في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلذَّـٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الذاريات مكية وآياتها ستون

هذه السورة ذات جو خاص . فهي تبدأ بذكر قوى أربعة . . من أمر الله . . في لفظ مبهم الدلالة ، يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر . يقسم الله - تعالى - على أمر : والذاريات ذروا ، فالحاملات وقرا ، فالجاريات يسرا ، فالمقسمات أمرا . إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع . .

والذاريات . والحاملات . والجاريات . والمقسمات . . مدلولاتها ليست متعارفة ، وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار ، كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل . ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة .

وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماء : ( والسماء ذات الحبك ) . . يقسم بها الله تعالى . على أمر : ( إنكم لفي قول مختلف ) . . لا استقرار له ولا تناسق فيه ، قائم على التخرصات والظنون ، لا على العلم واليقين . .

هذه السورة : بافتتاحها على هذا النحو ، ثم بسياقها كله ، تستهدف أمرا واضحا في سياقها كله . . ربط القلب البشري بالسماء ؛ وتعليقه بغيب الله المكنون ؛ وتخليصه من أوهاق الأرض ، وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله ، والانطلاق إليه جملة ، والفرار إليه كلية ، استجابة لقوله في السورة : ( ففروا إلى الله ) . . وتحقيقا لإرادته في عباده : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . .

ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره ، وتطمين النفس من جهته ، وتعليق القلب بالسماء في شأنه ، لا بالأرض وأسبابها القريبة . وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها . إما مباشرة كقوله تعالى : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) . . ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . . وإما تعريضا كقوله يصور حال عباده المتقين مع المال : ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) . . ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه القلائل - أو من حسبهم ضيوفه من الملائكة - بعجل سمين ، يسارع به إليهم عقب وفودهم إليه ، وبمجرد إلقاء السلام عليه ، وهو لم يعرفهم إلا منذ لحظة !

فتخليص القلب من أوهاق الأرض ، وإطلاقه من إسار الرزق ، وتعليقه بالسماء ، ترف أشواقه حولها ، ويتطلع إلى خالقها في علاه ، بلا عائق يحول بينه وبين الانطلاق ، ويعوقه عن الفرار إلى الله . هو محور السورة بكل موضوعاتها وقضاياها التي تطرقها . ومن ثم كان هذا الاقتتاح ، وكان ذلك الإيقاع الغامض في أولها ، وكان القسم بعده بالسماء ، وكان تكرار الإشارة إلى السماء أيضا . .

وفي هذا كانت صورة المتقين التي يرسمها في مطلع السورة : ( إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) . . فهي صورة التطلع إلى الله ، والتجرد له ، والقيام في عبادته بالليل ، والتوجه إليه في الأسحار . مع إرخاص المال ، والتخلص من ضغطه ، وجعل نصيب السائل والمحروم حقا فيه .

وفي هذا كان التوجيه إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس مع تعليق القلوب بالسماء في شأن الرزق ، لا بالأرض وما فيها من أسبابه القريبة : ( وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وفي السماء رزقكم وما توعدون ) . .

وفي هذا كانت الإشارة إلى بناء الله للسماء على سعة ، وتمهيده للأرض في يسر ، وخلقه ما فيها من أزواج ، والتعقيب على هذا كله بالفرار إلى الله : ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون . والأرض فرشناها فنعم الماهدون . ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون . ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ) . .

وفي هذا كان الإيقاع الأخير البارز في السورة ، عن إرادة الله سبحانه في خلق الجن والإنس ، ووظيفتهما الرئيسية الأولى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . .

فهو إيقاع واحد مطرد . ذو نغمات متعددة . ولكنها كلها تؤلف ذلك الإيقاع ، وتطلق ذلك الحداء . الحداء بالقلب البشري إلى السماء !

وقد وردت إشارات سريعة إلى حلقة من قصة إبراهيم ولوط ، وقصة موسى ، وقصة عاد ، وقصة ثمود ، وقصة قوم نوح . وفي الإشارة إلى قصة إبراهيم تلك اللمحة عن المال ؛ كما أن فيها لمحة عن الغيب المكنون في تبشيره بغلام عليم ، ورزقه هو وامرأته به على غير ما توقع ولا انتظار . وفي بقية القصص إشارة إلى تصديق وعد الله الذي أقسم عليه في أول السورة : ( إنما توعدون لصادق )والذي أشار إليه في ختامها إنذارا للمشركين : ( فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون ) . . بعد ما ذكر أن أجيال المكذبين كأنما تواصت على التكذيب : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا : ساحر أو مجنون . أتواصوا به ? بل هم قوم طاغون ! ) . .

فالقصص في السورة - على هذا النحو - مرتبط بموضوعها الأصيل . وهو تجريد القلب لعبادة الله ، وتخليصه من جميع العوائق ، ووصله بالسماء . بالإيمان أولا واليقين . ثم برفع الحواجز والشواغل دون الرفرفة والانطلاق إلى ذلك الأفق الكريم .

( الذاريات ذروا ، فالحاملات وقرا ، فالجاريات يسرا ، فالمقسمات أمرا . . إن ما توعدون لصادق ، وإن الدين لواقع . . )

هذه الإيقاعات القصيرة السريعة ، بتلك العبارات الغامضة الدلالة ، تلقي في الحس - كما تقدم - إيحاء خاصا ، وتلقي ظلا معينا ، يعلق القلب بأمر ذي بال ، وشأن يستحق الانتباه . وقد احتاج غير واحد في العهد الأول أن يستفسر عن مدلول الذاريات ، والحاملات ، والجاريات ، والمقسمات . .

قال ابن كثير في التفسير : قال شعبة بن الحجاج ، عن سماك بن خالد بن عرعرة ، أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وشعبة أيضا عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي الطفيل ، أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وثبت أيضا من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه صعد منبر الكوفة فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلا أنبأتكم بذلك . فقام ابن الكواء ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى : ( والذاريات ذروا )? قال علي - رضي الله عنه : الريح . قال : ( فالحاملات وقرا )? قال - رضي الله عنه - : السحاب . قال : ( فالجاريات يسرا )? قال - رضي الله عنه - : السفن . قال : ( فالمقسمات أمرا )? قال - رضي الله عنه - : الملائكة .

وجاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فسأله عنها فأجابه بمثل ما روي عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وقد أحس عمر - رضي الله عنه - أنه يسأل عنها تعنتا وعنادا فعاقبه ومنعه من مجالسة الناس حتى تاب وحلف بالأيمان المغلظة : ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا . . وهذه الرواية تشي كذلك بأن غموض مدلولات هذه التعبيرات هو الذي جعل المتعنتين يستترون وراءها ويسألون عنها !

وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد ؛ ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك [ كما قال ابن كثير .

أقسم الله - سبحانه - بالرياح التي تذرو ما تذروه من غبار وحبوب لقاح وسحب وغيرها مما يعلم الإنسان وما يجهل . وبالسحاب الحاملات وقرا من الماء يسوقها الله به إلى حيث يشاء . وبالسفن الجاريات في يسر على سطح الماء بقدرته وبما أودع الماء وأودع السفن وأودع الكون كله من خصائص تسمح بهذا الجريان اليسير . ثم بالملائكة المقسمات أمرا ، تحمل أوامر الله وتوزعها وفق مشيئته ، فتفصل في الشؤون المختصة بها ، وتقسم الأمور في الكون بحسبها .

والريح والسحاب والسفن والملائكة خلق من خلق الله ، يتخذها أداة لقدرته ، وستارا لمشيئته ، ويتحقق عن طريقها قدر الله في كونه وفي عباده . وهو يقسم بها - سبحانه - للتعظيم من شأنها ، وتوجيه القلوب إليها ، لتدبر ما وراءها من دلالة ؛ ولرؤية يد الله وهي تنشئها وتصرفها وتحقق بها قدر الله المرسوم . وذكرها على هذه الصورة بصفة خاصة يوجه القلب إلى أسرارها المكنونة ؛ ويعلقه بمبدع هذه الخلائق من وراء ذكرها هذا الذكر الموحي .

ثم لعل لها كذلك صلة من ناحية أخرى بموضوع الرزق ، الذي يعني سياق هذه السورة بتحرير القلب من أوهاقه ، وإعفائه من أثقاله . فالرياح والسحب والسفن ظاهرة الصلة بالرزق ووسائله وأسبابه . أما الملائكة وتقسيمها للأمر ، فإن الرزق أحد هذه القسم . ومن ثم تتضح الصلة بين هذا الافتتاح وموضوع بارز تعالجه السورة في مواضع شتى .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلذَّـٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الذاريات، مكية.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه السورة مكية بإجماع من المفسرين.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

مقصودها: الدلالة على صدق ما أنذرت به سورة" ق "تصريحا وبشرت به تلويحا، ولا سيما آخرها من مصاب الدنيا وعذاب الآخرة، واسمها الذاريات ظاهر في ذلك بملاحظة جواب القسم فإنه مع القسم لشدة الارتباط كالآية الواحدة وإن كان خمسا، والتعبير عن الرياح بالذاريات أتم إشارة إلى ذلك، فإن تكذيبهم بالوعيد لكونهم لا يشعرون بشيء من أسبابه وإن كانت موجودة معهم كما أن ما يأتي من السحاب من الرحمة والنقمة أسبابه موجودة، وهي الرياح وإن كانوا لا يرونها، والريح من شأنها الذرء وهو التفريق، فإذا أراد الله جمعت فكان ما أراد، فإنها تفرق الأبخرة، فإذا أراد الله سبحانه جمعها فحملها ما أوجد فيها فأوقرها به فأجراها إجراء سهلا، فقسم منها ما أراد تارة برقا وأخرى رعدا، يصل صليل الحديد على الحديد، أو الحجر على مثله مع لطافة السحاب، كل ما يشاهد فيه من الأسباب، وآونة مطرا شديد الانصباب، ومرة بردا ومرة ثلجا يرجى ويهاب، وحينا صواعق ونيرانا لها أي التهاب، ووقتا جواهر ومرجانا بديعة الإعجاب، فتكون مرة سرورا ورضوانا، وأخرى غموما وأحزانا، وغبنا وخسرانا، على أنهم أخيل الناس في بعض ذلك، يعرفون السحاب الذي يخيل المطر والذي لا يخيله والذي مطره دان، والذي لم يأن له أن يمطر-إلى غير ذلك من أشياء ذكرها أهل الأدب وحملها أهل اللغة عنهم، وكل ذلك بتصريف الملائكة عن أمر الله، ولذلك-والله أعلم- سن أن يقال عند سماع الرعد: سبحان الله سبوح قدوس، بيانا لأن المصرف الحق هو الله تعالى " رب الملائكة " أي الذين أقيموا لهذا " والروح " الذي يحمله هذا الجسم من مطر أو نار أو غيرهما...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة ذات جو خاص، فهي تبدأ بذكر قوى أربعة من أمر الله في لفظ مبهم الدلالة، يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر. يقسم الله -تعالى- على أمر: والذاريات ذروا، فالحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، فالمقسمات أمرا. إنما توعدون لصادق. وإن الدين لواقع..

والذاريات. والحاملات. والجاريات. والمقسمات.. مدلولاتها ليست متعارفة، وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار، كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل. ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة.

وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماء: (والسماء ذات الحبك).. يقسم بها الله تعالى. على أمر: (إنكم لفي قول مختلف).. لا استقرار له ولا تناسق فيه، قائم على التخرصات والظنون، لا على العلم واليقين..

هذه السورة: بافتتاحها على هذا النحو، ثم بسياقها كله، تستهدف أمرا واضحا في سياقها كله.. ربط القلب البشري بالسماء؛ وتعليقه بغيب الله المكنون؛ وتخليصه من أوهاق الأرض، وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله، والانطلاق إليه جملة، والفرار إليه كلية، استجابة لقوله في السورة: (ففروا إلى الله).. وتحقيقا لإرادته في عباده: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)..

ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره، وتطمين النفس من جهته، وتعليق القلب بالسماء في شأنه، لا بالأرض وأسبابها القريبة. وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها. إما مباشرة كقوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون).. (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).. وإما تعريضا كقوله يصور حال عباده المتقين مع المال: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم).. ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه القلائل -أو من حسبهم ضيوفه من الملائكة- بعجل سمين، يسارع به إليهم عقب وفودهم إليه، وبمجرد إلقاء السلام عليه، وهو لم يعرفهم إلا منذ لحظة!

فتخليص القلب من أوهاق الأرض، وإطلاقه من إسار الرزق، وتعليقه بالسماء، ترف أشواقه حولها، ويتطلع إلى خالقها في علاه، بلا عائق يحول بينه وبين الانطلاق، ويعوقه عن الفرار إلى الله. هو محور السورة بكل موضوعاتها وقضاياها التي تطرقها. ومن ثم كان هذا الاقتتاح، وكان ذلك الإيقاع الغامض في أولها، وكان القسم بعده بالسماء، وكان تكرار الإشارة إلى السماء أيضا..

وفي هذا كانت صورة المتقين التي يرسمها في مطلع السورة: (إن المتقين في جنات وعيون. آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين. كانوا قليلا من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون. وفي أموالهم حق للسائل والمحروم).. فهي صورة التطلع إلى الله، والتجرد له، والقيام في عبادته بالليل، والتوجه إليه في الأسحار. مع إرخاص المال، والتخلص من ضغطه، وجعل نصيب السائل والمحروم حقا فيه.

وفي هذا كان التوجيه إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس مع تعليق القلوب بالسماء في شأن الرزق، لا بالأرض وما فيها من أسبابه القريبة: (وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون. وفي السماء رزقكم وما توعدون)..

وفي هذا كانت الإشارة إلى بناء الله للسماء على سعة، وتمهيده للأرض في يسر، وخلقه ما فيها من أزواج، والتعقيب على هذا كله بالفرار إلى الله: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون. والأرض فرشناها فنعم الماهدون. ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون. ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين)..

وفي هذا كان الإيقاع الأخير البارز في السورة، عن إرادة الله سبحانه في خلق الجن والإنس، ووظيفتهما الرئيسية الأولى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)..

فهو إيقاع واحد مطرد. ذو نغمات متعددة. ولكنها كلها تؤلف ذلك الإيقاع، وتطلق ذلك الحداء. الحداء بالقلب البشري إلى السماء!

وقد وردت إشارات سريعة إلى حلقة من قصة إبراهيم ولوط، وقصة موسى، وقصة عاد، وقصة ثمود، وقصة قوم نوح. وفي الإشارة إلى قصة إبراهيم تلك اللمحة عن المال؛ كما أن فيها لمحة عن الغيب المكنون في تبشيره بغلام عليم، ورزقه هو وامرأته به على غير ما توقع ولا انتظار. وفي بقية القصص إشارة إلى تصديق وعد الله الذي أقسم عليه في أول السورة: (إنما توعدون لصادق) والذي أشار إليه في ختامها إنذارا للمشركين: (فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون).. بعد ما ذكر أن أجيال المكذبين كأنما تواصت على التكذيب: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا: ساحر أو مجنون. أتواصوا به؟ بل هم قوم طاغون!)..

فالقصص في السورة -على هذا النحو- مرتبط بموضوعها الأصيل. وهو تجريد القلب لعبادة الله، وتخليصه من جميع العوائق، ووصله بالسماء. بالإيمان أولا واليقين. ثم برفع الحواجز والشواغل دون الرفرفة والانطلاق إلى ذلك الأفق الكريم.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

تسمى هذه السورة (والذاريات) بإثبات الواو تسمية لها بحكاية الكلمتين الواقعتين في أولها. وبهذا عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه وابن عطية في تفسيره والكواشي في تلخيص التفسير والقرطبي. وتسمى أيضا سورة الذاريات بدون الواو اقتصارا على الكلمة التي لم تقع في غيرها من سور القرآن. وكذلك عنونها الترمذي في جامعه وجمهور المفسرين. وكذلك هي في المصاحف التي وقفنا عليها من مشرقية ومغربية قديمة. ووجه التسمية أن هذه الكلمة لم تقع بهذه الصيغة في غيرها من سور القرآن...

أغراض هذه السورة: احتوت على تحقيق وقوع البعث والجزاء. وإبطال مزاعم المكذبين به وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورميهم بأنهم يقولون بغير تثبت. ووعيدهم بعذاب يفتنهم. ووعد المؤمنين بنعيم الخلد وذكر ما استحقوا به تلك الدرجة من الإيمان والإحسان. ثم الاستدلال على وحدانية الله والاستدلال على إمكان البعث وعلى أنه واقع لا محالة بما في بعض المخلوقات التي يشاهدونها ويحسون بها دالة على سعة قدرة الله تعالى وحكمته على ما هو أعظم من إعادة خلق الإنسان بعد فنائه وعلى أنه لم يخلق إلا لجزائه. والتعريض بالإنذار بما حاق بالأمم التي كذبت رسل الله، وبيان الشبه التام بينهم وبين أولئك. وتلقين هؤلاء المكذبين الرجوع إلى الله وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم ونبذ الشرك. ومعذرة الرسول صلى الله عليه وسلم من تبعة إعراضهم والتسجيل عليهم بكفران نعمة الخلق والرزق. ووعيدهم على ذلك بمثل ما حل بأمثالهم...

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في السورة توكيد بالبعث والحساب، وحملة شديدة على المكذبين الجاحدين وتنويه بالمتقين وأعمالهم الصالحة ومصائرهم في الآخرة، وفصل قصصي مقتضب عن بعض الأنبياء والأمم بينه وبين مواقف النبي صلى الله عليه وسلم والكفار تماثل، وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت له، وآياتها متساوقة متوازية مما يسوّغ القول بأنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

يدور محور هذه السورة في الدرجة الأولى حول المسائل المتعلّقة بالمعاد ويوم القيامة والثواب والعقاب لكلّ من المؤمنين والكافرين، ولكنّها ليست كسورة (ق) محورها المعاد، بل فيها محاور أخر كما يلاحظها القارئ. ويمكن أن يقال بشكل إجمالي إنّ مباحث هذه السورة تدور حول خمسة محاور وهي: 1 كما قلنا آنفاً إنّ القسم المهمّ منها يتكلّم عن المعاد وبداية السورة ونهايتها أيضاً هما حول المعاد.

القسم الآخر من هذه السورة ناظر إلى مسألة توحيد الله وآياته في نظام الخلق والوجود، وهي تكمل مبحث المعاد طبعاً. 3 وفي قسم آخر يقع الكلام على ضيف إبراهيم من الملائكة وما أُمروا به من تدمير مدن قوم لوط!

والآيات الأخر من هذه السورة فيها إشارات قصيرة إلى قصّة موسى (عليه السلام) وبعض الأمم كعاد وثمود وقوم نوح، وبهذا فهي تنذر الكفّار الآخرين بما آل إليه السابقون.

وأخيراً فإنّ قسماً من هذه السورة يتحدّث عن مواجهة الأمم المعاندين لأنبيائهم وتأمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر والاستقامة بوجه المشاكل والشدائد وتسرّي عنه وتسلّي قلبه...

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{والذاريات ذروا} يعني الرياح ذرت ذروا...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله عز وجل: {والذاريات ذروا} أي: الرياح. قال الله عز وجل: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45]. وذروها: جريها. قال عز وجل: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيثُ أَصَابَ} [سورة ص: 36].

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

واحدتها ذارية لأنها تذرو التراب والتبن أي تفرقه في الهواء. كما قال تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} وفي قوله {ذَرْواً} وجهان:

أحدهما: مصدر.

الثاني: أنه بمعنى ما ذرت... فكأنما أقسم بالرياح وما ذرت الرياح.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات تنبيهاً عليها وتشريفاً لها ودلالة على الاعتبار فيها حتى يصير الناظر فيها إلى توحيد الله تعالى.

{والذاريات} الرياح بإجماع من المتأولين، يقال: ذرت الريح وأذرت بمعنى: وفي الرياح معتبر من شدتها حيناً، ولينها حيناً، وكونها مرة رحمة ومرة عذاباً إلى غير ذلك...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

... في جميع السور التي أقسم الله في ابتدائها بغير الحروف، كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة وهي: الوحدانية والرسالة والحشر، وهي التي يتم بها الإيمان. ثم إنه تعالى لم يقسم لإثبات الوحدانية إلا في سورة واحدة من تلك السور وهي {والصافات} حيث قال فيها: {إن إلهكم لواحد} وذلك لأنهم وإن كانوا يقولون: {أجعل الآلهة إلها واحدا} على سبيل الإنكار، وكانوا يبالغون في الشرك، لكنهم في تضاعيف أقوالهم، وتصاريف أحوالهم كانوا يصرحون بالتوحيد، وكانوا يقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وقال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} فلم يبالغوا في الحقيقة في إنكار المطلوب الأول، فاكتفى بالبرهان، ولم يكثر من الأيمان. وفي سورتين منها أقسم لإثبات صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وكونه رسولا في إحداهما بأمر واحد، وهو قوله تعالى: {والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم}. وفي الثانية بأمرين وهو قوله تعالى: {والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى} وذلك لأن القسم على إثبات رسالته قد كثر بالحروف والقرآن، كما في قوله تعالى: {يس * والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين} وقد ذكرنا الحكم فيه أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فأقسم به ليكون في القسم الإشارة واقعة إلى البرهان. وفي باقي السور كان المقسم عليه الحشر والجزاء وما يتعلق به لكون إنكارهم في ذلك خارجا عن الحد، وعدم استيفاء ذلك في صورة القسم بالحروف.

أقسم الله تعالى بجموع السلامة المؤنثة في سور خمس، ولم يقسم بجموع السلامة المذكرة في سورة أصلا، فلم يقل: والصالحين من عبادي، ولا المقربين إلى غير ذلك، مع أن المذكر أشرف، وذلك لأن جموع السلام بالواو والنون في الأمر الغالب لمن يعقل، وقد ذكرنا أن القسم بهذه الأشياء ليس لبيان التوحيد إلا في صورة ظهور الأمر فيه، وحصول الاعتراف منهم به، ولا للرسالة لحصول ذلك في صور القسم بالحروف والقرآن. بقي أن يكون المقصود إثبات الحشر والجزاء، لكن إثبات الحشر لثواب الصالح، وعذاب الطالح، ففائدة ذلك راجع إلى من يعقل، فكان الأمر يقتضي أن يكون القسم بغيرهم، والله أعلم.

...

...

...

...

...

...

...

المسألة الرابعة: في السورة التي أقسم لإثبات الوحدانية، أقسم في أول الأمر بالساكنات حيث قال: {والصافات} وفي السور الأربع الباقية أقسم بالمتحركات، فقال: {والذاريات} وقال: {والمرسلات} وقال: {والنازعات} ويؤيده قوله تعالى: {والسابحات... فالسابقات} وقال: {والعاديات} وذلك لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وذلك بالحركة أليق، أو أن نقول في جميع السور الأربع أقسم بالرياح على ما بين وهي التي تجمع وتفرق، فالقادر على تأليف السحاب المتفرق بالرياح الذارية والمرسلة، قادر على تأليف الأجزاء المتفرقة بطريق من الطرق التي يختارها بمشيئته تعالى.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

أقسم الله -سبحانه- بالرياح التي تذرو ما تذروه من غبار وحبوب لقاح وسحب وغيرها مما يعلم الإنسان وما يجهل. وبالسحاب الحاملات وقرا من الماء يسوقها الله به إلى حيث يشاء. وبالسفن الجاريات في يسر على سطح الماء بقدرته وبما أودع الماء وأودع السفن وأودع الكون كله من خصائص تسمح بهذا الجريان اليسير. ثم بالملائكة المقسمات أمرا، تحمل أوامر الله وتوزعها وفق مشيئته، فتفصل في الشؤون المختصة بها، وتقسم الأمور في الكون بحسبها. والريح والسحاب والسفن والملائكة خلق من خلق الله، يتخذها أداة لقدرته، وستارا لمشيئته، ويتحقق عن طريقها قدر الله في كونه وفي عباده. وهو يقسم بها -سبحانه- للتعظيم من شأنها، وتوجيه القلوب إليها، لتدبر ما وراءها من دلالة؛ ولرؤية يد الله وهي تنشئها وتصرفها وتحقق بها قدر الله المرسوم. وذكرها على هذه الصورة بصفة خاصة يوجه القلب إلى أسرارها المكنونة؛ ويعلقه بمبدع هذه الخلائق من وراء ذكرها هذا الذكر الموحي. ثم لعل لها كذلك صلة من ناحية أخرى بموضوع الرزق، الذي يعني سياق هذه السورة بتحرير القلب من أوهاقه، وإعفائه من أثقاله. فالرياح والسحب والسفن ظاهرة الصلة بالرزق ووسائله وأسبابه. أما الملائكة وتقسيمها للأمر، فإن الرزق أحد هذه القسم. ومن ثم تتضح الصلة بين هذا الافتتاح وموضوع بارز تعالجه السورة في مواضع شتى.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

القَسَم المفتتح به مراد منه تحقيق المقسم عليه وتأكيد وقوعه، وقد أقسم الله بعظيم من مخلوقاته وهو في المعنى قسم بقدرته وحكمته ومتضمن تشريف تلك المخلوقات بما في أحوالها من نعم ودلالةٍ على الهدى والصلاح، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله فيما أوجد فيها.

والمُقْسَم بها الصفات تقتضي موصوفاتها، فآل إلى القَسَم بالموصوفات لأجل تلك الصفات العظيمة. وفي ذلك إيجاز دقيق، على أن في طي ذكر الموصوفات توفيراً لما تؤذن به الصفات من موصوفات صالحة بها لتذهب أفهام السامعين في تقديرها كل مذهب ممكن.

وعطف تلك الصفات بالفاء يقتضي تناسبها وتجانسها، فيجوز أن تكون صفات لجنس واحد وهو الغالب في عطف الصفات بالفاء...

ويجوز أن تكون مختلفة الموصوفات إلا أن موصوفاتها متقاربة متجانسة...

واختلف أيمة السلف في محمل هذه الأوصاف وموصوفاتها. وأشهر ما رُوي عنهم في ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد أن {الذاريات} الرياح لأنها تذرو التراب، و {الحاملات وِقْراً}: السحاب، و {الجاريات}: السفن، و {المُقسِّمات أمراً} الملائكة، وهو يقتضي اختلاف الأجناس المقسم بها.

وتأويله أن كل معطوفٍ عليه يُسبب ذكر المعطوف لالتقائهما في الجامع الخيالي، فالرياح تذكِّر بالسحاب، وحمل السحاب وِقْرَ الماء يذكر بحمل السفن، والكل يذكر بالملائكة. ومن المفسرين من جعل هذه الصفات الأربع وصفاً للرياح قاله في « الكشاف» ونقل بعضه عن الحسن واستحسنه الفخر، وهو الأنسب لعطف الصفات بالفاء.

فالأحسن أن يُحمل الذرو على نشر قطع السحاب نَشراً يشبه الذرو. وحقيقة الذرو رَمي أشياء مجتمعة تُرمى في الهواء لتقع على الأرض مثل الحَب عند الزرع ومثل الصوف وأصله ذرو الرياح التراب فشبه به دفع الريح قطع السحاب حتى تجتمع فتصير سحاباً كاملاً فالذاريات تنشر السحاب ابتداء كما قال تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء} [الروم: 48]. والذرو وإن كان من صفة الرياح فإنّ كون المذرو سحاباً يؤول إلى أنه من أحوال السحاب وقيل ذروها التراب وذلك قبل نَشرها السحب وهو مقدمة لنشر السحاب.