سورة الصافات مكية وآياتها ثنتان وثمانون ومائة
هذه السورة المكية - كسابقتها - قصيرة الفواصل ، سريعة الإيقاع ، كثيرة المشاهد والمواقف ، متنوعة الصور والظلال ، عميقة المؤثرات ، وبعضها عنيف الوقع ، عنيف التأثير .
وهي تستهدف - كسائر السور المكية - بناء العقيدة في النفوس ، وتخليصها من شوائب الشرك في كل صوره وأشكاله . ولكنها - بصفة خاصة - تعالج صورة معينة من صور الشرك التي كانت سائدة في البيئة العربية الأولى . وتقف أمام هذه الصورة طويلاً ؛ وتكشف عن زيفها وبطلانها بوسائل شتى . . تلك هي الصورة التي كانتجاهلية العرب تستسيغها ، وهي تزعم أن هناك قرابة بين الله - سبحانه - وبين الجن . وتستطرد في تلك الأسطورة فتزعم أنه من التزاوج بين الله - تعالى - والجنة ولدت الملائكة . ثم تزعم أن الملائكة إناث ، وأنهن بنات الله !
هذه الأسطورة تتعرض لحملة قوية في هذه السورة ؛ تكشف عن تهافتها وسخفها . ونظراً لأنها هي الموضوع البارز الذي تعالجه السورة ، فإنها تبدأ بالإشارة إلى طوائف من الملائكة : ( والصافات صفاً . فالزاجرات زجراً . فالتاليات ذكراً ) . . ويتلوها حديث عن الشياطين المردة ، وتعرضهم للرجم بالشهب الثاقبة كي لا يقربوا من الملأ الأعلى . ولا يتسمعوا لما يدور فيه ؛ ولو كانوا حيث تزعم لهم أساطير الجاهلية ما طوردوا هذه المطاردة ! كذلك يشبه ثمار شجرة الزقوم التي يعذب بها الظالمون في جهنم بأنها كرؤوس الشياطين في معرض التقبيح والتفظيع ! وفي نهاية السورة تأتي الحملة المباشرة على تلك الأسطورة المتهافتة : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ? أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ? ألا إنهم من إفكهم ليقولون : ولد الله وإنهم لكاذبون . أصطفى البنات على البنين ? ما لكم كيف تحكمون ? أفلا تذكرون ? أم لكم سلطان مبين ? فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين . وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون . . سبحان الله عما يصفون ! . .
وإلى جانب علاج هذه الصورة الخاصة من صور الشرك الجاهلية تتناول السورة جوانب العقيدة الأخرى التي تتناولها السور المكية . فتثبت فكرة التوحيد مستدلة بالكون المشهود : ( إن إلهكم لواحد رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ) . . وتنص على أن الشرك هو السبب في عذاب المعذبين في ثنايا مشهد من مشاهد القيامة ( فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون . إنا كذلك نفعل بالمجرمين . إنهم كانوا إذا قيل لهم : لا إله إلا الله يستكبرون ؛ ويقولون : أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ? بل جاء بالحق وصدق المرسلين . إنكم لذائقوا العذاب الأليم . وما تجزون إلا ما كنتم تعملون . .
كذلك تتناول قضية البعث والحساب والجزاء . ( وقالوا : إن هذا إلا سحر مبين أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون ? قل نعم وأنتم داخرون ) . . ثم تعرض بهذه المناسبة مشهداً مطولاً فريداً من مشاهد القيامة الحافلة بالمناظر والحركات والانفعالات والمفاجآت !
وتعرض لقضية الوحي والرسالة الذي ورد من قول 1 ( أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ? والرد عليهم : ( بل جاء بالحق وصدق المرسلين ) . .
وبمناسبة ضلالهم وتكذيبهم تعرض سلسلة من قصص الرسل : نوح وإبراهيم وبنيه . وموسى وهارون . وإلياس . ولوط . ويونس . تتكشف فيها رحمة الله ونصره لرسله وأخذه للمكذبين بالعذاب والتنكيل : ( ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين . ولقد أرسلنا فيهم منذرين . فانظر كيف كان عاقبة المنذرين . إلا عباد الله المخلصين ) . .
وتبرز في هذا القصص قصة إبراهيم خاصة مع ابنه إسماعيل . قصة الذبح والفداء وتبرز فيها الطاعة والاستسلام لله في أروع صورها وأعمقها وأرفعها ؛ وتبلغ الذروة التي لا يبلغها إلا الإيمان الخالص الذي يرفع النفوس إلى ذلك الأفق السامق الوضيء .
والمؤثرات الموحية التي تصاحب عرض موضوعات السور وقضاياها ، تتمثل بشكل واضح في :
مشهد السماء وكواكبها وشهبها ورجومها : ( إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب . وحفظاً من كل شيطان مارد . لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحوراً ولهم عذاب واصب . إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) . .
وفي مشاهد القيامة ومواقفها المثيرة ، ومفاجآتها الفريدة ، وانفعالاتها القوية . والمشاهد التي تحويها هذه السورةذات طابع فريد حقاً سنلمسه عند استعراضه تفصيلاً في مكانه من السورة .
وفي القصص ومواقفه وإيحاءاته . وبخاصة في قصة إبراهيم وولده الذبيح إسماعيل - عليهما السلام ، وترتفع المؤثرات الموحية هنا إلى الذروة التي تهز القلوب هزاً عميقاً عنيفاً .
ذلك إلى الإيقاع الموسيقي في السورة وهو ذو طابع مميز يتفق مع صورها وظلالها ومشاهدها ومواقفها وإيحاءاتها المتلاحقة العميقة .
ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط رئيسية :
الشوط الأول يتضمن افتتاح السورة بالقسم بتلك الطوائف من الملائكة : ( والصافات صفا . فالزاجرات زجراً . فالتاليات ذكراً )على وحدانية الله رب المشارق ، مزين السماء بالكواكب . ثم تجيء مسألة الشياطين وتسمعهم للملأ الأعلى ورجمهم بالشهب الثاقبة . يتلوها سؤال لهم : أهم أشد خلقاً أم تلك الخلائق : الملائكة والسماء والكواكب والشياطين والشهب ? للتوصل من هذا إلى تسفيه ما كانوا يقولونه عن البعث ، وإثبات ما كانوا يستبعدونه ويستهزئون بوقوعه . ومن ثم يعرض ذلك المشهد المطول للبعث والحساب والنعيم والعذاب . وهو مشهد فريد . .
والشوط الثاني يبدأ بأن هؤلاء الضالين لهم نظائر في السابقين ، الذين جاءتهم النذر فكان أكثرهم من الضالين . ويستطرد في قصص أولئك المنذرين من قوم نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس ؛ وكيف كانت عاقبة المنذرين وعاقبة المؤمنين .
والشوط الثالث يتحدث عن تلك الأسطورة التي مر ذكرها . إسطورة الجن والملائكة . ويقرر كذلك وعد الله لرسله بالظفر والغلبة : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) . . وينتهي بختام السورة بتنزيه الله سبحانه والتسليم على رسله والاعتراف بربوبيته : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون . وسلام على المرسلين . والحمد لله رب العالمين ) . . وهي القضايا التي تتناولها السورة في الصميم . .
( والصافات صفاً ، فالزاجرات زجراً ، فالتاليات ذكراً ، إن إلهكم لواحد . رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ) . .
والصافات والزاجرات والتاليات . . . طوائف من الملائكة ذكرها هنا بأعمالها التي يعلمها . والتي يجوز أن تكون هي الصافات قوائمها في الصلاة ، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله .
قوله تعالى : " والصافات صفا ، فالزاجرات زجرا ، فالتاليات ذكرا " هذه قراءة أكثر القراء . وقرأ حمزة بالإدغام فيهن . وهذه القراءة التي نفر منها أحمد بن حنبل لما سمعها . النحاس : وهي بعيدة في العربية من ثلاث جهات : إحداهن أن التاء ليست من مخرج الصاد ، ولا من مخرج الزاي ، ولا من مخرج الذال ، ولا من أخواتهن ، وإنما أختاها الطاء والدال ، وأخت الزاي الصاد والسين ، وأخت الذال الظاء والثاء . والجهة الثانية أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى . والجهة الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين ، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة ، نحو دابة وشابة . ومجاز قراءة حمزة أن التاء قريبة المخرج من هذه الحروف . " والصافات " قسم ؛ الواو بدل من الباء . والمعنى برب الصافات و " الزاجرات " عطف عليه . " إن إلهكم لواحد " جواب القسم . وأجاز الكسائي فتح إن في القسم . والمراد ب " الصافات " وما بعدها إلى قوله : " فالتاليات ذكرا " الملائكة في قول ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة . تصف في السماء كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة . وقيل : تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد . وهذا كما تقوم العبيد بين أيدي ملوكهم صفوفا . وقال الحسن : " صفا " لصفوفهم عند ربهم في صلاتهم . وقيل : هي الطير ، دليله قوله تعالى : " أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات " [ الملك : 19 ] . والصف ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة . " والصافات " جمع الجمع ، يقال : جماعة صافة ثم يجمع صافات . وقيل : الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفا في الصلاة أو في الجهاد ، ذكره القشيري .
قال تعالى : { والصافات } أي الجماعات من الملائكة والمصلين والمجاهدين المكملين أنفسهم بالاصطفاف في الطاعة ، فهو صفة لموصوف محذوف مؤنث اللفظ ، وعدل عن أن يقول : " الصافين " القاصر على الذكور العقلاء ليشمل الجماعات من الملائكة والجن والإنس والطير والوحش وغيرها ، إشارة إلى أنه لا يؤلف بين شيء منها ليتحد قصده إلا واحد قهار ، وأنه ما اتحد قصد شيء منها إلا استوى صفة ، ولا اعتدل صفة إلا اتحد زجره وهو صياحه ، ولا اتحد زجره إلا اتحد ما يذكره بصوته ، ولا اتحد منه ذلك إلا نجح قصده واتضح رشده بدليل المشاهدة ، وأدلها أن الصحابة رضي الله عنهم لما اتحد قصدهم في إعلاء الدين وهم أضعف الأمم وأقلها عدداً لم يقم لهم جمع من الناس الذين لا نسبة لهم إليهم في قوة ولا كثرة ، ولم ينقص صفهم ، وجرح القلوب وأبارها زجرهم ، وشرح الصدور وأنارها ذكرهم ، كما أشار إليه تعالى آخر هذه السورة بقوله { وإن جندنا لهم الغالبون } وكذا غير الآدميين من الحيوانات كما يرى من الفار والجراد إذا أراد الله تعالى اتحاد قصده في شيء فإنه يغلب فيه من يغالبه ، ويقهر من يقاويه أو يقالبه ، فبان أن الخير كله في الوحدة وأنه لا صلاح بدونها ، فبان أن الإله لا يكون متكبرا بوجه من الوجوه فصح ما أريد بالقسم ، واتحد جداً بالمقسم عليه والتأم والتحم به أيّ التحام ، وانتظم معناهما كل الانتظام .
ولما كان التأكيد بالمصدر أدل على الوحدة المرادة قال : { صفاً * } وهو ترتيب الجمع على خط .