ومن مجال الخلقة الأولى لنوع البشر ينتقل إلى مجال الحياة المشتركة بين جنسي البشر :
( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ، وجعل بينكم مودة ورحمة . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) . .
والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الأخر ، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين ؛ وتدفع خطاهم وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرأة . ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجا ، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر ، وجعلت في تلك الصلة سكنا للنفس والعصب ، وراحة للجسم والقلب ، واستقرارا للحياة والمعاش ، وأنسا للأرواح والضمائر ، واطمئنانا للرجل والمرأة على السواء .
والتعبير القرآني اللطيف الرفيق يصور هذه العلاقة تصويرا موحيا ، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس : ( لتسكنوا إليها ) . . ( وجعل بينكم مودة ورحمة ) . .
( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) . . فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين علي نحو يجعله موافقا للآخر . ملبيا لحاجته الفطرية : نفسية وعقلية وجسدية . بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار ؛ ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء ، والمودة والرحمة ، لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر ، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد . .
ومعنى : " خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها " أزواجا " أي نساء تسكنون إليها . " من أنفسكم " أي من نطف الرجال ومن جنسكم . وقيل : المراد حواء ، خلقها من ضلع آدم . قاله قتادة . " وجعل بينكم مودة ورحمة " قال ابن عباس ومجاهد : المودة الجماع ، والرحمة الولد . وقاله الحسن . وقيل : المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض . وقال السدي : المودة : المحبة ، والرحمة : الشفقة ، وروي معناه عن ابن عباس قال : المودة حب الرجل امرأته ، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء . ويقال : إن الرجل أصله من الأرض ، وفيه قوة الأرض ، وفيه الفرج الذي منه بدئ خلقه فيحتاج إلى سكن ، وخلقت المرأة سكنا للرجل . قال الله تعالى : " ومن آياته أن خلقكم من تراب " الآية . وقال : " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها " فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة ، وذلك أن الفرج إذا تحمل{[12460]} فيه هيج ماء الصلب إليه ، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج ، وللرجال خلق البضع منهن ، قال الله تعالى : " وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم " {[12461]} [ الشعراء : 166 ] فأعلم الله عز وجل الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال ، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج . فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم . ويكفيك من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها ) . وفي لفظ آخر : ( إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) .
قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } وهذا دليل كبير على عظيم صنع الله وبالغ قدرته وحكمته . وهو أنه { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي خلق لكم نساء من جنسكم ؛ فالنساء مخلوقات من نُطف الرجال . وقيل : المراد حواء زوجة آدم خلقها الله من ضلعه . والمراد : أن الإناث قد خلقهن الله من جنس الرجال ليسكن إليهن الرجال ؛ أي يميلوا إليهن ويستأنسوا بهن . وذلك من السكينة وهي الدعة والهدوء والوقار{[3601]} . وذلك أن الجنس الواحد لا يسكن لجنسه ولا يستأنس به كما يستأنس بالجنس الآخر . وهذه خصلة أساسية ومفطورة قد جُبل عليها البشر ؛ إذ يميل كل صنف إلى الصنف الآخر المخالف . الذكر يميل للأنثى وهي تميل للذكر .
قوله : { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } أي تعطف قلوب بعضهم على بعض فكل منهما يحب الآخر ويحنو عليه ويجنح إليه جنوحا فطريا . وذلك بعصمة الزواج الذي تنشأ عنه الختونة والصهرية والنسب . وبذلك تتسع دائرة التعارف والتواد والتراحم بين الناس فتعمهم الألفة والمودة والوئام .
قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يعني فيما تبين من عجيب قدرة الله على خلق الناس من تراب ليصيروا بشرا منتشرا ، ثم خلق الإناث من جنس الذكور لتشيع بينهم المودة والرحمة ووشائج الصهرية والقربى { لَآيَاتٍ } أ ي لدلائل عظيمة تكشف عن قدرة الله وعلى حقيقة البعث يوم القيامة { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يعني لأولي النباهة والفطانة من أولي العقول النيرة الذين يتدبرون ويتعظون{[3602]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.