ولما كان حاصل أمر الفريقين أنه أظهر خوف الكافرين في غاية الأمن وأبطن أمن المؤمنين في أزعج خوف ، وكان هذا عين اللطف ، فأنه الوصول إلى الشيء بضده ، ويطلق على إيصال البر إلى الخلق على وجه يدق إدراكه ، وكان أكثر ما يبطئ بالإنسان في أمر الدين اهتمامه بالرزق ، أنتج ذلك قوله : { الله } أي الذي له الأمر كله فهو يفعل ما يريد { لطيف } أي بالغ في العالم وإيقاع الإحسان بإيصال المنافع ، وصرف المضار على وجه يلطف إدراكه ، قال القشيري : اللطيف العالم بدقائق الأمور وغوامضها وهو الملطف المحسن وكلاهما في صفته سبحانه صحيح ، وأكثر ما يستعمل اللطف في وصفه بالإحسان في الأمور الدينية ، وقال الرازي في اللوامع : هو اسم مركب من علم ورحمة ورفق خفي { بعباده } - انتهى .
أما بالمؤمن فواضح ، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى ، فالاسم الأول تخويف والثاني ترجية ظاهرة باطنها تخويف ، إشارة إلى ما ينبغي من الخوف والرجاء ، وأن يكون الخوف أغلب .
ولما كان أظهر ما يكون هذا الوصف في الرزق ، فإنه يوسع على من لا حيلة له ، ويحرم من هو في غاية القوة والقدرة ، ويرفع الضعيف الجبان ويخفض القوي الشجاع ، وكل ذلك على حسب ما يعلم من بواطنهم ويزيد من أعمالهم ، قال دالاً على ذلك استئنافاً لمن سأل عن كيفية اللطف : { يرزق من يشاء } مهما شاء على سبيل من السعة أو الضيق أو التوسط لا مانع له من شيء من ذلك ، ويمنع الرزق عمن يشاء إذا علم فراغ أجله فيتوفاه إليه فأجهدوا أنفسكم في طلب مرضاته ، ولا تلتفتوا إلى الخوف من الحاجة فإنه قد فرغ من تقدير الرزق ونهى عن المبالغة في طلبه .
ولما كان ذلك لا يستطيعه أحد سواه لما يحتاج إليه من القوة الكاملة والعزة الشاملة قال : { وهو القوي } أي فلا يضيق عطاؤه بشيء { العزيز * } فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء .
قوله تعالى : { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ( 19 ) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ( 20 ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 21 ) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } .
يبين الله لطفه بعباده وإحسانه إليهم ؛ إذ رزقهم من واسع فضله وجزيل بركاته وكرمه . وأنزل إليهم الكتاب فيه تبصرة لهم وهداية وبعث فيهم نبيين من أنفسهم لينذروهم لقاء الله ويحذروهم يوم المعاد وليستنقذوهم من خُسران الدنيا والآخرة .
فقال سبحانه في كلماته الربانية العجيبة : { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } { لطيفٌ } من اللطف وهو الرفق . واللطف من الله معناه التوفيق والعصمة . {[4097]}
وهذه حقيقة راسخة تنطق بها كلمات الله الفُضلى ، ويفيض بها قوله الحق والصدق وهو أن الله رفيق بالعباد وحفيٌّ بهم فلا يظلمهم ولا يحيف عليهم ؛ بل إنه عز وعلا قد أسبغ عليهم رحمته وفضله وإحسانه ما أقام به عليهم الحجة . ومن جملة لطف الله بالعباد وبالغ رأفته لهم ، ذلك الرزق الذي جعله لهم ليقتاتوا ويعيشوا مطمئنين في الأرض ، فلا تقُضُّهم القلة ولا يعُضُّهم الجوع ، سواء فيهم المؤمنون والكافرون . فكلهم ينالون حظهم من الرزق الذي كتب الله لهم في هذه الدنيا .
وهذا هو قوله : { يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ } يرزق الله جميع الناس . ورزقُهُ لهم على أقدار متفاوتة . فيوسع على هذا ويضيِّقُ على هذا . وفي ذلك حكمة لله بالغة يعلمها هو سبحانه .
قوله : { وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } الله القوي الجبار ، الذي تهبط تحت قهره وجبروته كل القوى . وهو سبحانه العزيز . أي المنيع الجناب الذي لا يغْلبُهُ غالب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.