فلا أقسم : هذا قسَم تستعمله العرب في كلامها ، ولا للتأكيد .
مواقع النجوم : مَداراتها ومراكزها .
بعد ذِكر الأدلة على الألوهية والخلْق والبعث والجزاء جاء بذِكر الأدلة على النبوة وصدق القرآن الكريم . وقد أقسم الله تعالى على هذا بما يشاهدونه من مواقع النجوم ، وإن هذا القسَم لعظيم حقا ، لأن هذا الكون وما فيه شيء كبير
لا نعلم عنه إلا القليل القليل . ويقول الفلكيون : إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين ، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة ، ومنها ما لا يرى إلا بالمكبّرات ، وقد يكون أكبر من شمسنا بآلاف المرات ولكننا لبعده الشاسع
لا نراه . وهي تسبح في هذا الفلك الواسع الذي لا نعلم عنه شيئا . والبحث في هذا واسع جدا .
{ 75-87 } { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
أقسم تعالى بالنجوم ومواقعها أي : مساقطها في مغاربها ، وما يحدث الله في تلك الأوقات ، من الحوادث الدالة على عظمته وكبريائه وتوحيده .
قوله عز وجل : { فلا أقسم بمواقع النجوم } قال أكثر المفسرين : معناه : أقسم ، و لا صلة ، وكان عيسى ابن عمر يقرأ : فلأقسم ، على التحقيق . وقيل : قوله لا : رد لما قاله الكفار في القرآن إنه سحر وشعر وكهانة ، معناه : ليس الأمر كما يقولون ، ثم استأنف القسم ، فقال :{ أقسم بمواقع النجوم } . قرأ حمزة والكسائي : بموقع على التوحيد . وقرأ الآخرون بمواقع على الجمع . قال ابن عباس : أراد نجوم القرآن ، فإنه كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرقاً نجوماً . وقال جماعة من المفسرين : أراد مغارب النجوم ومساقطها . وقال عطاء بن أبي رباح : أراد منازلها . وقال الحسن : أراد انكدارها وانتثارها يوم القيامة .
{ فلا أقسم بمواقع النجوم } لا في هذا الموضع وأمثاله زائدة وكأنها زيدت لتأكيد القسم أو لاستفتاح الكلام نحو ألا وقيل : هي نافية لكلام الكفار كأنه يقول لا صحة لما يقول الكفار وهذا ضعيف ، والأول أحسن لأن زيادة لا كثيرة معروفة في كلام العرب ومواقع النجوم فيه قولان : أحدهما : قال ابن عباس : إنها نجوم القرآن إذ نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مقطعا بطول عشرين سنة فكل قطعة منه نجم .
والآخر : قول كثير من المفسرين : أن النجوم الكواكب ومواقعها مغاربها ومساقطها ، وقيل : مواضعها من السماء ، وقيل : انكدارها يوم القيامة .
فثبت أن الله تعالى أرسل الآتي بهذا القرآن صلى الله عليه وسلم بالهدى وبالحق ، لا أنه آتاه كل ما ينبغي له ، فآتاه الحكمة وهي البراهين القاطعة واستعمالها على وجوهها ، والموعظة الحسنة ، وهي الأمور المرققة للقلوب المنورة للصدور ، والمجادلة التي هي على أحسن الطرق في نظم معجز موجب{[62237]} للإيمان ، فكان من سمعه ولم يؤمن لم يبق له من الممحلات إلا أن يقول : هذا البيان ليس لظهور المدعى وثبوته بل لقوة عارضة المدعي وقوته على تركيب الأدلة وصوغ{[62238]} الكلام وتصريف وجوه المقال ، وهو يعلم أنه يغلب لقوة جداله لا لظهور مقاله{[62239]} ، كما أنه ربما يقول أحد المتناظرين عند انقطاعه لخصمه : أنت تعلم أن الحق معي لكنك تستضعفني ولا تنصفني ، فحينئذ لا يبقى للخصم جواب إلا الإقسام بالإيمان التي لا مخرج عنها أنه غير مكابر وأنه منصف ، وإنما يفزع{[62240]} إلى الإيمان لأنه لو أتى بدليل آخر لكان معرضاً لمثل هذا ، فيقول : وهذا غلبتني فيه لقوة جدالك وقدرتك على سوق الأدلة ببلاغة مقالك ، فلذلك كانوا إذا أفحمهم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : إنه يريد أن يتفضل علينا فيما نعلم خلافه ، فلم يبق إلا الإقسام ، فأنزل الله أنواعاً من الأقسام بعد الدلائل العظام ، ولهذا كثرت الآيات{[62241]} في أواخر القرآن ، وفي السبع الأخيرة خاصة أكثر ، فلذلك سبب عن هذه الأدلة الرائعة والبراهين القاطعة قوله : { فلا أقسم } بإثبات " لا " النافية{[62242]} ، إما على أن يكون مؤكدة بأن ينفي{[62243]} ضد ما أثبته القسم ، فيجمع الكلام بين إثبات المعنى المخبر به ونفي ضده ، وإما على تقدير أن هذا المقام يستحق لعظمته وإنكاركم له أن يقسم عليه بأعظم من هذا على ما له من العظمة لمن له علم{[62244]} - والله أعلم .
ولما كان الكلام{[62245]} السابق في الماء الذي جعله سبحانه مجمعاً للنعم الدنيوية الظاهرة وقد رتب سبحانه لإنزاله الأنواء على منهاج دبره وقانون أحكمه ، وجعل إنزال القرآن نجوماً مفرقة وبوارق متلالئة متألقة قال : { بمواقع النجوم * } أي بمساقط الطوائف القرآنية المنيرة النافعة المحيية للقلوب ، وبهبوطها الذي ينبني عليه ما ينبني من الآثار الجليلة وأزمان ذلك وأماكنه وأحواله ، وبمساقط الكواكب وأنوائها وأماكن ذلك وأزمانه في تدبيره على ما ترون من الصنع المحكم والفعل المتقن المقوم ، الدال بغروب الكواكب على القدرة على الطي بعد النشر والإعدام بعد الإيجاد ، وبطلوعها الذي يشاهد أنها ملجأة إليه إلجاء الساقط من علو إلى سفل لا يملك لنفسه شيئاً ، لقدرته على الإيجاد بعد الإعدام ، وبآثار الأنواء على مثل ذلك بأوضح منه - إلى غير ذلك من الدلالات التي تضيق عنها العبارات ، وتقصر دون علياها مديد الإشارات ، ولمثل هذه المعاني الجليلة والخطوب العظيمة جعل في الكلام اعتراضاً بين القسم وجوابه ، وفي الاعتراض اعتراضاً بين الموصوف وصفته تأكيداً للكلام ، وهزاً لنافذ الأفهام تنبيهاً على أن الأمر عظيم والخطب فادح جسيم ،