وحين يصل بهم إلى فعل الله بمن هو مسرف كذاب ، يهجم عليهم مخوفاً بعقاب الله ، محذراً من بأسه الذي لا ينجيهم منه ما هم فيه من ملك وسلطان ، مذكراً إياهم بهذه النعمة التي تستحق الشكران لا الكفران :
( يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض . فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ? ) . .
إن الرجل يشعر بما يشعر به القلب المؤمن ، من أن بأس الله أقرب ما يكون لأصحاب الملك والسلطان في الأرض ؛ فهم أحق الناس بأن يحذروه ، وأجدر الناس بأن يحسوه ويتقوه ، وأن يبيتوا منه على وجل ، فهو يتربص بهم في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . ومن ثم يذكرهم بما هم فيه من الملك والسلطان ، وهو يشير إلى هذا المعنى المستقر في حسه البصير . ثم يجمل نفسه فيهم وهو يذكرهم ببأس الله : ( فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ? )ليشعرهم أن أمرهم يهمه ، فهو واحد منهم ، ينتظر مصيره معهم ؛ وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم ، لعل هذا أن يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام ، ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص . وهو يحاول أن يشعرهم أن بأس الله إن جاء فلا ناصر منه ولا مجير عليه ، وأنهم إزاءه ضعاف ضعاف .
هنا يأخذ فرعون ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة . تأخذه العزة بالإثم . ويرى في النصح الخالص افتياتاً على سلطانه ، ونقصاً من نفوذه ، ومشاركة له في النفوذ والسلطان :
( قال فرعون : ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) . .
إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صواباً ، وأعتقده نافعاً . وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال ! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب ? ! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون ? ! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأياً ? ! وإلا فلم كانوا طغاة ? !
{ يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض } هذا من قول مؤمن آل فرعون أعلمهم أن لهم الملك ظاهرين عالين على بني إسرائيل في أرض مصر ثم أعلمهم أن عذاب الله لا يدفعه دافع فقال { فمن ينصرنا من بأس الله } أي من يمنعنا من عذابه { إن جاءنا } ف { قال فرعون } حين منع من قتله { ما أريكم } من الرأي والنصيحة { إلا ما أرى } لنفسي
ولما خيلهم بهذا الكلام الذي يمكنه توجيهه ، شرع في وعظهم إظهاراً للنصيحة لهم والتحسر عليهم فقال مذكراً لهم بنعمة الله عليهم محذراً لهم من سلبها مستعطفاً بذكر أنه منهم : { يا قوم } وعبر بأسلوب الخطاب دون التكلم تصريحاً بالمقصود فقال : { لكم الملك } ونبه على ما يعرفونه من تقلبات الدهر بقوله : { اليوم } وأشار إلى ما عهدوه من الخذلان في بعض الأزمان بقوله : { ظاهرين } أي غالبين على بني إسرائيل وغيرهم ، وما زال أهل البلاء يتوقعون الرخاء ، وأهل الرخاء يتوقعون البلاء ، ونبه على الإله الواحد القهار الذي له ملك السماوات فملك الأرض من باب الأولى ، بقوله معبراً بأداة الظرف الدالة على الاحتياج ترهيباً لهم : { في الأرض } أي أرض مصر التي هي لحسنها وجمعها المنافع كالأرض كلها ، قد غلبتم الناس عليها .
ولما علم من هذا أنهم لا يملكون جميع الكون ، تسبب عنه أن المالك للكل هو الإله الحق والملك المطلق الذي لا مانع لما يريد ، فلا ينبغي لأحد من عبيده أن يتعرض إلى ما لا قبل له به من سخطه ، فلذلك قال : { فمن ينصرنا } أي أنا وأنتم ، أدرج نفسه فيهم عند ذكر الشر بعد إفراده لهم بالملك إبعاداً للتهمة وحثاً على قبول النصيحة : { من بأس الله } أي الذي له الملك كله ، ونبه بأداة الشك على أن عذابه لهم أمر ممكن ، والعاقل من يجوز الجائز ويسعى في التدرع منه فقال : { إن جاءنا } أي غضباً لهذا الذي يدعي أنه أرسله ، ويجوز أن يكون صادقاً ، بل يجب اعتقاد ذلك لما أظهره من الدلائل ، وفي قوله هذا تسجيل عليهم بأنهم يعرفون أن الله ملك الملوك ورب الأرباب ، وكذا قول موسى عليه السلام
{ لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض }[ الاسراء : 102 ] وأن ادعاء فرعون الإلهية إنما هو محض عناد .
ولما سمع فرعون ما لا مطعن له فيه ، فكان بحيث يخاف من بقية قومه إن أفحش في أمر هذا المؤمن ، فتشوف السامع لجوابه ، أخبر تعالى أنه رد رداً دون رد بقوله : { قال فرعون } أي لقومه جواباً لما قاله هذا المؤمن دالاً بالحيدة عن حاق جوابه على الانقطاع بالعجز عن نقض شيء من كلامه : { ما أريكم } أي من الآراء { إلا ما أرى } أي إنه الصواب على قدر مبلغ علمي ، أي إن ما أظهرته لكم هو الذي أبطنه . ولما كان في كلام المؤمن تعريض في أمر الهداية ، وكان الإنسان ربما يتوافق قلبه ولسانه ، ويكون تطابقهما على ضلال ، قال : { وما أهديكم } أي بما أشرت به من قتل موسى عليه السلام وغيره { إلا سبيل الرشاد * } أي الذي أرى أنه صواب ، لا أبطن شيئاً وأظهر غيره ، وربما يكون في هذا تنبيه لهم على ما يلوح من كلام المؤمن لأنه ارتاب في أمره ، وفي هذا أنه في غاية الرعب من أمر موسى عليه السلام لاستشارته لقومه في أمره واحتمال هذه المراجعات التي يلوح منها أنه يكاد ينفطر غيظاً منه ولكنه يتجلد .
{ يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( 29 ) }
يا قوم لكم السلطان اليوم ظاهرين في الأرض على بني إسرائيل ، فمَن يدفع عنا عذاب الله إن حلَّ بنا ؟ قال فرعون لقومه مجيبًا : ما أريكم- أيها الناس- من الرأي والنصيحة إلا ما أرى لنفسي ولكم صلاحًا وصوابًا ، وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصواب .
{ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ } حال من ضمير { لكم } وفي ذلك ينبههم الرجل المؤمن إلى أنهم في زمامهم أولو مُلك ومنعة وشوكة { ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ } يعني أولي بأس وقوة في أرض مصر ، عالين فيها على بني إسرائيل . أي لكم ملك مصر وقد علوتم الناس وقهرتموهم فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لعذاب الله وشديد بأسه وانتقامه . وهو قوله : { فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا } يحذِّرُ قومه بأس الله وأليم عقابه وانتقامه فإنه إن نزل بهم فلا طاقة لهم بدفعه أو احتماله وليس لهم من أحد يغنيهم أو يمنعهم من البلاء إن حاق بهم . لكن فرعون ذو طبع غليظ كزٍّ ، وقلب شديد القسوة بور ، لا يصيخ لموعظة ولا يرق لعبرة أو نصح . بل ظل موغلا في الجحود والتكذيب والصدِّ عن دين الله بالقهر والتجبر فقال : { مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ } يعني ما أشير عليكم بما أراه وهو قتل موسى ولا أستصوب غير قتله . وما تقولونه أنتم خلاف ذلك فهو غير سديد { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ } يعني ما أدلكم برأيي هذا إلا سبيل الصواب والسداد{[4016]} .