سورة الضحى مكية وآياتها إحدى عشرة
هذه السورة بموضوعها ، وتعبيرها ، ومشاهدها ، وظلالها وإيقاعها ، لمسة من حنان . ونسمة من رحمة ، وطائف من ود . ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع ، وتنسم بالروح والرضى والأمل . وتسكب البرد والطمأنينة واليقين .
إنها كلها خالصة للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] كلها نجاء له من ربه ، وتسرية وتسلية وترويح وتطمين . كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود ، وألطاف من القربى ، وهدهدة للروح المتعب ، والخاطر المقلق ، والقلب الموجوع .
ورد في روايات كثيرة أن الوحي فتر عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأبطأ عليه جبريل - عليه السلام - فقال المشركون : ودع محمدا ربه ! فأنزل الله تعالى هذه السورة . .
والوحي ولقاء جبريل والاتصال بالله ، كانت هي زاد الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في مشقة الطريق . وسقياه في هجير الجحود . وروحه في لأواء التكذيب . وكان [ صلى الله عليه وسلم ] يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصية العنيدة . ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة ، وعلى الإيمان ، وعلى الهدى من طغاة المشركين .
فلما فتر الوحي انقطع عنه الزاد ، وانحبس عنه الينبوع ، واستوحش قلبه من الحبيب . وبقي للهاجرة وحده . بلا زاد . وبلا ري . وبغير ما اعتاد من رائحة الحبيب الودود . وهو أمر أشد من الاحتمال من جميع الوجوه . .
عندئذ نزلت هذه السورة . نزل هذا الفيض من الود والحب والرحمة والإيناس والقربى والأمل والرضى والطمأنينة واليقين .
( ما ودعك ربك وما قلى . وللآخرة خير لك من الأولى . ولسوف يعطيك ربك فترضى ) . .
وما تركك ربك من قبل أبدا ، وما قلاك من قبل قط ، وما أخلاك من رحمته ورعايته وإيوائه . .
( ألم يجدك يتيما فآوى ? ووجدك ضالا فهدى ? ووجدك عائلا فأغنى ? ) . .
ألا تجد مصداق هذا في حياتك ? ألا تحس مس هذا في قلبك ? ألا ترى أثر هذا في واقعك ?
لا . لا . . ( ما ودعك ربك وما قلى ) . . وما انقطع عنك بره وما ينقطع أبدا . . ( وللآخرة خير لك من الأولى ) . . وهناك ما هو أكثر وأوفى : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) !
ومع هذه الأنسام اللطيفة من حقيقة الأمر وروحه . . الأنسام اللطيفة في العبارة والإيقاع . . وفي الإطار الكوني الذي وضعت فيه هذه الحقيقة :
( والضحى . والليل إذا سجى ) . .
" لقد أطلق التعبير جوا من الحنان اللطيف ، والرحمة الوديعة ، والرضى الشامل ، والشجى الشفيف :
( ما ودعك ربك وما قلى . وللآخرة خير لك من الأولى . ولسوف يعطيك ربك فترضى ) . . ( ألم يجدك يتيما فآوى ? ووجدك ضالا فهدى ? ووجدك عائلا فأغنى ? ) . . ذلك الحنان . وتلك الرحمة . وذاك الرضى . وهذا الشجى : تنسرب كلها من خلال النظم اللطيف العبارة ، الرقيق اللفظ ، ومن هذه الموسيقى السارية في التعبير . الموسيقى الرتيبة الحركات ، الوئيدة الخطوات ، الرقيقة الأصداء ، الشجية الإيقاع . . فلما أراد إطارا لهذا الحنان اللطيف ، ولهذه الرحمة الوديعة ، ولهذا الرضى الشامل ، ولهذا الشجي الشفيف ، جعل الإطار من الضحى الرائق ، ومن الليل الساجي . أصفى آنين من آونة الليل والنهار . وأشف آنين تسري فيهما التأملات . وتتصل الروح بالوجود وخالق الوجود . وتحس بعبادة الكون كله لمبدعه ، وتوجهه لبارئه بالتسبيح والفرح والصفاء . وصورهما في اللفظ المناسب . فالليل هو ( الليل إذا سجى ) ، لا الليل على إطلاقه بوحشته وظلامه . الليل الساجي الذي يرق ويسكن ويصفو ، وتغشاه سحابة رقيقة من الشجى الشفيف ، والتأمل الوديع . كجو اليتم والعيلة . ثم ينكشف ويجلي مع الضحى الرائق الصافي . . فتلتئم ألوان الصورة مع ألوان الإطار . ويتم التناسق والإتساق " .
إن هذا الإبداع في كمال الجمال ليدل على الصنعة . صنعة الله التي لا تماثلها صنعة ، ولا يتلبس بها تقليد !
( والضحى . والليل إذا سجى . ما ودعك ربك . وما قلى . وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ) . .
يقسم الله سبحانه - بهذين الآنين الرائقين الموحيين . فيربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس . ويوحي إلى القلب البشري بالحياة الشاعرة المتجاوبة مع هذا الوجود الجميل الحي ، المتعاطف مع كل حي . فيعيش ذلك القلب في أنس من هذا الوجود ، غير موحش ولا غريب فيه فريد . . وفي هذه السورة بالذات يكون لهذا الأنس وقعه . فظل الأنس هو المراد مده . وكأنما يوحي الله لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] منذ مطلع السورة ، أن ربه أفاض من حوله الأنس في هذا الوجود ، وأنه من ثم غير مجفو فيه ولا فريد !
{ 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }
أقسم تعالى بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى .
وبالليل إذا سجى وادلهمت ظلمته ، على اعتناء الله برسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ }
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا الأسود بن قيس ، قال : سمعت جندب بن سفيان قال : " اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأة فقالت : يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ، فأنزل الله عز وجل : { والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } " . وقيل : إن المرأة التي قالت ذلك أم جميل امرأة أبي لهب . وقال المفسرون " سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح ؟ فقال : سأخبركم غداً ، ولم يقل : إن شاء الله ، فاحتبس عنه الوحي " . وقال زيد بن أسلم : كان سبب احتباس جبريل عليه السلام عنه كان جروا في بيته ، فلما نزل عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبطائه ، فقال : إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة . واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه ، فقال ابن جريج : اثنا عشر يوماً . وقال ابن عباس : خمسة عشرة يوماً . وقال مقاتل : أربعون يوماً . قالوا : فقال المشركون : إن محمداً ودعه ربه وقلاه ، فأنزل الله تعالى هذه السورة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك ، فقال جبريل : إني كنت أشد شوقاً ولكني عبد مأمور ، فأنزل : { وما نتنزل إلا بأمر ربك }( مريم- 64 ) .
قوله عز وجل :{ والضحى } أقسم بالضحى وأراد به النهار كله ، بدليل أنه قابله بالليل إذا سجى ، نظيره : قوله : { أن يأتيهم بأسنا ضحىً }( الأعراف- 98 ) ، يعني نهاراً . وقال قتادة ومقاتل : يعني وقت الضحى ، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس ، واعتدال النهار في الحر والبرد والصيف والشتاء .
قوله تعالى : " والضحى{[16129]} . والليل إذا سجى " قد تقدم القول في " الضحى " ، والمراد به النهار ؛ لقوله : " والليل إذا سجى " فقابله بالليل . وفي سورة ( الأعراف ) " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون . أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون{[16130]} " [ الأعراف : 97 ] أي نهارا . وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق : أقسم بالضحى الذي كلم اللّه فيه موسى ، وبليلة المعراج . وقيل : هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا . بيانه قوله تعالى : " وأن يحشر الناس ضحى{[16131]} " [ طه : 59 ] . وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله : فيه إضمار ، مجازه ورب الضحى . و " سجا " معناه : سكن . قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة . يقال : ليلة ساجية أي ساكنة . ويقال للعين إذا سكن طرفها : ساجية . يقال : سجا الليل يسجو سجوا{[16132]} : إذا سكن . والبحر إذا سجا : سكن . قال الأعشى :
فما ذنبنا{[16133]} أن جاش بحرُ ابن عمكم *** وبحرك ساجٍ ما يواري الدعامِصا
يا حَبَّذَا القمراءُ والليل الساجْ *** وطُرُق مثلُ مِلاءِ النساجْ
ولقد رمينَك يوم رُحْنَ بأعينٍ *** ينظرن من خِلَل الستور سواجي
وقال الضحاك : " سجا " غطى كل شيء . قال الأصمعي : سجو الليل : تغطيته النهار ، مثلما يسجى الرجل بالثوب . وقال الحسن : غشى بظلامه . وقاله ابن عباس . وعنه : إذا ذهب . وعنه أيضا : إذا أظلم . وقال سعيد بن جبير : أقبل ، وروي عن قتادة أيضا . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : " سجا " استوى . والقول الأول أشهر في اللغة : " سجا " سكن ، أي سكن الناس فيه . كما يقال : نهار صائم ، وليل قائم . وقيل : سكونه استقرار ظلامه واستواؤه . ويقال : " والضحى . والليل إذا سجا " : يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى ، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم . ويقال : " الضحى " : يعني نور الجنة إذا تنور . " والليل إذا سجا " : يعني ظلمة الليل إذا أظلم . ويقال : " والضحى " : يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار . " والليل إذا سجا " : يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل ، فأقسم اللّه عز وجل بهذه الأشياء .
لما حكم في آخر الليل بإسعاد الأتقياء ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق مطلقاً ، وكان قد قطع عنه الوحي حيناً ابتلاء لمن شاء من عباده ، وكان به صلى الله عليه وسلم صلاح الدين والدنيا والآخرة ، وكان الملوان سبب صلاح معاش الخلق وكثير من معادهم ، أقسم سبحانه وتعالى بهما على أنه أسعد الخلائق دنيا وأخرى ، فقال مقدماً ما يناسب حال الأتقى الذي قصد به أبو بكر رضي الله عنه قصداً أولياً من النور الذي يملأ الأقطار ، ويمحو كل ظلام يرد عليه ويصل إليه ، مفهماً بما ذكر من وقت الضياء الناصع حالة أول النهار وآخر الليل التي هي ظلمة ملتف بساقها ساق النهار عند الإسفار : { والضحى * } فذكر ما هو أشرف النهار وألطفه وهو زهرته ، وأضوأه وهو صدره ، وذلك وقت ارتفاع الشمس لأن المقسم لأجله أشرف الخلائق ، وذلك يدل على أنه يبلغ من الشرف ما لا يبلغه أحد من الخلق .