" ثم يستطرد المؤمنين في التذكير والتقرير ، كأنما هم أصحاب الموقف المحكمون فيه : "
( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ، مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ) . . أم لعلها كلمة الملأ الأعلى ، أو نطق الله الكريم . .
" وننظر من ناحية التناسق الفني في عرض المشهد ، فنجد لاختيار مشهد النور في هذا الموضع بالذات حكمة خاصة . . إن الحديث هنا عن المنافقين والمنافقات . . والمنافقون والمنافقات يخفون باطنهم ويتظاهرون بغير ما في الضمير المكنون ، ويعيشون في ظلام من النفاق والدس والوقيعة . والنور يكشف المخبوء ويفضح المستور . كما أن الصفحة المقابلة الوضيئة لصفحة النفاق المظلمة المطموسة . فهو أليق شيء بأن تطلق أشعته على المشهد الكبير . وبأن ينير بين أيدي المؤمنين والمؤمنات وبأيمانهم ، بينما المنافقون في الظلام الذي يناسب ظلمات الضمير وظلمات الخفاء المستور ! "
وبعد فأي قلب لا يهفو لذلك النور في ذلك اليوم ? وأي قلب لا يستجيب لهتاف الإنفاق والبذل تحت إيقاع تلك الموحيات العميقة التأثير ?
إنه القرآن يعالج القلوب في ثبات واطراد ، ويدعوها دعاء العليم الخبير بطبيعتها ومداخلها ومساربها ؛ وما تستجيب له وما يؤثر فيها .
والشوط الثاني في السورة استطراد في الدعاء ، ومزيد من موحيات الاستجابة ، على هذا المنهج ، وفي هذا الطريق . .
{ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } فلو افتديتم بمثل الأرض ذهبا ومثله معه ، لما تقبل منكم ، { مَأْوَاكُمُ النَّارُ } أي : مستقركم ، { هِيَ مَوْلَاكُمْ } التي تتولاكم وتضمكم إليها ، { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } النار .
[ قال تعالى : ] { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ }
قوله تعالى : " فاليوم لا يؤخذ منكم فدية " أيها المنافقون " ولا من الذين كفروا " أيأسهم من النجاة . وقراءة العامة " يؤخذ " بالياء ؛ لأن التأنيث غير . حقيقي ، ولأنه قد فصل بينها وبين الفعل . وقرأ ابن عامر ويعقوب " تؤخذ " بالتاء واختاره أبو حاتم لتأنيث الفدية . والأول اختيار أبي عبيد ، أي لا يقبل منكم بدل ولا عوض ولا نفس أخرى . " مأواكم النار " أي مقامكم ومنزلكم " هي مولاكم " أي أولى بكم ، والمولى من يتولى مصالح الإنسان ، ثم استعمل فيمن كان ملازما للشيء . وقيل : أي النار تملك أمرهم ، بمعنى أن الله تبارك وتعالى يركب فيها الحياة والعقل فهي تتميز غيظا على الكفار ، ولهذا خوطبت في قوله تعالى : " يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد{[14711]} " [ ق : 30 ] . " وبئس المصير " أي ساءت مرجعا ومصيرا .
{ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 15 ) }
فاليوم لا يُقبل من أحد منكم -أيها المنافقون- عوض ؛ ليفتدي به من عذاب الله ، ولا من الذين كفروا بالله ورسوله ، مصيركم جميعًا النار ، هي أولى بكم من كل منزل ، وبئس المصير هي .
قوله : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا } أي لا يؤخذ منكم أيها المنافقون ما يفتدى به من المال ولو كان ملء الأرض ذهبا فإن ذلك : لا ينفعكم ولا يدفع عنكم شيئا من العذاب ولا يقبل منكم { ولا من الذين كفروا مأواكم النار } النار مستقركم ونزلكم { هي مولاكم } أي هي أولى بكم من كل منزل { وبئس المصير } بئس المرجع تؤولون إليه وهو منزلكم الثابت الدائم حيث النار وسوء العذاب{[4460]} .