نزلت الآيات الأولى من هذه السورة بمناسبة معينة . ذلك حين غلبت فارس على الروم فيما كانت تضع يدها من جزيرة العرب . وكان ذلك في إبان احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة قبل الهجرة والمشركين . . ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب دينهم النصرانية ، وكان الفرس غير موحدين ديانتهم المجوسية ، فقد وجد المشركون من أهل مكة في الحادث فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على عقيدة التوحيد ، وفألا بانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان .
ومن ثم نزلت الآيات الأولى من هذه السورة تبشر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرحلها المؤمنون ، الذين يودون انتصار ملة الإيمان من كل دين .
ولكن القرآن لم يقف بالمسلمين وخصومهم عند هذا الوعد ، ولا في حدود ذلك الحادث . إنما كانت هذه مناسبة لينطلق بهم إلى آفاق أبعد وآماد أوسع من ذلك الحادث الموقوت . وليصلهم بالكون كله ، وليربط بين سنة الله في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما . وليصل بين ماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها . ثم يستطرد بها إلى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة الدنيا ، وإلى العالم الآخر بعد عالم الأرض المحدود . ثم يطوف بهم في مشاهد الكون ، وفي أغوار النفس ، وفي أحوال البشر ، وفي عجائب الفطر . . فإذا هم في ذلك المحيط الهائل الضخم الرحيب يطلعون على آفاق من المعرفة ترفع حياتهم وتطلقها ، وتوسع آمادها وأهدافها ، وتخرجهم من تلك العزلة الضيقة . عزلة المكان والزمان والحادث . إلى فسحة الكون كله : ماضيه وحاضره ومستقبله ، وإلى نواميس الكون وسننه وروابطه .
ومن ثم يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير . ويشعرون بضخامة النواميس التي تحكم هذا الكون ، وتحكم فطرة البشر ؛ ودقة السنن التي تصرف حياة الناس وأحداث الحياة ، وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة ؛ وعدالة الموازين التي تقدر بها أعمال الخلق ، ويقوم بها نشاطهم في هذه الأرض ، ويلقون على أساسها الجزاء في الدنيا والآخرة .
وفي ظل ذلك التصور المرتفع الواسع الشامل تتكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها - حتى وهي ناشئة في مكة محصورة بين شعابها وجبالها - ويتسع مجالها فلا تعود مرتبطة بهذه الأرض وحدها إنما هي مرتبطة كذلك بفطرة هذا الكون ونواميسه الكبرى ، وفطرة النفس البشرية وأطوارها ، وماضي هذه البشرية ومستقبلها . لا على هذه الأرض وحدها ، ولكن كذلك في العالم الآخر الوثيق الصلة بها والارتباط .
وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد ؛ ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم ؛ ويتطلع إلى السماء والآخرة ؛ ويتلفت حواليه على العجائب والأسرار ، وخلفه وقدامه على الحوادث والمصائر . ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل ؛ ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله ، فيؤدي حينئذ دوره على بصيرة ، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام .
ويمضي سياق السورة في عرض تلك الارتباطات ، وتحقيق دلالاتها في نظام الكون ، وتثبيت مدلولاتها في القلوب . . يمضي سياق السورة في شوطين مترابطين :
في الشوط الأول يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما ، ويرتبط به أمر الدنيا والآخرة . ويوجه قلوبهم إلى سنة الله فيمن مضى قبلهم من القرون . ويقيس عليها قضية البعث والإعادة . ومن ثم يعرض عليهم مشهدا من مشاهد القيامة وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين . ثم يعود من هذه الجولة إلى مشاهد الكون ، وآيات الله المبثوثة في ثناياه ؛ ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب . ويضرب لهم من أنفسهم ومما ملكت أيمانهم مثلا يكشف عن سخافة فكرة الشرك ، وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم . . وينهي هذا الشوط بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى اتباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح . طريق الفطرة التي فطر الناس عليها ؛ والتي لا تتبدل ولا تدور مع الهوى ؛ ولا يتفرق متبعوها فرقا وشيعا ، كما تفرق الذين اتبعوا الهوى .
وفي الشوط الثاني يكشف عما في طبيعة الناس من تقلب لا يصلح أن تقام عليه الحياة . ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء ، ويصور حالهم في الرحمة والضر ، وعند بسط الرزق وقبضه . ويستطرد بهذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرزق وتنميته . ويعود إلى قضية الشرك والشركاء فيعرضها من هذه الزاوية ؛ فإذا هم لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون . ويربط بين ظهور الفساد في البر والبحر وعمل الناس وكسبهم ؛ ويوجههم إلى السير في الأرض ، والنظر في عواقب المشركين من قبل . ومن ثم يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاستقامة على دين الفطرة ، من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كل بما كسبت يداه . ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات الله في مشاهد الكون كما عاد بهم في الشوط الأول . ويعقب عليها بأن الهدى هدى الله ؛ وأن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لا يملك إلا البلاغ ، فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم . ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها ، منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى الموت والبعث والقيامة ، ويعرض عليهم مشهدا من مشاهدها . ثم ينهي هذا الشوط ويختم معه السورة بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر على دعوته ، وما يلقاه من الناس فيها ؛ والاطمئنان إلى أن وعد الله حق لا بد آت ؛ فلا يقلقه ولا يستخفه الذين لا يوقنون .
وجو السورة وسياقها معا يتعاونان في تصوير موضوعها الرئيسي . و هو الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس ، وأحداث الحياة ، وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها ، وسنن الكون ونواميس الوجود . وفي ظلال هذه الارتباطات يبدو أن كل حركة وكل نأمة ، وكل حادث وكل حالة ، وكل نشأة وكل عاقبة ، وكل نصر وكل هزيمة . . كلها مرتبطة برباط وثيق ، محكومة بقانون دقيق . وأن مرد الأمر فيها كله لله : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) . وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكدها القرآن كله ، بوصفها الحقيقة الموجهة في هذه العقيدة . الحقيقة التي تنشأ عنها جميع التصورات والمشاعر والقيم والتقديرات ؛ والتي بدونها لا يستقيم تصور ولا تقدير . .
والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل :
ألم . غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين . لله الأمر من قبل ومن بعد . ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ، ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم . وعد الله ، لا يخلف الله وعده . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون . .
بدأت السورة بالأحرف المقطعة : ألف . لام . ميم التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى أن هذا القرآن - ومنه هذه السورة - مصوغ من مثل هذه الأحرف ، التي يعرفها العرب ؛ وهو مع هذا معجز لهم ، لا يملكون صياغة مثله ، والأحرف بين أيديهم ، ومنها لغتهم .
كانت الدولة الرومانية والدولة الفارسية أعظمَ دولِ العالم في عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت الحروبُ بينهما دائمة . وفي عصر كسرى أبرويز نَشِطت الدولةُ الفارسية وانتصرت على الروم واستولت على جميع ممتلكاتهم في العراق وبلاد الشام ومصر وآسيا الصغرى . يومذاك تقلصت الإمبراطورية الرومانية في عاصمتها ، وسُدّت عليها جميع الطرق في حصار اقتصادي قاس ، وعم القحط ، وفشت الأمراض الوبائية . وأخذ الفرس يستعبدون الرعايا الروم ويستبدّون بهم للقضاء على المسيحية ، فدمروا الكنائس وأخذوا خشبة الصليب المقدس وأرسلوها الى المدائن . وأراقوا دماء ما يقرب من مائة ألف من السكان المسيحيين . وأوشكت الامبراطورية الرومانية على الانهيار .
في هذه الفترة كان المسلمون في مكّةَ في أصعب أيامهم وأشدّ مِحنتهم ، وفي حالةٍ من الضعف والضَنْك لا يمكن تصوُّرها . وقد فرح المشركون بنصر الفُرس لأنهم وثنيون مثلهم ، وحزِن المسلمون باندحار الروم لأنهم أهلُ كتاب . وقال المشركون شامتين : لقد غلب إخوانُنا إخوانكم ، وكذلك سوف نقضي عليكم إذا لم تتركوا دينكم الجديد هذا .
{ ألم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } :
يقول المؤرخ البريطاني « جيبون » في كتابه « تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها » تعليقا على نبوءة القرآن هذه : « في ذلك الوقت حين تنبأ القرآن بهذا لم تكن آية نبوءة أبعدَ منها وقوعا ، لأن السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكومة هِرَقل كانت تؤذِن بانتهاء الإمبراطورية الرومانية » ، المجلد الخامس صفحة 74 .
« فلما سمع أبو بكر رضي الله عنه هذه الآيات خرج إلى المشركين فقال لهم : أفرِحتم بظهور إخوانكم الفرس ، فواللهِ لتظهرنَّ الرومُ على فارس كما أخبرنا بذلك نبيُّنا صلى الله عليه وسلم . فقام إليه أُبيّ بن خلف فقال له : كذبتَ . فقال أبو بكر : أنت كذبتَ يا عدو الله . اجعل بيننا أجَلاً أراهنك على عشر قلائص منّي وعشرٍ منك ، فإن ظهرت الرومُ على فارس ربحتُ أنا الرهان ، وإن ظهرت فارس ربحتَ أنت الرهان . ثم جاء إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام فأخبره ، فقال الرسول الكريم : زايدْه في الرِهان ومادَّه في الأجلِ .
فخرج أبو بكر ، فلقي أُبي بن خلف فقال له : لعلّك ندمتَ ؟ فقال : لا . فقال أبو بكر : تعالى أزايدْك في الرهان ، وأمادّك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت . وقد قتل أُبي في معركة أُحُد . ولما ظهرت الرومُ على الفرس واستعادوا بلادهم وصدقت نبوءة القرآن ، أخذ أبو بكر مائةَ ناقة من ورثةِ أُبيّ وتصدّق بها ، وهذا كان قبل تحريم الميسر »
وهكذا صدقت نبوءةُ القرآن الكريم عن غلبة الروم في أقلَّ من عشر سنين ، وفي هذا أكبرُ دليل على أن القرآن كتابُ الله ، وأن هذه النبوءة جاءت من لدن مهيمنٍ على كل الوسائل والأحوال ، ومَن بيده قلوبُ الناس وأقدارُهم .