ويصور إحسانهم صورة خاشعة ، رفافة حساسة :
( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون ) . .
فهم الأيقاظ في جنح الليل والناس نيام ، المتوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام لا يطعمون الكرى إلا قليلا ، ولا يهجعون في ليلهم إلا يسيرا . يأنسون بربهم في جوف الليل فتتجافى جنوبهم عن المضاجع ، ويخف بهم التطلع فلا يثقلهم المنام !
قال الحسن البصري : ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) . . كابدوا قيام الليل ، فلا ينامون من الليل إلا أقله ، ونشطوا فمدوا إلى السحر ، حتى كان الاستغفار بسحر .
وقال قتادة : قال الأحنف بن قيس : ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) . . كانوا لا ينامون إلا قليلا . ثم يقول : لست من أهل هذه الآية .
قال الحسن البصري : كان الأحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة ، فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا ، إذ نحن قوم لا نبلغ أعمالهم . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وعرضت عملي على عمل أهل النار ، فإذا قوم لا خير فيهم ، مكذبون بكتاب الله وبرسل الله مكذبون بالبعث بعد الموت . فقد وجدت من خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال رجل من بني تميم لأبي : يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا . ذكر الله تعالى قوما فقال : ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) . ونحن والله قليلا من الليل ما نقوم ! فقال له أبي - رضي الله عنه - : طوبى لمن رقد إذا نعس ، واتقى الله إذا استيقظ .
فهي حال يتطلع إليها رجال من التابعين - ذوي المكانة في الإيمان واليقين - ويجدون أنفسهم دونها . اختص بها ناس ممن اختارهم الله ، ووفقهم إلى القيام بحقها . وكتبهم بها عنده من المحسنين .
و الهجوع النوم ، وقيده الراغب بقوله : ليلاً ، وغيره بالقليل ، و { مَا } إما مزيدة فقليلاً معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي هجوعاً قليلاً و { مِّنَ الليل } صفة ، أو لغو متعلق بيهجعون و { مِنْ } للابتداء ، وجملة { يَهْجَعُونَ } خبر كان أو { قَلِيلاً } صفة لظرف محذوف أي زماناً قليلاً و { مِّنَ اليل } صفة على نحو قليل من المال عندي وإما موصولة عائدها محذوف أي زماناً قليلاً و { مِّنَ اليل } صفة على نحو قليل من المال عندي وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل { قَلِيلاً } وهو خبر كان و { مِّنَ الليل } حال من الموصول مقدم كأنه قيل : كانوا قد قل المقدار الذي يهجعون فيه كائناً ذلك المقدار { مِّنَ الليل } وإما مصدرية فالمصدر فاعل { قَلِيلاً } وهو خبر كان أيضاً ، و { مِّنَ اليل } بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم ، أو حال من المصدر ، و { مِنْ } للابتداء كذا في «الكشف » فهما من الكشاف ، وذهب بعضهم إلى أن { مِنْ } على زيادة ما بمعنى في كما في قوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة } [ الجمعة : 9 ] واعترض بن المنير احتمال مصدريتها بأن لا يجوز في { مِّنَ الليل } كونه صفة ، أو بياناً للقليل لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه ، وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم ؛ وحكى الطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره { يَهْجَعُونَ } وجوز أن يكون { مَا يَهْجَعُونَ } على ذلك الاحتمال بدلاً من اسم كان فكأنه قيل : كان هجوعهم قللاً وهو بعيد ، وجوز في { مَا } أن تكون نافية ، و { قَلِيلاً } منصوب بيهجعون والمعنى كانوا لا يهجعون من الليل قليلاً ويحيونه كله ورواه ابن أبي شيبة .
وأبو نصر عن مجاهد ، ورده الزمخشري بأن { مَا } النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لأن لها صدر الكلام وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو عوتب بلا جرم ولم . ولن لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه ، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين ، وفي «شرح الهادي » أن بعض النحاة أجازه مطلقاً ، وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه ، واستدل عليه بقوله
: ونحن عن فضلك ما استغنينا *** نعم يرد على ذلك أن فيه كما في «الانتصاف » خلللاً من حيث المعنى فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع وإن قل غير ثابت في الشرع ولا معهود اللهم إلا أن يدعي أن من ذهب إلى ذلك يقول : بأنه كان ثابتاً في الشرع ، فقد أخرج ابن أبي شيبة . وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية : كان ذلك إذا أمروا بقيام الليل كله فكان أبو ذكر يعتمد على العصار فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [ المزمل : 20 ] وقال الضحاك : { كَانُواْ قَلِيلاً } في عددهم ، وتم الكلام عند { قَلِيلاً } ثم ابتدأ { مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ } على أن { مَا } نافية ؛ وفهي ما تقدم مع زيادة تفكيك للكلام ، ولعل أظهر الأوجه زيادة { مَا } ونصب { قَلِيلاً } على الظرفية ، و { مِّنَ الليل } صفة قيل : وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناءاً على أنه القليل من النوم ، وقوله تعالى : { قَلِيلاً } و { مِّنَ اليل } لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة { مَا } لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيداً فيها .
والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلاً ، قال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً ، وعن عبد الله بن رواحة هجعوا قليلاً ثم قاموا ، وفسر أنس بن مالك الآية كما رواه جماعة عنه وصححه «الحاكم » فقال : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الاقتصار على ذلك .
و من أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق ، صلاة الليل ، الدالة على الإخلاص ، وتواطؤ القلب واللسان ، ولهذا قال : { كَانُوا } أي : المحسنون { قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أي : كان هجوعهم أي : نومهم بالليل ، قليلاً ، وأما أكثر الليل ، فإنهم قانتون لربهم ، ما بين صلاة ، وقراءة ، وذكر ، ودعاء ، وتضرع .
قوله تعالى : { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } والهجوع النوم بالليل دون النهار ، و " ما " صلة ، والمعنى : كانوا يهجعون قليلاً من الليل ، أي يصلون أكثر الليل . وقيل : معناه كان الليل الذي ينامون فيه كله قليلاً ، وهذا معنى قول سعيد بن جبير عن ابن عباس ، يعني : كانوا أقل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً ، إما من أولها أو من أوسطها . قال أخنس ابن مالك : كانوا يصلون ما بين المغرب إلى العشاء . وقال محمد بن علي : كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة . قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : كل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها . قال مجاهد : كانوا لا ينامون كل الليل . ووقف بعضهم على قوله : { قليلاً } أي : كانوا من الناس قليلاً ، ثم ابتدأ : { من الليل ما يهجعون } وجعله جحداً أي : لا ينامون بالليل البتة ، بل يقومون للصلاة والعبادة ، وهو قول الضحاك ومقاتل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.