا يأتي إلا بما تقبله العقول ولا ينهي إلا عن الأمر المنكر غير المعقول؛ ولأنه دين الفطرة السليمة. أسند الله تعالى البينة إلى ربه، للدلالة على أن الهادي إليها بمقتضى ما ركزه الله تعالى في النفوس، وبمقتضى ما هدى إليه بالرسلات الإلهية، وقال تعالى: {بينة من ربه} بالتعدية ب {على} للدلالة على تمكنه من المعرفة، وأنها ليست وهما يتوهم ولا ظنا يظن بل عقيدة متمكنة. ذكر الله تعالى بعد البينة أن لها شاهدا من الله تعالى: {ويتلوه شاهدا منه} أي يجيء شاهدا من الله، فالضمير الأول في {يتلوه} يعود إلى البينة، وعاد مذكرا لأن البينة البرهان القاطع الحاسم الذي تهدى إليه الفطرة، فعاد الضمير مذكرا للإشارة إلى أنها برهان بين واضح الدلالة على الوحدانية. والضمير الثاني في قوله {شاهد} يعود على الله ربك، أي أنه هداك وأيدك، والشاهد هو القرآن الكريم النازل من لدن عزيز حكيم. وإن القرآن الكريم جاء مع البينة، وقلنا إنها الإسلام، فكيف يقال إنه وليها ونقول في ذلك إن الإسلام يكون دفعة واحدة؛ لأن لبه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والقرآن نزل منجما فهو كان يتلى على بعده لا قبله، وإن قلنا إن البينة هي برهان العقل المدرك فالقرآن جاء واليا، جاء به الحق. وقد نقول وبحق نقول: إن القرآن جاء مع البينة مؤيدا لها، والتعبير بأنه تلاها للإشارة إلى التلاوة فيه وهي الترتيل، كما قال تعالى: {ورتلناه ترتيلا} (الفرقان32) وكما قال سبحانه: {ورتل القرآن} (المزمل 4)، وللإشارة إلى أنه هناك مراتب في الإدراك، فالأولى أن تجيء البينة، والمرتبة الثانية هي التأييد من الله بالقرآن ولا تراخ بين المرتبتين بل هما متصاحبتان، كما تقول: فكر ثم اقرأ، أي اقرأ قراءة متفكر متدبر، وكأن القرآن شاهد؛ لأنه ببلاغته، وفصاحة كلمه، وعمق معانيه مع وضوحها، وعلمه وقصصه الحكيم كان المعجزة الخالدة، فهو شاهد دائما ناطق بالحق إلى يوم القيامة، وفيه الدلالة الواضحة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين. ثم أشار سبحانه إلى تصدقيه للكتب السابقة وبشارتها به فقال تعالى: {ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة}، فدلت هذه العبارة على أمرين. الأمر الأول: بشارة التوراة والإنجيل به كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وغزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون157} (الأعراف). الأمر الثاني: الذي دلت عليه الآية أنه مصدق لما بين يديه من الكتاب، وأن الإيمان به إيمان برسالة الرسل أجمعين كما صرح بذلك القرآن الكريم...