في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ} (2)

سورة قريش مكية وآيتها أربع

استجاب الله دعوة خليله إبراهيم ، وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ) . . فجعل هذا البيت آمنا ، وجعله عتيقا من سلطة المتسلطين وجبروت الجبارين ؛ وجعل من يأوي إليه آمنا والمخافة من حوله في كل مكان . . حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام . . لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام .

ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان ، مما فصلته سورة الفيل . وحفظ الله للبيت أمنه ، وصان حرمته ؛ وكان من حوله كما قال الله فيهم : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ? ) .

وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة ، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش ، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين ، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية ، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة - عن طريق القوافل - إلى اليمن في الجنوب ، وإلى الشام في الشمال . وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف .

ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء ؛ وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب ، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية ، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة ؛ وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول ، في أمان وسلام وطمأنينة . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين ، فصارتا لهم عادة وإلفا !

هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة ، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف ، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله . ومنة أمنهم الخوف . سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله ، أم في أسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء .

يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه ؛ وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ؛ ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين . .

يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع ) . . وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أن يجوعوا ، فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع ( وآمنهم من خوف ) . . وكان الأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف !

وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس . ويثير الخجل في القلوب . وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها . وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده . وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة . إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته ! لم يواجهه بصنم ولا وثن ، ولم يقل له . . إن الآلهة ستحمي بيتها . إنما قال له : " أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه " . . ولكن انحراف الجاهلية لا يقف عند منطق ، ولا يثوب إلى حق ، ولا يرجع إلى معقول .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ} (2)

{ رحلة الشتاء والصيف } : رحلة التجارة التي كانوا يقومون بها إلى اليمن والشام .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ} (2)

وانتظام رحلتهم في الشتاء لليمن ، والصيف للشام ، لأجل التجارة والمكاسب .

فأهلك الله من أرادهم بسوء ، وعظم أمر الحرم وأهله في قلوب العرب ، حتى احترموهم ، ولم يعترضوا لهم في أي : سفر أرادوا .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ} (2)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{ رِحْلَةَ الشّتاءِ وَالصّيْفِ } يقول : رحلة قريش الرحلتين ، إحداهما إلى الشام في الصيف ، والأخرى إلى اليمن في الشتاء . ...

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة : إحداهما في الشتاء إلى اليمن ؛ لأنها أدفأ ، والأخرى في الصيف إلى الشام . وكان الحرم وادياً جدباً لا زرع فيه ولا ضرع ، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ، وكان لا يتعرض لهم أحد بسوء ، كانوا يقولون : قريش سكان حرم الله وولاة بيته ، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

واعلم أن وجه النعمة والمنة فيه أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا ، لترك أهل الأقطار تعظيمهم وأيضا لتفرقوا وصار حالهم كحال اليهود المذكور في قوله : { وقطعناهم في الأرض أمما } واجتماع القبيلة الواحدة في مكان واحد أدخل في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى ، ونبه تعالى أن من شرط السفر المؤانسة والألفة ، ومنه قوله تعالى : { ولا جدال في الحج } والسفر أحوج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ إيلافهم } أي إيلافنا إياهم { رحلة الشتاء } التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن ؛ لأنها بلاد حارة ينالون بها متاجر الجنوب { والصيف } التي يرحلونها إلى الشام في زمنه ؛ لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الشمال ، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المكرم المعظم ببيت الله ، والناس يتخطفون من حولهم ، ففعل الله تعالى بأصحاب الفيل ما فعل ليزداد العرب لهم هيبة وتعظيماً ، فتزيد في إكرامهم لما رأت من إكرام الله تعالى لهم ، فيكون لهم غاية التمكن في رحلتهم ...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ومعنى الآية تذكير قريش بنعمة الله عليهم إذ يسر لهم ما لم يتأت لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين وغارات المغيرين في السنة كلها بما يسر لهم من بناء الكعبة وشرعة الحج وأن جعلهم عمار المسجد الحرام وجعل لهم مهابة وحرمة في نفوس العرب كلهم في الأشهر الحرم وفي غيرها . وعند القبائل التي تحرِّم الأشهر الحُرم والقبائلِ التي لا تحرّمها مثل طيء وقضاعة وخثعم ، فتيسرت لهم الأسفار في بلاد العرب من جنوبها إلى شمالها ، ولاذ بهم أصحاب الحاجات يسافرون معهم ، وأصحاب التجارات يحمِّلونهم سلعهم ، وصارت مكة وسطاً تُجلب إليها السلع من جميع البلاد العربية فتوزع إلى طالبيها في بقية البلاد ، فاستغنى أهل مكة بالتجارة إذ لم يكونوا أهل زرع ولا ضرع إذ كانوا بوادٍ غير ذي زرع وكانوا يجلبون أقواتهم فيجلبون من بلاد اليمن الحبوب من بُرّ وشعير وذُرة وزبيب وأديم وثياب والسيوف اليمانية ، ومن بلاد الشام الحبوب والتمر والزيت والزبيب والثياب والسيوف المشرفية ، زيادة على ما جعل لهم مع معظم العرب من الأشهر الحرم ، وما أقيم لهم من مواسم الحج وأسواقه كما يشير إليه قوله تعالى : { فليعبدوا رب هذا البيت } . فذلك وجه تعليل الأمر بتوحيدهم الله بخصوص نعمة هذا الإِيلاف مع أن لله عليهم نعماً كثيرة لأن هذا الإِيلاف كان سبباً جامعاً لأهم النعم التي بها قوام بقائهم .

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

مكّة تقع في واد غير ذي زرع ، والرعي فيها قليل ، لذلك كانت عائدات أهل مكّة غالباً من قوافل التجارة ، في فصل الشتاء يتجهون إلى أرض اليمن في الجنوب حيث الهواء معتدل ، وفي فصل الصيف إلى أرض الشام في الشمال حيث الجوّ لطيف . والشام واليمن كانا من مراكز التجارة آنئذ ، ومكّة والمدينة حلقتا اتصال بينهما . هذه هي رحلة الشتاء . . . ورحلة الصيف . والمقصود ب «إيلافهم » في الآية أعلاه قد يكون جعلهم يألفون الأرض المقدّسة خلال رحلاتهم وينشدّون إليها لما فيها من أمن ، كي لا تغريهم أرض اليمن والشام ، فيسكنون فيها ويهجرون مكّة . وقد يكون المقصود إيجاد الألفة بينهم وبين سائر القبائل طوال مدّة الرحلتين ؛ لأنّ النّاس بدأوا ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ، ويعيرونها أهمية خاصّة بعد قصّة اندحار جيش أبرهة . قريش لم تكن طبعاً مستحقة لكل هذا اللطف الإلهي لما كانت تقترفه من آثام ، لكن اللّه لطف بهم لما كان مقدّراً للإسلام والنّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يظهرا من هذه القبيلة وتلك الأرض المقدّسة . ...

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ} (2)

قوله تعالى : { إيلافهم رحلة الشتاء والصيف }

قرأ مجاهد وحميد " إلفهم " ساكنة اللام بغير ياء . وروي نحوه عن ابن كثير . وكذلك روت أسماء أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ " إلفهم " . وروي عن ابن عباس وغيره . وقرأ أبو جعفر والوليد عن أهل الشام وأبو حيوة " إلافهم " مهموزا مختلسا بلا ياء . وقرأ أبو بكر عن عاصم " إئلافهم " بهمزتين : الأولى مكسورة والثانية ساكنة . والجمع بين الهمزتين في الكلمتين شاذ . الباقون " إيلافهم " بالمد والهمز ، وهو الاختيار ، وهو بدل من الإيلاف الأول للبيان . وهو مصدر آلف : إذا جعلته يألف . وألف هو إلفا ، على ما تقدم ذكره من القراءة ، أي وما قد ألفوه من رحلة الشتاء والصيف . روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : { إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } قال : لا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف ، مِنةً منهُ على قريش . وقال الهروي وغيره : وكان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة : هاشم ، وعبد شمس ، والمطلب ، ونوفل بنو عبد مناف . فأما هاشم فإنه كان يؤلف ملك الشام ، أي أخذ منه حبلا وعهدا يأمن به في تجارته إلى الشام . وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة . والمطلب إلى اليمن ، ونوفل إلى فارس . ومعنى يؤلف يجير . فكان هؤلاء الإخوة يسمون المجيرين . فكان تجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة ، فلا يتعرض لهم . قال الزهري : الإيلاف : شبه الإجارة بالخفارة{[16441]} ؛ يقال : آلف يؤلف : إذا أجار الحمائل بالخفارة . والحمائل : جمع حمولة{[16442]} . قال : والتأويل : أن قريشا كانوا سكان الحرم ، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع ، وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين ، والناس يُتَخطفون من حولهم ، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا : نحن أهل حرم الله ، فلا يتعرض الناس لهم . وذكر أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في تفسيره : حدثنا سعيد بن محمد ، عن بكر بن سهل الدمياطي ، بإسناده إلى ابن عباس ، في قول الله عز وجل : { لإيلاف قريش } إلفهم رحلة الشتاء والصيف . وذلك أن قريشا كانوا إذا أصابت واحدا منهم{[16443]} مخمصة ، جرى هو وعياله إلى موضع معروف ، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا ، حتى كان عمرو بن عبد مناف ، وكان سيد زمانه ، وله ابن يقال له أسد ، وكان له ترب{[16444]} من بني مخزوم ، يحبه ويلعب معه . فقال له : نحن غدا نعتفد ، قال ابن فارس : هذه لفظة في هذا الخبر لا أدري : بالدال هي أم بالراء ، فإن كانت بالراء فلعلها من العفر ، وهو التراب ، وإن كان بالدال ، فما أدري معناها{[16445]} ، وتأويله على ما أظنه : ذهابهم إلى ذلك الخباء ، وموتهم واحدا بعد واحد . قال : فدخل أسد على أمه يبكي ، وذكر ما قاله تربه . قال : فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق ، فعاشوا به أياما . ثم إن تربه أتاه أيضا فقال : نحن غدا نعتفد ، فدخل أسد على أبيه يبكي ، وخبره خبر تربه ، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف ، فقام خطيبا في قريش وكانوا يطيعون أمره ، فقال : إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب ، وتذلون وتعز العرب ، وأنتم أهل حرم الله جل وعز ، وأشرف ولد آدم ، والناس لكم تبع ، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم . فقالوا : نحن لك تبع . قال : ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب أسد - فأغنوه عن الاعتفاد ، ففعلوا . ثم إنه نحر البدن ، وذبح الكباش والمعز ، ثم هشم الثريد ، وأطعم الناس ، فسمي هاشما . وفيه قال الشاعر :

عمرو الذي{[16446]} هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مُسْنِتُونَ{[16447]} عجافُ

ثم جمع كل بني أب على رحلتين : في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام للتجارات ، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير ، حتى صار فقيرهم كغنيهم ، فجاء الإسلام وهم على هذا ، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش ، وهو قول شاعرهم :

والخالطون فقيرهم بغنيهم *** حتى يصير فقيرهم كالكافي

فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقال : { فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع } بصنيع هاشم{ وآمنهم من خوف } أن تكثر العرب ويقلوا .

قوله تعالى : { رحلة الشتاء والصيف } " رحلة " نصب بالمصدر ، أي ارتحالهم رحلة ، أو بوقوع " إيلافهم " عليه ، أو على الظرف . ولو جعلتها في محل الرفع ، على معنى هما رحلة الشتاء والصيف ، لجاز ، والأول أولى . والرحلة الارتحال . وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء ؛ لأنها بلاد حامية ، والرحلة الأخرى في الصيف إلى الشام ، لأنها بلاد باردة . وعن ابن عباس أيضا قال : كانوا يشتون بمكة لدفئها ، ويصيفون بالطائف لهوائها . وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء ، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف ، فذكرهم الله تعالى هذه النعمة . وقال الشاعر :

تَشْتِي بمكة نعمة *** ومصيفها بالطائف

وهنا أربع مسائل :

الأولى : اختار القاضي أبو بكر بن العربي وغيره من العلماء : أن قوله تعالى : { لإيلاف } متعلق بما قبله . ولا يجوز أن يكون متعلقا بما بعده ، وهو قوله تعالى : { فليعبدوا رب هذا البيت } قال : وإذا ثبت أنه متعلق بالسورة الأخرى ، وقد قطع عنه بكلام مبتدأ ، واستئناف بيان وسطر " بسم الله الرحمن الرحيم " فقد تبين جواز الوقف في القراءة{[16448]} للقراء قبل تمام الكلام ، وليست المواقف التي ينتزع{[16449]} بها القراء شرعا عن النبي صلى الله عليه وسلم مرويا ، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني ، فإذا علموها وقفوا حيث شاءوا . فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه ، ولا تُعدْ ما قبله إذا اعتراك ذلك ، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نفسك . هذا رأيي فيه ، ولا دليل على ما قالوه بحال ، ولكني أعتمد الوقف على التمام ، كراهية الخروج عنهم .

قلت : ومن الدليل على صحة هذا ، قراءة النبي صلى الله عليه وسلم{ الحمد لله رب العالمين } ثم يقف . { الرحمن الرحيم } ثم يقف . وقد مضى في مقدمة الكتاب{[16450]} . وأجمع المسلمون أن الوقف عند قوله : { كعصف مأكول } [ الفيل : 5 ] ليس بقبيح . وكيف يقال : إنه قبيح ، وهذه السورة تقرأ في الركعة الأولى ، والتي بعدها في الركعة الثانية ، فيتخللها من قطع القراءة أركان ، وليس أحد من العلماء يكره ذلك ، وما كانت العلة فيه إلا أن قوله تعالى : { فجعلهم كعصف مأكول } [ الفيل : 5 ] انتهاء آية . فالقياس على ذلك ألا يمتنع الوقف عند أعجاز الآيات سواء كان الكلام يتم ، والغرض ينتهي ، أو لا يتم ولا ينتهي . وأيضا فإن الفواصل حلية وزينة للكلام المنظوم ، ولولاها لم يتبين المنظوم من المنثور . ولا خفاء أن الكلام المنظوم أحسن ، فثبت بذلك أن الفواصل من محاسن المنظوم ، فمن أظهر فواصله بالوقوف عليها فقد أبدى محاسنه ، وترك الوقوف يخفي تلك المحاسن ، ويشبه المنثور بالمنظوم ، وذلك إخلال بحق المقروء .

الثانية : قال مالك : الشتاء نصف السنة ، والصيف نصفها ، ولم أزل أرى ربيعة ابن أبي عبد الرحمن{[16451]} ومن معه ، لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا ، وهو يوم التاسع عشر من بشنس ، وهو يوم خمسة وعشرين من عدد{[16452]} الروم أو الفرس . وأراد{[16453]} بطلوع الثريا أن يخرج السعاة ، ويسير الناس بمواشيهم إلى مياههم ، وأن طلوع الثريا أول{[16454]} الصيف ودبر الشتاء . وهذا مما لا خلاف فيه بين أصحابه عنه . وقال عنه أشهب وحده : إذا سقطت الهقعة{[16455]} نقص الليل ، ، فلما جعل طلوع الثريا أول الصيف ، وجب أن يكون له في مطلق السنة ستة أشهر ، ثم يستقبل الشتاء من بعد ذهاب الصيف ستة أشهر . وقد سئل محمد بن عبد الحكم عمن حلف ألا يكلم أمرأ حتى يدخل الشتاء ؟ فقال : لا يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من هاتور . ولو قال يدخل الصيف ، لم يكلمه حتى يمضى سبعة عشر من بشنس . قال القرظي : أما ذكر هذا عن محمد في بشنس ، فهو سهو ، إنما هو تسعة عشر من بشنس ؛ لأنك إذ حسبت المنازل على ما هي عليه ، من ثلاث عشرة ليلة كل منزلة ، علمت أن ما بين تسع عشرة من هاتور لا تنقضي منازل إلا بدخول تسع عشرة من بشنس . والله أعلم .

الثالثة : قال قوم : الزمان أربعة أقسام : شتاء ، وربيع ، وصيف ، وخريف . وقال قوم : هو شتاء ، وصيف ، وقيظ ، وخريف . والذي قاله مالك أصح ؛ لأن الله قسم الزمان قسمين{[16456]} ولم يجعل لهما ثالثا .

الرابعة : لما امتن الله تعالى على قريش برحلتين ، شتاء وصيفا ، على ما تقدم ، كان فيه دليل على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلين ، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر ، كالجلوس في المجلس البحري في الصيف ، وفي القبلي في الشتاء ، وفي اتخاذ البادهنجات{[16457]} والخيش للتبريد ، واللبد واليانوسة{[16458]} للدفء .


[16441]:في بعض نسخ الأصل: "الإجارة والخفارة" ولم تجد هذا في كتاب التهذيب للأزهري ولا في غيره من كتب اللغة. والإجارة: الإغاثة والحماية. والخفارة (مثلثة الخاء) : الأمان.
[16442]:الحمولة (بالفتح): الإبل التي تحمل.
[16443]:المخمصة: المجاعة.
[16444]:الترب (بالكسر): اللدة ومساويك في السن ومن ولد معك.
[16445]:في اللسان مادة عفد: "الإعتفاد: أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل أحدا حتى يموت جوعا".
[16446]:في اللسان: "عمرو العلا....".
[16447]:مسنتون: أي أصابتهم السنة. والسنة: الجدب والقحط.
[16448]:في ابن العربي: "في القرآن".
[16449]:في ابن العربي: "تنتزع".
[16450]:راجع جـ 1 ص 10 فما بعد.
[16451]:هو ربيعة الرأي، أدرك بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأكابر من التابعين، وكان صاحب الفتوى بالمدينة، وعنه أخذ مالك بن أنس وغيره. توفي سنة 136هـ.
[16452]:كذا في الأصول وابن العربي. أي من عدد شهورهم.
[16453]:كذا في ابن العربي. وفي نسخ الأصل: "وأرى".
[16454]:في ابن العربي: "قبل الصيف".
[16455]:الهقعة: ثلاثة كواكب نيرة قريب بعضها من بعض، فوق منكب الجوزاء، وهي منزل من منازل القمر.
[16456]:في الأصول: "لأن قسمة الله للزمان قسمين، ولم يجعل لهما ثالثا" و هي غير مستقيمة. وفي ابن العربي "لأجل قسمة الله الزمان قسمين ... الخ".
[16457]:في كتاب شفاء العليل للشهاب الخفاجى: "البادهنج" معرب بادخون أوبادكير، منفذ للهواء في سقف البيت.
[16458]:في ابن العربي: "اليانوس". ولم نجد في المعاجم العربية هذه المادة.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ} (2)

{ لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } قريش هم حي من عرب الحجاز الذين هم من ذرية معد بن عدنان ، إلا أنه لا يقال قريشي إلا لمن كان من ذرية النضر بن كنانة ، وهم ينقسمون إلى أفخاذ وبيوت ، نحو بني هاشم وبني أمية وبني مخزوم وغيرهم . وإنما سميت القبيلة قريشا لتقرشهم ، والتقرش التكسب ، وكانوا تجارا . وعن معاوية أنه سأل ابن عباس : لم سميت قريش قريشا ؟ قال : لدابة في البحر تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ، وكانوا ساكنين بمكة ، وكان لهم رحلتان في كل عام للتجارة : رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في الصيف إلى الشام . وقيل : كانت الرحلتان جميعا إلى الشام ، وقيل : كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل ، فيقيمون بها ، ويرحلون في الشتاء إلى مكة لسكناهم بها ، والإيلاف مصدر من قولك : آلفت المكان إذا ألفته ، وقيل : هو منقول منه بالهمزة ، يقال : ألف الرجل الشيء وألفه إياه غيره ، فالمعنى على القول الأول أن قريشا ألفوا رحلة الشتاء والصيف ، وعلى الثاني أن الله ألفهم الرحلتين ، واختلف في تعلق قوله : { لإيلاف قريش } على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه يتعلق بقوله : { فليعبدوا } الله من أجل إيلافهم الرحلتين ، فإن ذلك نعمة من الله عليهم . الثاني : أنه يتعلق بمحذوف تقديره اعجبوا لإيلاف قريش .

الثالث : أنه يتعلق بسورة الفيل ، والمعنى أن الله أهلك أصحاب الفيل لإيلاف قريش ، فهو يتعلق بقوله : { فجعلهم } أو بما قبله من الأفعال ، ويؤيد هذا أن السورتين في مصحف أبي بن كعب سورة واحدة لا فصل بينهما ، وقد قرأهما عمر في ركعة واحدة من المغرب ، وذكر الله الإيلاف أولا مطلقا ، ثم أبدل منه الإيلاف المقيد بالرحلتين تعظيما للأمر ، ونصب رحلة ؛ لأنه مفعول بإيلافهم ، وقال : رحلة ، وأراد رحلتين ، فهو كقول الشاعر :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا *** . . .