ثم يعاتب الله الذين آمنوا عتابا شديدا على أمر حدث من طائفة منهم . أمر يكرهه الله أشد الكره ، ويمقته أكبر المقت ، ويستفظعه من الذين آمنوا على وجه الخصوص :
( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ? كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون . إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ، كأنهم بنيان مرصوص . .
قال علي بن طلحة عن ابن عباس قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه ، فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به . فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين ،
وشق عليهم أمره ، فقال الله سبحانه وتعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ? كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون . . . ) . . وقد اختار ابن جرير في تفسيره هذا القول .
وقال ابن كثير في تفسيره : " وحملوا الآية - يعني الجمهور - على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم ، فلما فرض نكل عنه بعضهم ، كقوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم : كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! قل : متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت . ولو كنتم في بروج مشيدة ) . .
وقال قتادة والضحاك نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون : قتلنا . ضربنا . طعنا . وفعلنا . . . ولم يكونوا فعلوا ذلك !
والراجح من سياق الآيات وذكر القتال أن مناسبة النزول هي التي عليها الجمهور وهي اختيار ابن جرير . ولكن النصوص القرآنية دائما أبعد مدى من الحوادث المفردة التي تنزل الآيات لمواجهتها ، وأشمل لحالات كثيرة غير الحالة التي نزلت بسببها . ومن ثم فإننا نسير مع هذه النصوص إلى مدلولاتها العامة ، مع اعتبار الحادث الذي تذكره روايات النزول .
إنها تبدأ بعتاب على حادث وقع أو حوادث :
وبعد أن وصف نفسَه بصفات الكمال ، وجّه المؤمنين إلى الأخلاق الفاضلة ، والصدق في القول والعمل ، فخاطبهم بقوله :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } ّ .
قال ابن عباس : كان أناس من المؤمنين يقولون : لَوَدِدْنا أن الله دلّنا على أحبِّ الأعمال إليه فنعمل به ، فأخبر الله نبيّه أن أحب الأعمال إليه إيمانٌ بالله لا شكّ فيه ، وجهادٌ في سبيله . فلما فُرضَ الجهادُ كره ذلك ناسٌ من المؤمنين وشقّ عليهم أمرُه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم . يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } قال المفسرون : إن المؤمنين قالوا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه ، ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا . فأنزل الله عز وجل : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين ، فأنزل الله تعالى :{ لم تقولون ما لا تفعلون } ؟ وقال محمد بن كعب : لما أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر ، قالت الصحابة لئن لقينا بعده قتالاً لنفرغن فيه وسعنا ، ففروا يوم أحد فعيرهم الله بهذه الآية . وقال قتادة والضحاك : نزلت في شأن القتال ، كان الرجل يقول : قاتلت ولم يقاتل ، وطعنت ولم يطعن ، فنزلت هذه الآية ، قال ابن زيد : نزلت في المنافقين كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون .
الأولى- قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } روى الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه ، فأنزل الله تعالى :{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } حتى ختمها . قال عبدالله : فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها ، قال أبو سلمة : فقرأها علينا ابن سلام . قال يحيى : فقرأها علينا أبو سلمة وقرأها علينا يحيى وقرأها علينا الأوزاعي وقرأها علينا محمد{[14923]} ، وقال ابن عباس قال عبدالله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، فلما نزل الجهاد كرهوه ، وقال الكلبي : قال المؤمنون يا رسول الله ، لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها ، فنزلت " هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم{[14924]} " [ الصف : 10 ] فمكثوا زمانا يقولون : لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين ، فدلهم الله تعالى عليها بقول : " تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم " [ الصف : 11 ] الآية . فابتلوا يوم أحد ففروا ، فنزلت تعيرهم بترك الوفاء . وقال محمد بن كعب : لما أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر قالت الصحابة : اللهم اشهد ! لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ، ففروا يوم أحد فعيرهم الله بذلك . وقال قتادة والضحاك : نزلت في قوم كانوا يقولون : نحن جاهدنا وأبلينا ولم يفعلوا . وقال صهيب : كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر وأنكاهم فقتلته . فقال رجل يا نبي الله ، إني قتلت فلانا ، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك . فقال عمر بن الخطاب وعبدالرحمن بن عوف : يا صهيب ، أما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك قتلت فلانا ! فإن فلانا انتحل قتله ، فأخبره فقال : ( أكذلك يا أبا يحيى ) ؟ قال نعم ، والله يا رسول الله ، فنزلت الآية في المنتحِل . وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين ، كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا ، فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا .
الثانية- هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها . وفي صحيح مسلم عن أبي{[14925]} موسى أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن ، فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم ، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم . وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ب " براءة " فأنسيتها ، غير أني قد حفظت منها " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب " . وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها ، غير أني حفظت منها : " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة . قال ابن العربي : وهذا كله ثابت في الدين . أما قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " فثابت في الدين لفظا ومعنى في هذه السورة . وأما قوله : " شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة " فمعنى ثابت في الدين ، فإن من التزم شيئا لزمه شرعا . والملتزم على قسمين : أحدهما : النذر ، وهو على قسمين ، نذر تقرب مبتدأ كقول : لله علي صلاة وصوم وصدقة ، ونحوه من القرب . فهذا يلزم الوفاء به إجماعا . ونذر مباح وهو ما علق بشرط رغبة ، كقوله : إن قدم غائبي فعلي صدقة ، أو علق بشرط رهبة ، كقوله : إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة . فاختلف العلماء فيه ، فقال مالك وأبو حنيفة ، يلزمه الوفاء به . وقال الشافعي في أحد أقوال : إنه لا يلزمه الوفاء به . وعموم الآية حجة لنا ، لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط . وقد قال أصحابه : إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة . وهذا وإن كان من جنس القربة لكنه لم يقصد به القربة ، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أوالإقدام على فعل . قلنا : القرب الشرعية مشقات وكلف وإن كانت قربات . وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة لجلب نفع أو دفع ضر ، فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب . قال ابن العربي : فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله : إن تزوجت أعنتك بدينار ، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا{[14926]} . فهذا لازم إجماعا من الفقهاء . وإن كان وعدا مجردا فقيل يلزم بتعلقه{[14927]} . وتعلقوا بسبب الآية ، فإنه روي أنهم كانوا يقولون : لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وهو حديث لا بأس به . وقد روي عن مجاهد أن عبدالله بن رواحة لما سمعها قال : لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أقتل . والصحيح عندي : أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر .
قلت : قال مالك : فأما العِدة مثل أن يسأل الرجلُ الرجلَ أن يهب له الهبة فيقول له نعم ، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى ذلك يلزمه . وقال ابن القاسم : إذا وعد الغرماء فقال : أشهدكم أني قد وهبت له من أن يؤدي{[14928]} إليكم ، فإن هذا يلزمه . وأما أن يقول نعم أنا أفعل ، ثم يبدو له ، فلا أرى عليه ذلك .
قلت : أي لا يقضي عليه بذلك ، فأما في مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنعم . وقد أثنى الله تعالى على من صدق وعده ووفى بنذره فقال : " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا{[14929]} " [ البقرة : 177 ] ، وقال تعالى : { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد } [ مريم : 54 ] وقد تقدم بيانه{[14930]} .
الثالثة- قال النخعي : ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم{[14931]} " [ البقرة : 44 ] ، " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه{[14932]} " [ هود : 88 ] ، { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } ، وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث مالك بن دينار عن ثمامة أن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت{[14933]} ) قلت : ( من هؤلاء يا جبريل ) ؟ قال : ( هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون ) ، وعن بعض السلف أنه قيل له : حدثنا ، فسكت . ثم قيل له : حدثنا . فقال : أترونني{[14934]} أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله ! .
الرابعة- قوله تعالى :{ لم تقولون ما لا تفعلون } استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله . أما في الماضي فيكون كذبا ، وأما في المستقبل فيكون خلفا ، وكلاهما مذموم . وتأول سفيان بن عيينة قوله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون } أي لم تقولون ما ليس الأمر فيه إليكم ، فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون ، فعلى هذا يكون الكلام محمولا على ظاهره في إنكار القول .
قوله : { ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ . إذ ينكر الله أن يقول المرء من الخير أو المعروف مالا يفعله . فإن كان قد قاله عن الماضي فهو كذب . وإن كان قاله عن المستقبل ولم يأته فهو خلف وكلاهما مذموم . وقد كان المسلمون – قبل نزول هذه الآية – يقولون : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فدلهم الله على أحب الأعمال إليه فقال : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا }فابتلوا يوما بذلك فولوا مدبرين فأنزل الله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون } . {[4522]} .