وبعد هذا العرض السريع يجيء الهتاف الأخير للذين آمنوا ، وهم الحلقة الأخيرة في سلسلة المؤمنين برسالة الله في تاريخها الطويل ؛ وورثة هذه الرسالة الذين يقومون عليها إلى يوم الدين :
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ، ويجعل لكم نورا تمشون به ، ويغفر لكم ، والله غفور رحيم . لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله ، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ) . .
ونداؤهم على هذا النحو : يا أيها الذين آمنوا فيه لمسة خاصة لقلوبهم ، واستحياء لمعنى الإيمان ، وتذكير برعايته حق رعايته ؛ واستجاشة للصلة التي تربطهم بربهم الذي يناديهم هذا النداء الكريم الحبيب . وباسم هذه الصلة يدعوهم إلى تقوى الله والإيمان برسوله . فيبدو للإيمان المطلوب معنى خاص . . معنى حقيقة الإيمان وما ينبثق عنها من آثار .
اتقوا الله وآمنوا برسوله . . ( يؤتكم كفلين من رحمته ) . . أي يعطكم نصيبين من رحمته وهو تعبير عجيب . فرحمة الله لا تتجزأ ، ومجرد مسها لإنسان يمنحه حقيقتها . ولكن في هذا التعبير زيادة امتداد للرحمة وزيادة فيض . .
( ويجعل لكم نورا تمشون به ) . وهي هبة لدنية يودعها الله القلوب التي تستشعر تقواه ، وتؤمن حق الإيمان برسوله . هبة تنير تلك القلوب فتشرق ، وترى الحقيقة من وراء الحجب والحواجز ، ومن وراء الأشكال والمظاهر ؛ فلا تتخبط ، ولا تلتوي بها الطريق . . ( نورا تمشون به ) . .
( ويغفر لكم . والله غفور رحيم ) . . . فالإنسان إنسان مهما وهب من النور . إنسان يقصر حتى لو عرف الطريق . إنسان يحتاج إلى المغفرة فتدركه رحمة الله . . ( والله غفور رحيم ) . .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ) . لتنالوا كفلين من رحمة الله . ويكون لكم ذلك النور تمشون به . وتدرككم رحمة الله بالمغفرة من الذنب والتقصير . .
قوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون* ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } على دينه ، { رأفةً } وهي أشد الرقة ، { ورحمةً } كانوا متوادين بعضهم لبعض ، كما قال الله تعالى في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { رحماء بينهم }( الفتح- 29 ) ، { ورهبانية ابتدعوها } من قبل أنفسهم ، وليس هذا بعطف على ما قبله ، وانتصابه بفعل مضمر كأنه قال : وابتدعوا رهبانية أي جاؤوا بها من قبل أنفسهم ، { ما كتبناها } ، أي ما فرضناها ، { عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } يعني : ولكنهم ابتغوا رضوان الله بتلك الرهبانية ، وتلك الرهبانية ما حملوا أنفسهم من المشاق في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الجبال ، { فما رعوها حق رعايتها } أي لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى ، فتهودوا وتنصروا ، ودخلوا في دين ملوكهم ، وتركوا الترهب ، وأقام منهم أناس على دين عيسى عليه الصلاة والسلام حتى أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وذلك قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم الذين ثبتوا عليها وهم أهل الرأفة والرحمة ، { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه الصلاة والسلام .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأني عبد الله بن حامد ، أنبأنا أحمد بن عبد الله المزني ، حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا الصعق بن حرب ، عن عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة ، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرهن ، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى عليه الصلاة والسلام ، فأخذوهم وقتلوهم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد وترهبوا ، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون " . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : " يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بالمعاصي ، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو له فقالوا : تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام ، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ، فتفرقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : { ورهبانية ابتدعوها } الآية . { فآتينا الذين آمنوا منهم } يعني من ثبتوا عليها أجرهم ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : الهجرة والجهاد ، والصلاة والصوم ، والحج والعمرة ، والتكبير على التلاع " . وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم : لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه ، فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : نحن نكفيكم أنفسنا ، فقالت طائفة : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا ، ولا نرد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم ، ففعلوا بهم ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه الصلاة والسلام ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب ، فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله عز وجل : { ورهبانية ابتدعوها } أي ابتدعها هؤلاء الصالحون ، { فما رعوها حق رعايتها } يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم ، { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } يعني الذين ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، { وكثير منهم فاسقون } هم الذين جاؤوا من بعدهم .
قال : فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل انحط رجل من صومعته وجاء سياح من سياحته وصاحب دير من ديره ، وآمنوا به فقال الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى ، يقول : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم { وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم ، { يؤتكم كفلين } نصيبين ، { من رحمته } يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى عليه الصلاة والسلام ، والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وقال قوم : انقطع الكلام عند قوله :{ ورحمة } ثم ابتدأ : { ورهبانية ابتدعوها } ، وذلك أنهم تركوا الحق فأكلوا الخنزير وشربوا الخمر وتركوا الوضوء والغسل من الجنابة والختان ، فما رعوها ، يعني : الطاعة والملة { حق رعايتها } كناية عن غير مذكور ، { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم أهل الرأفة والرحمة ، { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين ابتدعوا الرهبانية ، وإليه ذهب مجاهد . معنى قوله : { إلا ابتغاء رضوان الله } على هذا التأويل : ما أمرناهم وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ، وما أمرناهم بالترهب . قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا } بموسى وعيسى اتقوا الله . { وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } . وروينا عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده " . { ويجعل لكم نوراً تمشون به } قال ابن عباس ومقاتل : يعني على الصراط ، كما قال : { نورهم يسعى بين أيديهم }( التحريم- 8 ) ، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النور هو القرآن . وقال مجاهد : هو الهدى والبيان ، أي يجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به ، { ويغفر لكم والله غفور رحيم } وقيل : لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله عز وجل : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين }( القصص- 54 ) قالوا للمسلمين : أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وبكتابنا ، وأما من لم يؤمن منا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا ؟ فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } فجعل لهم الأجرين إذا آمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وزادهم النور والمغفرة .
{ يا أيها الذين آمنوا } بالتوراة والانجيل { اتقوا الله وآمنوا برسوله } محمد عليه السلام { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } نصيبا بايمانكم الأول ونصيبا بايمانكم بمحمد عليه السلام وكتابه { ويجعل لكم نورا تمشون به } في الآخرة على الصراط { ويغفر لكم } وعدهم الله هذه الأشياء كلها على الايمان بمحمد عليه السلام
قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا " أي آمنوا بموسى وعيسى " اتقوا الله وآمنوا برسوله " بمحمد صلى الله عليه وسلم " يؤتكم كفلين من رحمته " أي مثلين من الأجر على إيمانكم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا مثل قوله تعالى : " أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " [ القصص : 54 ] وقد تقدم القول{[14735]} فيه . والكفل الحظ والنصيب وقد مضى في " النساء{[14736]} " وهو في الأصل كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط ، قاله ابن جريج . ونحوه قال الأزهري ، قال : اشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه إذا ارتدفه لئلا يسقط ، فتأويله يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي كما يحفظ الكفل الراكب . وقال أبو موسى الأشعري : " كفلين " ضعفين بلسان الحبشة . وعن ابن زيد : " كفلين " أجر الدنيا والآخرة . وقيل : لما نزلت " أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " [ القصص : 54 ] افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية .
وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الحسنة إنما لها من الأجر مثل واحد ، فقال : الحسنة اسم عام ينطلق على كل نوع من الإيمان ، وينطلق على عمومه ، فإذا انطلقت الحسنة على نوع واحد فليس له عليها من الثواب إلا مثل واحد . وإن انطلقت على حسنة تشتمل على نوعين كان الثواب عليها مثلين ، بدليل هذه الآلة فإنه قال : " كفلين من رحمته " والكفل النصيب كالمثل ، فجعل لمن اتقى الله وآمن برسوله نصيبينا ، نصيبا لتقوى الله ونصيبا لإيمانه برسوله . فدل على أن الحسنة التي جعل لها عشر هي التي جمعت عشرة أنواع من الحسنات ، وهو الإيمان الذي جمع الله تعالى في صفته عشرة أنواع ، لقوله تعالى : " إن المسلمين والمسلمات " [ الأحزاب : 35 ] الآية بكمالها . فكانت هذه الأنواع العشرة التي هي ثوابها أمثالها فيكون لكل نوع منها مثل . وهذا تأويل فاسد ، لخروجه عن عموم الظاهر ، في قوله تعالى : " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " [ الأنعام : 160 ] بما لا يحتمله تخصيص العموم ؛ لأن ما جمع عشر حسنات فليس يجزى عن كل حسنة إلا بمثلها . وبطل أن يكون جزاء الحسنة عشر أمثالها والأخبار دالة عليه . وقد تقدم ذكرها{[14737]} . ولو كان كما ذكر لما كان بين الحسنة والسيئة فرق .
قوله تعالى : " ويجعل لكم نورا " أي بيانا وهدى ، عن مجاهد . وقال ابن عباس : هو القرآن . وقيل : ضياء " تمشون به " في الآخرة على الصراط ، وفي القيامة إلى الجنة . وقيل تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها . وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد عليه السلام . وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله ، لا الرياسة الحقيقية في الدين . " ويغفر لكم " ذنوبكم " والله غفور رحيم " .
{ وآمنوا برسوله } إن قيل : كيف خاطب الذين آمنوا وأمرهم بالإيمان وتحصيل الحاصل لا ينبغي فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن معنى { آمنوا } دوموا على الإيمان واثبتوا عليه .
والآخر : أنه خطاب لأهل الكتاب فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويؤيد هذا قوله : { يؤتكم كفلين من رحمته } أي : نصيبين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي " الحديث . { ويجعل لكم نورا تمشون به } يحتمل أن يريد النور الذي يسعى بين أيدي المؤمنين يوم القيامة أو يكون عبارة عن الهدى ويؤيد الأول أنه مذكور في هذه السورة ، ويؤيد الثاني قوله : وجعلنا له نورا يمشي به في الناس .
ولما قرر سبحانه أن الرسل دعاة للحق إلى سيدهم طوعاً أو كرهاً بالكتاب والحديد ، وقرر أن السعادة كلها في اتباعهم ، وأن البدع لا تأتي بخير وإن زين الشيطان أمرها وخيل أنه خير ، وأن أصحاب الذي كان نسخ شريعة{[62844]} من قبله ابتدعوا بدعة حسنة فوكلوا إليها ففسق أكثرهم ، فاقتضى ذلك إرسال من ينسخ كل شريعة{[62845]} تقدمته نسخاً لا زوال له لأنه لا نبي بعده ونهى عن البدع نهياً لم يتقدمه أحد إلى مثله ، أنتج ذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بذلك إقراراً صحيحاً بنبي مما تقدم أو بالنبي صلى الله عليه وسلم { اتقوا الله } أي خافوا عقابه فاجعلوا بينكم وبين سخطه - لأنه الملك الأعظم - وقاية بحفظ الأدب معه ولا تأمنوا مكره ، فكونوا على حذر من{[62846]} أن يسلبكم ما وهبكم ، فاتبعوا الرسول تسلموا ، وحافظوا على اتباعه لئلا تهلكوا { وآمنوا برسوله } أي الذي لا رسول له الآن غيره ، إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بالله فإنه{[62847]} لا يصح الإيمان به إلا مع الإيمان برسوله ، وبأن تثبتوا على الإيمان به ، وتضموا الإيمان به إلى الإيمان بمن تقدمه يا أهل الكتاب ، لأن رسالته عامة ، لقد نسخ جميع ما تقدمه من الأديان{[62848]} فإياكم أن يميلكم عنه ميل من حسد أو غيره ، فبادروا إلى إجابته والزموا {[62849]}جميعاً حذره{[62850]} فلا تميلوا إلى بدعة أصلاً { يؤتكم } ثواباً على اتباعه{[62851]} { كفلين } أي نصيبين ضخمين{[62852]} { من رحمته } تحصيناً لكم من العذاب كما يحصن الكفل الراكب من الوقوع ، وهو كساء يعقد على ظهر البعير فيلقى مقدمه على الكاهل ومؤخره على العجز ، وهذا التحصين{[62853]} لأجل إيمانكم به صلى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن تقدمه مع خفة العمل ورفع الأصار{[62854]} وهو أعلى{[62855]} بالأجر من الذي عمل الخير في الجاهلية ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله{[62856]} عنه " أسلمت على ما أسلفت من خير " ودل على أن الكفلين برفع الدرجات وإفاضة خواص من الخيرات بقوله : { ويجعل لكم } أي مع ذلك { نوراً } مجازياً في الأولى بالتوفيق للعمل من المعلوم والمعارف القلبية وحسياً في الآخرة بسبب العمل { تمشون به } أي مجازاً في الأولى بالتوفيق للعمل ، وحقيقة في الآخرة بسبب العمل .
ولما كان الإنسان لا يخلو من نقصان ، فلا يبلغ جميع ما يحق للرحمن ، قال : { ويغفر لكم } أي ما{[62857]} فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجد . ولما قرر سبحانه وذلك ، أتبعه التعريف بأن الغفران وما يتبعه صفة له شاملة لمن{[62858]} يريده فقال : { والله } أي المحيط بجميع صفات الكمال{[62859]} والعظمة والكبرياء{[62860]} { غفور } أي بليغ المحو للذنب عيناً وأثراً { رحيم * } أي بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه .
قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم 28 لئلاّ يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء ومن فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } .
يخاطب الله الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، يدعوهم للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ليجزيهم الله بذلك مثلين من الجزاء وهو قوله سبحانه : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } فالآية محمولة على مؤمني أهل الكتاب ، إذ يدعوهم ربهم أن يؤمنوا بمحمد ليؤتيهم أجرهم مرتين وهو قوله : { يؤتكم كفلين من رحمته } أي مثلين من الأجر على إيمانكم بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . والكفل ، معناه الحظ والنصيب . وقيل : لما نزل قوله : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية .
قوله : { ويجعل لكم نورا تمشون به } والمراد بالنور ، القرآن ، فإنه المشعل الذي يستضيئون به فلا يتعثرون ولا يضلون أو يتيهون . أو المراد به الإسلام ، إذ يدعون الناس إليه فيكونون رؤساء في هذا الدين الحنيف ولا تزول عنهم رئاسة كانوا فيها . وذلك أنهم كانوا يخشون أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
قوله : { ويغفر لكم والله غفور رحيم } الله جل جلاله يصفح عنكم ويستر عليكم ذنوبكم وهو سبحانه موصوف بالرحمة والمغفرة للمسيئين المذنبين .