ولارتباط تحقق وعد الله بالنصر بالحق الأكبر الذي يقوم عليه هذا الوجود ، وارتباط أمر الآخرة كذلك بهذا الحق استطرد يجول بهم جولة أخرى في ضمير هذا الكون . في السماوات والأرض وما بينهما ؛ ويردهم إلى أنفسهم ينظرون في أعماقها ويتدبرون ، علهم يدركون ذلك الحق الكبير ، الذي يغفلون عنه حين يغفلون عن الآخرة ؛ ويغفلون عن الدعوة التي تقودهم إلى رؤية ذلك الحق وتدبره :
أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى . و إن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون .
فطبيعة تكوينهم هم أنفسهم ، وطبيعة هذا الكون كله من حولهم توحي بأن هذا الوجود قائم على الحق ، ثابت على الناموس ، لا يضطرب ، ولا تتفرق به السبل ، ولا تتخلف دورته ، ولا يصطدم بعضه ببعض ، ولا يسير وفق المصادفة العمياء ، ولا وفق الهوى المتقلب ، إنما يمضي في نظامه الدقيق المحكم المقدر تقديرا . وأن من مقتضيات هذا الحق الذي يقوم عليه الوجود أن تكون هناك آخرة ، يتم فيها الجزاء على العمل ، ويلقى الخير والشر عاقبتهما كاملة . إنما كل شيء إلى أجله المرسوم . وفق الحكمة المدبرة ؛ وكل أمر يجيء في موعده لا يستقدم لحظة ولا يستأخر . وإذا لم يعلم البشر متى تكون الساعة ، فإن هذا ليس معناه أنها لا تكون ! ولكن تأجيلها يغري الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ويخدعهم : ( وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ) . .
{ 8 - 10 } { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } أي : أفلم يتفكر هؤلاء المكذبون لرسل اللّه ولقائه { فِي أَنْفُسِهِمْ } فإن في أنفسهم آيات يعرفون{[7]} بها أن الذي أوجدهم من العدم سيعيدهم بعد ذلك وأن الذي نقلهم أطوارا من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى آدمي قد نفخ فيه الروح إلى طفل إلى شاب إلى شيخ إلى هرم ، غير لائق أن يتركهم سدى مهملين لا ينهون ولا يؤمرون ولا يثابون ولا يعاقبون . { مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } [ أي ] ليبلوكم أيكم أحسن عملا . { وَأَجَلٌ مُسَمًّى } أي : مؤقت بقاؤهما إلى أجل تنقضي به الدنيا وتجيء به القيامة وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات .
{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } فلذلك لم يستعدوا للقائه ولم يصدقوا رسله التي أخبرت به وهذا الكفر عن غير دليل ، بل الأدلة القاطعة قد دلت على البعث والجزاء .
ولما كان التقدير : أفلم يتدبروا القرآن وما كشف لهم عنه من الحكم والأمور التي وعد الله بها على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيه أو في السنة ، فكانت على حسب ما وعد ، أو لم يتأملوا مصنوعات الله عموماً فتدلهم عقولهم منها على أنه لا يصلح للإلهية إلا من كان حكيماً ، ولا يكون حكيماً إلا من صدق في وعده ، و أنه لا تتم الحكمة إلا بإيجاد الآخرة ، عطف عليه قوله منكراً عليهم موبخاً{[52665]} لهم : { أولم يتفكروا } أي يجتهدوا في إعمال الفكر ، ثم ذكر آلة الفكر زيادة في تصوير حال المتفكرين والتذكير بهيئة المعتبرين فقال : { في أنفسهم } ويجوز أن تكون هي المتفكر فيه فيكون المعنى : يتفكروا في أحوالها خصوصاً فيعلموا أن من كان منهم قادراً كاملاً لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص ، فكيف بالإله الحق ، ويعلموا أن{[52666]} الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم{[52667]} في أطوار الصور ، وفاوت بينهم في القوى والقدر ، وبين آجالهم في الطول والقصر ، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر ، وأمات أكثرهم مظلوماً قبل القصاص والظفر ، لا بد في حكمته البالغة من جمعهم للعدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر ، أو شكر أو{[52668]} كفر ، ثم ذكر نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم ، وعلى التقدير الأول يكون هذا هو المتفكر فيه { ما خلق الله } أي بعز جلاله{[52669]} ، وعلوه في كماله { السماوات والأرض } على ما هما عليه من النظام المحكم ، والقانون المتقن ، وأفرد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعددها بخلاف السماء { وما بينهما } من المعاني التي بها كمال منافعهما { إلا } خلقاً متلبساً { بالحق } أي{[52670]} الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأه الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح{[52671]} منها للتصوير من الفاسد يطابق ذلك ، وإذا تدبر{[52672]} النبات بعد أن كان هشيماً {[52673]}قد نزل{[52674]} عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً للأمر البعث ، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار ، وسير الكواكب الصغار والكبار ، وإمطار الأمطار ، وإجراء الأنهار ، ونحو ذلك من الأسرار ، رآه{[52675]} مطابقاً لكل ما يخطر في باله من الأقدار ، وإذا خطر له العلم ، فتبصر في جري هذه الأمور وغيرها على منهاج مستقيم ، ونظام واضح قويم ، وسير متقن{[52676]} حكيم ، علم أن ذلك في غاية المطابقة للخبر بالعلم الشامل والقدرة التامة على البعث وغيره{[52677]} ، أو إلا بالأمر الثابت والقضاء النافذ الذي لا يتخلف عنه المراد ، ولا يستعصي عليه حيوان ولا جماد ، و{[52678]} خلقكم من هذا الخلق الكبير الذي قام بأمره من بعض ترابه .
ثم جعلكم من سلالة من ماء مهين ، فالقدرة التي{[52679]} خلق بها ذلك كله وابتدأكم{[52680]} ثم يبيدكم ، بها بعينها يحييكم ويعيدكم ، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ، أو إلا بسبب إحقاق{[52681]} الحق وإبطال الباطل ، فلا بد من تصديق وعده بإدالة الروم لأخذ حقهم من الفرس ، ولا بد من{[52682]} أن يقيمكم بعد أن ينيمكم{[52683]} ويثبت كل حق رأيتموه قد أبطل ، ويبطل كل باطل رأيتموه قد أعمل ، لأنه أحكم الحاكمين ، فلو أقر على إماتة حق أو إحياء باطل لما كان كذلك .
ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد ، قال : { وأجل } لا بد أن ينتهي إليه { مسمى } أي في العلم من الأزل ، وذلك الأجل هو وقت قيام الساعة ، وذلك أنه كما جعل لهم آجالاً لأصلهم وفرعهم لم يشذ عنها أحد منهم{[52684]} فكذلك لا بد من أجل مسمى لما خلقوا منه ، فإذا جاء ذلك الأجل انحل هذا النظام ، واختل هذا الإحكام{[52685]} ، وزالت هذه الأحكام ، {[52686]}فتساقطت هذه الأجرام ، وصارت إلى ما كانت عليه من الإعدام ، وإلا كان الخلق عبثاً يتعالى عنه الملك العلام{[52687]} .
ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر ، أكد قوله : { وإن كثيراً من الناس } مع ذلك على وضوحه { بلقاء ربهم } الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب { لكافرون } أي لساترون ما في عقولهم من دلائل وحدانيته وحجج قدرته وحكمته ستراً عظيماً ، كأنه غريزة لهم ، فهم لذلك يكذبون بما وعدكم سبحانه من إدالة الروم على فارس ، فلا يهولنكم ذلك لأنهم قد كذبوا بما هو أكبر منه ، وهو الآخرة على ما لها من الدلائل التي تفوت الحصر ، وإذا راجعت{[52688]} ما تقدم في آية الأنعام
{ و{[52689]} هو الذي خلقكم من طين }[ آية : 2 ] ازددت في هذا بصيرة .