في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60)

56

والتوجه إلى الله بالعبادة ، ودعاؤه والتضرع إليه ، مما يشفي الصدور من الكبر الذي تنتفخ به ، فيدعوها إلى الجدال في آيات الله بغير حجة ولا برهان . والله - سبحانه - يفتح لنا أبوابه لنتوجه إليه وندعوه ، ويعلن لنا ما كتبه على نفسه من الاستجابة لمن يدعوه ؛ وينذر الذين يستكبرون عن عبادته بما ينتظرهم من ذل وتنكيس في النار :

( وقال ربكم : ادعوني أستجب لكم . إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) . .

وللدعاء أدب لا بد أن يراعى . إنه إخلاص القلب لله . والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها ، أو تخصيص وقت أو ظرف ، فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال . والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله ، والاستجابة فضل آخر . وقد كان عمر - رضي الله عنه - يقول : " أنا لا أحمل همّ الإجابة إنما أحمل همّ الدعاء . فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه " وهي كلمة القلب العارف ، الذي يدرك أن الله حين يقدر الاستجابة يقدر معها الدعاء . فهما - حين يوفق الله - متوافقان متطابقان .

فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم ! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة ، وفي هذه الحياة الرخيصة ، وتنسى ضخامة خلق الله . فضلاً على نسيانها عظمة الله . ونسيانها للآخرة وهي آتية لا ريب فيها . ونسيانها للموقف الذليل في الآخرة بعد النفخة والاستكبار .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60)

المفردات :

داخرين : صاغرين أذلاء .

التفسير :

60- { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } .

فتح الله بابه للداعين ، وفتح رحمته للمسترحمين ، وحث عباده على الالتجاء إليه ، وذلك بعد التوبة النصوح ، وأكل الحلال والبعد عن الحرام ، ونظافة القلب ، وخشوع الإنسان وتذلله لخالقه ، والصدق في الدعاء ، عندئذ يقبل الله عبادة العابد ، ودعاء الداعي ، ويطلق الدعاء على العبادة ، وفي الحديث : " الدعاء مع العبادة "

والعبادة توجه إلى الله في إخلاص ومحبة وتوقير ، والدعاء اعتراف لله بان بيده الخلق والأمر ، والنفع والضرّ .

ويمكن أن نفسر الدعاء بواحد من اثنين :

1- الدعاء بمعنى سؤال الله .

2- العبادة كالصلاة والصيام .

أي : اتجهوا إليّ بالدعاء فإني أستجيب لكم ، أو اعبدوني حق العبادة أحقق لكم سعادة الدنيا ، والفوز بالجنة في الآخرة .

{ إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } .

إن الذين يتكبرون عن عبادة الله ، ويستعلون عن الخضوع لأوامره ، ويتّبعون أهواءهم ولا يخضعون لأمر ربهم ، هؤلاء الذين تكبروا على عبادة الله ، ولم يتجهوا إلى دعاء الله والتضرع إليه ، سيدخلون النار أذلاء صاغرين ، فالعزّ الحقيقي في طاعة الله والخضوع لأمره ، وإتباع ما أمر به والبعد عما نهى عنه .

قال المفسرون :

ولا تنافي بين تفسير الدعاء هنا بالسؤال والتضرع إلى الله تعالى ، وبين تفسيره بالعبادة ، لأن الدعاء هو لون من ألوان العبادة ، بل هو مخّها ، أي أهم شيء فيها ، حيث يشتمل الدعاء على التوجه إلى الله واليقين بقدرته .

قال تعالى : { ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له . . . } ( الأنبياء : 76 ) .

كما أجاب الله دعاء زكريا وأيوب وداود وسليمان ويونس وامرأة عمران ، وغيرهم من الصالحين والصالحات .

وقد أورد القرطبي وابن كثير وغيرهما طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة في هذا المقام ، ومن ذلك ما ورد في تفسير القرطبي :

حكى قتادة أن كعب الأحبار قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تعطهن أمة قبلها إلاّ نبي : كان إذا أرسل نبي قيل له : أنت شاهد على أمتك ، وقال تعالى لهذه الأمة : { لتكونوا شهداء على الناس . . . } ( البقرة : 143 ) .

وكان يقال للنبي : ليس عليك في الدين من حرج ، وقال الله لهذه الأمة : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ( الحج : 78 ) .

وكان يقال للنبي : ادعني أستجيب لك ، وقال لهذه الأمة : { ادعوني أستجب لكم . . . } .

قال القرطبي :

ومثل هذا لا يقال من جهة الرأي وقد جاء مرفوعا ، رواه ليث ، عن شهر بن حوشب ، عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أعطيت أمتي ثلاثا لم تُعط إلا للأنبياء : كان الله تعالى إذا بعث النبي قال : ادعني أستجب لك ، وقال لهذه الأمة : { ادعوني أستجب لكم . . . } وكان الله إذا بعث النبي قال : ما جعل عليك في الدين من حرج . وقال لهذه الأمة : { وما جعل عليكم في الدين من حرج . . . } وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه ، وجعل هذه الأمة شهداء على الناس " .

ذكره الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) {[625]} .


[625]:تفسير القرطبي مجلد 7 ص 5944، طبعة دار الغد العربي، القاهرة.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60)

قوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } أي : اعبدوني دون غيري أجبكم وأثبكم وأغفر لكم ، فلما عبر عن العبادة بالدعاء جعل الإنابة استجابةً .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان عن منصور عن أبي ذر عن يسبع الكندي عن النعمان ابن بشير قال : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ { ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن علي الزرقي ، حدثنا الحسن بن علي بن يوسف الشيرازي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى القرشي ببغداد ، حدثنا محمد ابن عبيد بن العلاء ، حدثنا أحمد بن بديل ، حدثنا وكيع ، حدثنا أبو المليح قال : سمعت أبا صالح يذكر عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع الله غضب الله عليه " وقيل : الدعاء هو الذكر والسؤال { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } قرأ ابن كثير و أبو جعفر و أبو بكر : سيدخلون بضم الياء وفتح الخاء ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء ، ومعنى داخرين صاغرين ذليلين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَقالَ رَبّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِيبْ لَكُمْ" يقول تعالى ذكره: ويقول ربكم أيها الناس لكم "ادعوني": يقول: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دون الأوثان والأصنام وغير ذلك "أسْتَجِبْ لَكُمْ "يقول: أُجِبْ دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم...

حدثنا عمرو بن عليّ، قال: حدثنا عبد الله بن داود، عن الأعمش، عن زرّ، عن يُسَيْع الحضرمي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدّعاءُ هُوَ العِبادَةُ». وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَقَالَ رَبّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي"...

وقوله: "إنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبادَتِي" يقول: إن الذين يتعظمون عن إفرادي بالعبادة، وإفراد الألوهة لي "سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ داخِرِينَ" بمعنى: صاغرين...

وقد قيل: إن معنى قوله: "إنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبادَتِي": إن الذين يستكبرون عن دعائي.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

الاستجابة: الإثابة؛ وفي تفسير مجاهد: اعبدوني أثبكم. وعن الحسن -وقد سئل عنها -: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما بين أن القوم بالقيامة حق وصدق، وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى، لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات، ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع، لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}.

عندي فيه وجه آخر وهو أنه قال: {ادعوني استجب لكم} فكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأقاربه وأصدقائه وجده واجتهاده، فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان أما بالقلب فإنه معول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله، فهذا الإنسان ما دعا ربه في وقت أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله، فالظاهر أنه تحصل الاستجابة، إذا عرفت هذا ففيه بشارة كاملة، وهي أن انقطاع القلب بالكلية عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت، فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى، فعلى القانون الذي ذكرناه وجب أن يكون الدعاء في ذلك الوقت مقبولا عند الله، ونرجو من فضل الله وإحسانه أن يوفقنا للدعاء المقرون بالإخلاص والتضرع في ذلك الوقت.

{إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وهذا إحسان عظيم من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء، فإن قيل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حكاية عن رب العزة أنه قال: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» فهذا الخبر يقتضي أن ترك الدعاء أفضل، هذه الآية تدل على أن ترك الدعاء يوجب الوعيد الشديد فكيف الجمع بينهما؟ قلنا لا شك أن العقل إذا كان مستغرقا في الثناء كان ذلك أفضل من الدعاء، لأن الدعاء طلب للحظ والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من طلب الحظ، أما إذا لم يحصل ذلك الاستغراق كان الاشتغال بالدعاء أولى، لأن الدعاء يشتمل على معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية.

الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} آيةُ تَفَضُّلٍ ونِعْمَةٍ وَوَعْدٍ لأمَّةِ محمَّدِ صلى الله عليه وسلم بالإجابَةِ عنْدَ الدُّعَاءِ.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

التوجه إلى الله بالعبادة، ودعاؤه والتضرع إليه، مما يشفي الصدور من الكبر الذي تنتفخ به، فيدعوها إلى الجدال في آيات الله بغير حجة ولا برهان. والله -سبحانه- يفتح لنا أبوابه لنتوجه إليه وندعوه، ويعلن لنا ما كتبه على نفسه من الاستجابة لمن يدعوه؛ وينذر الذين يستكبرون عن عبادته بما ينتظرهم من ذل وتنكيس في النار: (وقال ربكم: ادعوني أستجب لكم. إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين).. وللدعاء أدب لا بد أن يراعى. إنه إخلاص القلب لله. والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها، أو تخصيص وقت أو ظرف، فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال. والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله، والاستجابة فضل آخر. وقد كان عمر -رضي الله عنه- يقول:"أنا لا أحمل همّ الإجابة إنما أحمل همّ الدعاء. فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه" وهي كلمة القلب العارف، الذي يدرك أن الله حين يقدر الاستجابة يقدر معها الدعاء. فهما -حين يوفق الله- متوافقان متطابقان. فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة، وفي هذه الحياة الرخيصة، وتنسى ضخامة خلق الله. فضلاً على نسيانها عظمة الله. ونسيانها للآخرة وهي آتية لا ريب فيها. ونسيانها للموقف الذليل في الآخرة بعد النفخة والاستكبار...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لما كانت المجادلة في آيات الله تشمل مجادلتهم في وحدانية الإِلهية كما دل عليه قوله الآتي، {ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون اللَّه قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً} [غافر: 73، 74]، فجَعل {لم نكن ندعوا} نقيض ما قيل لهم {أين ما كنتم تشركون}، وتشمل المجادلَة في وقوع البعث كما دل عليه قوله بعدَ هذه {ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات اللَّه أنى يصرفون} إلى قوله: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: 69- 71] الآية، أُعقب ذكر المجادلة أولاً بقوله: {لَخَلق السموات والأرضِ أكْبرُ من خَلقِ النَّاس} وذلك استدلال على إمكان البعث، ثم عطف عليه قوله: {وقَالَ رَبُّكم ادعُوني أستَجِب لكُم} الآية تحذيراً من الإِشراك به، وأيضاً لما ذُكر أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بدعاء الله وحده أمراً مفرّعاً على توبيخ المشركين بقوله: {ذلكم بأنَّه إذَا دُعيَ الله وحْدَه كَفَرتم} [غافر: 12] وعلى قوله عقب ذلك: {ومَا يتذكَّرُ إلاَّ مَن يُنيب} [غافر: 13] وانتقَل الكلام أثر ذلك إلى الأَهمّ وهو الأمر بإنذار المشركين بقوله: {وأنذِرْهُم يَومَ الأزِفَة} [غافر: 18] الخ، وتتابعت الأغراض حتى استوفت مقتضاها، عاد الكلام الآن إلى ما يشمل عبادة المؤمنين الخالصةَ لله تعالى وهو أيضاً متصل بقوله: {ومَا دَعاؤُا الكافرين إلاَّ في ضلال} [غافر: 50]. فلما تقدم ذكر الدعاء بمعنييه: معنى العبادة، ومعنى سُؤال المطلوب، أردف بهذا الأمر الجامع لكلا المعنيين.

والقول المخبَر عنه بفعل: {قال ربكم} يجوز أن يراد به كلام الله النفسي، أي ما تعلقت إرادة الله تعلقاً صلاحياً، بأن يقوله عند إرادة تكوينه، ويجوز أن يراد القول اللفظي ويكون التعبير ب (قال) الماضي إخباراً عن أقوال مضت في آيات قبل نزول هذه الآية مثل قوله: {فادعوا اللَّه مخلصين له الدين} [غافر: 14] بخلاف قوله: {أجيب دعوة الداعِ إذ دعان} [البقرة: 186] فإنه نزل بعد هذه الآية، ويجوز أن يكون الماضي مستعملاً في الحال مجازاً، أي يقول ربكم: ادعوني.

والدعاء يطلق بمعنى النداء المستلزم للاعتراف بالمُنَادَى، ويطلق على الطلب وقد جاء من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه صلاحية معنى الدعاء الذي في هذه الآية لما يلائم المعنيين في حديث النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"الدعاء هو العبادة" ثم قرأ {وقَالَ ربُّكم ادعُوني أستَجِب لكم إنَّ الذِّين يستَكبرون عَن عبادتي سيَدخلُون جهنَّم داخِرين} رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح، فإن قوله: « الدعاء هو العبادة» يقتضي اتحاد الحقيقتين فإذا كان الدعاء هو العبادة كانت العبادة هي الدعاء لا محالة. فالدعاء يطلق على سؤال العبد من الله حاجته وهو ظاهر معناه في اللغة، ويطلق على عبادة الله على طريق الكناية لأن العبادة لا تخلو من دُعاء المعبود بنداءِ تعظيمه والتضرع إليه، وهذا إطلاق أقل شيوعاً من الأول، ويراد بالعبادة في اصطلاح القرآن إفراد الله بالعبادة، أي الاعتراف بوحدانيته.

والاستجابة تطلق على إعطاء المسؤول لمن سأله وهو أشهر إطلاقها، وتطلق على أثر قبول العبادة بمغفرة الشرك السابق وبحصول الثواب على أعمال الإِيمان فإفادة الآية على معنى طلب الحاجة من الله يناسب ترتب الاستجابة على ذلك الطلب معلقاً على مشيئة الله أو على استيفاء شروط قبول الطلب، وإعطاء خير منه في الدنيا، أو إعطاء عوض منه في الآخرة. وإفادتها على معنى إفراد الله بالعبادة، أي بأن يتوبوا عن الشرك، فترتب الاستجابة هو قبول ذلك، فإن قبول التوبة من الشرك مقطوع به.

فلما جمعت الآية بين الفعلين على تفاوت بين شيوع الإِطلاق في كليهما علمنا أن في المعنى المراد ما يشبه الاحتباك بأن صرح بالمعنى المشهور، في كلا الفعلين ثم أعقب بقوله: {إنَّ الذين يَسْتكبرون عَن عِبادي}، فعلمنا أن المراد الدعاء والعبادة، وأن الاستجابة أريد بها قبول الدعاء وحصول أثر العبادة. ففعل {ادعوني} مستعمل في معنييه بطريقة عموم المشترك.

وفعل {أستجب} مستعمل في حقيقته ومجازه، والقرينة ما علمتَ، وذلك من الإِيجاز والكلامِ الجامع.

وتعريف الله بوصف الرب مضافاً إلى ضمير المخاطبين لما في هذا الوصف وإضافتِه من الإِيماء إلى وجوب امتثال أمره لأن من حق الربوبية امتثال ما يأمر به موصوفها لأن المربوبَ محقوق بالطاعة لربه، ولهذا لم يعرج مع هذا الوصف على تذكير بنعمته ولا إشارة إلى كمالات ذاته.

وجملة {إنَّ الذين يَسْتكبرون عن عِبادَتي سيدخلون جهنَّم} تعليل للأمر بالدعاء تعليلاً يفيد التحذير من إباية دعاء الله حين الإِقبال على دعاء الأصنام، كما قال تعالى: {ذلكم بأنَّه إذا دُعِي الله وحْدَه كفرتم وإن يُشرك به تُؤْمنوا} [غافر: 12] وكان المشركون لا يضرعون إلى الله إلا إذا لم يتوسموا استجابة شركائهم، كما قال تعالى: {فلما نجاكم إلى البر أعرضتم} [الإسراء: 67]. ومعنى التعليل للأمر بالدعاء بهذا التحذير: أن الله لا يحب لعباده ما يفضي بهم إلى العذاب، قال تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} [الزمر: 7] ففي الآية دليل على طلب الله من عباده أن يدعوه في حاجاتهم.

وقرأ الجمهور {سيدخلون} بفتح التحتية وضم الخاء. وقرأه أبو جعفر ورويس عن يعقوب بضم التحتية وفتح الخاء على البناء للنائب، أي سيدخلهم ملائكة العذاب جهنم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

معنى {رَبُّكُـمُ} من تولى تربيتكم، والتربية هنا تعني الإيجاد من العدم والإمداد من عُدْم، وما دام هو ربي فأنا مسئولٌ منه يضمن لي رزقي وعيشي في الدنيا، وقبل ذلك أعطاني الجوارح التي تعمل، والأعضاء التي بها أعيش، فهو ربي وخالقي الذي استدعاني للكون، ووفَّر لي فيه أسبابَ الحياة.

لذلك لما أراد سبحانه أنْ يجعل نموذجاً في الكون جعله بحيث يتعاطف الكونُ مع ذاته ويتكامل في نفسه، فجعل هذا قوياً، وهذا ضعيفاً، هذا صحيحاً وهذا مريضاً.

فالقوي حركته في الحياة حركة كاملة قوية تزيد عن حاجته، وقال له: ما زاد عن حاجتك اجعله للضعيف الذي لا يقدر على الحركة، والخالق سبحانه قادر على جَعْل الناس جميعاً أقوياء، لكن أراد أنْ يرتبط الخَلْق في حركة الحياة ارتباطَ حاجة لا ارتباطَ تفضُّل؛ لأن الارتباط لا يأتي بقانون التفضُّل، فالتفضل لا إلزامَ فيه، والمتفضل بالشيء حُرٌّ، يفعل أو لا يفعل.

وقوله: {ادْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ} يعني: فيما عجزتُم عن أسبابه ولن تقدروا عليه، ولم تجدوا من بيئتكم عَوْناً عليه، فليس لكم إلا التوجُّه إليَّ تدعونني، فأستجيب {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوۤءَ} [النمل: 62] فأنا ربكم وخالقكم استدعيتُكم إلى الوجود ومنحتكم الأسباب والجوارح، واستخلفتم في الأرض، فليس لكم ملجأ غيري تلجأون إليه إنْ عزَّت عليكم الأسباب.

أما إنْ كانت الأسبابُ ميسَّرة لكم، وقام كلُّ مكلَّف بدوره، فلا تتركوا الأسباب وتقولوا: يا ربّ، عليكم بما في أيديكم من الأسباب أولاً، زاولوها فإنْ ضاقتْ بكم فاذهبوا إلى المسبِّب.

لكن نلحظ في هذه المسألة أن الله تعالى أمرنا بالدعاء ووعدنا الإجابة، ومع ذلك منا مَنْ يدعو فلا يُستجاب له، فلماذا؟ قالوا: لأنك تدعو وأنت غير مُضطر، فلو كنتَ في حالة الاضطرار لاستُجيبَ لك. أنت تسكن في مسكن محترم وتدعو الله أن يكون لك (فيلا) أو قصر، فإنْ أعطاك القصر قلت: أريد عمارة تصرف على القصر، هذا دعاء عن ترف لا عن اضطرار، والإجابة هنا مشروطة بالمضطر.

والحق سبحانه وتعالى لا يُعفي عبداً عن مسئولية استطراق النفع للعباد، قالوا: لأن الواجد يبذل، وغير الواجد ينصح الواجد، فإنْ نصحت دون جدوى فلن تبرأ ذمتك حتى بعد ذلك.

ولو قرأتَ القرآن تجد قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ الْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 91].

متى هذا؟ قالوا: إذا لم يكن عندك مال لا بدَّ أنْ تنصح {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] نصحت ولم يستجب لك. قالوا: اقدر على نفسك، كيف؟

{وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فهل أعفى أحداً؟ لا بل حثَّ الجميع على أنْ يفعلوا: إما بذل المال، وإما بذل المقال، فإذا لم تستطع هذا ولا ذاك فيجب أنْ تحزن لأنك لم تشارك، ولا يكفي هنا الألم الوجداني، بل لا بدَّ أنْ يصحبه انفعال عاطفي ينتج عنه بكاء، تبكي أنك لم تجد شيئاً تنفقه في سبيل الله.

إذن: المسألة استطراق نفعي في الكون، هذا الاستطراق لا يدعُ أحداً منا في حاجة.

وبعد ذلك نقول له: أأنت فقير عَجْز أم احتراف؟ إنْ كان فقير احتراف لا يُحسب ولا يُؤْبه له، وإن كان فقير عجز فله أنْ يجلس في بيته مُعززاً مكرَّماً، والغني هو الذي يذهب إليه ويعطيه حقَّه، فالقادر إذن أصبح في خدمة غير القادر.

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} معنى: {يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أي: عن دعائي والذلة لي، وإظهار الحاجة إليّ، لذلك قال أهل المعرفة: لا يكُنْ حظك من الدعاء أنْ تُجاب، لكن اجعل حظك من الدعاء ذلةَ محتاجٍ لمن معه الخير، هذه هي معنى العبادة هنا؟

لذلك تجد ربك عز وجل دائماً يُصحِّح لك خطأك في الدعاء: {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء: 11].

فقد تدعو أنت لنفسك بشرٍّ تحسبه خيراً، ومن رحمة الله بك ألاّ يستجيب لك، لذلك قلنا في الثناء على الله تعالى: سبحانك يا مَنْ تُصوِّب خطأ الداعين بألاَّ تستجيب، وبذلك حميتنا من الضر، فكم يدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير...

لكم لماذا {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي: منكسرين صاغرين أذلاء، قالوا: لأنك لا تدعو واحداً إلا إذا كنتَ مطيعاً له، لأن الدعاء والعبادة متساويان، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:"كل أمر لا يُبدأ باسم الله فهو أبتر" يعني: لا بركة فيه.

وعلمنا أن نقول: بسم الله الرحمن الرحيم. يعني: أنا أبدأ عملي ببسم الله لكي تكون يد الله معي في الفعل، فما معنى (الرحمن الرحيم) هنا؟

قالوا: ربما كانت عاصياً فأذكر له سبحانه صفة الرحمة، لأنه سبحانه لا يتخلَّى عن عبده حتى لو كان عاصياً، فهؤلاء سيدخلون النار داخرين أذلاء لأنهم استنكفوا أنْ يدعو الله واستكبروا عن عبادته، فالنار جزاء الاستكبار.

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60)

{ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } اعبدوني أثبكم وأغفر لكم وقوله { داخرين } أي صاغرين

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60)

قوله تعالى : " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " روى النعمان بن بشير قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( الدعاء هو العبادة ) ثم قرأ " وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة . وكذا قال أكثر المفسرون وأن المعنى : وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم . وقيل : هو الذكر والدعاء والسؤال . قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع ) ويقال الدعاء : هو ترك الذنوب . وحكى قتادة أن كعب الأحبار قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تعطهن أمة قبلهم إلا نبي : كان إذا أرسل نبي قيل له أنت شاهد على أمتك ، وقال تعالى لهذه الأمة : " لتكونوا شهداء على الناس " [ البقرة : 143 ] وكان يقال للنبي : ليس عليك في الدين من حرج ، وقال لهذه الأمة : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " [ الحج : 78 ] وكان يقال للنبي ادعني استجب لك ، وقال لهذه الأمة : " ادعوني استجب لكم " .

قلت : مثل هذا لا يقال من جهة الرأي . وقد جاء مرفوعا ، رواه ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا للأنبياء كان الله تعالى إذا بعث النبي قال : ادعني استجب لك . وقال لهذه الأمة : " ادعوني استجب لكم " وكان الله إذا بعث النبي قال : ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " [ الحج : 78 ] وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس ) ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول . وكان خالد الربعي يقول : عجيب لهذه الأمة قيل لها : " ادعوني استجب لكم " أمرهم بالدعاء ووعدهم الاستجابة وليس بينهما شرط . قال له قائل : مثل ماذا ؟ قال : مثل قوله تعالى : " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات " [ البقرة : 25 ] فها هنا شرط ، وقوله : " وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق " [ يونس : 2 ] ، فليس فيه شرط العمل ، ومثل قوله : " فادعوا الله مخلصين له الدين " [ غافر : 14 ] فها هنا شرط ، وقوله تعالى : " ادعوني استجب لكم " ليس فيه شرط . وكانت الأمة تفزع إلى أنبيائها في حوائجها حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك . وقد قيل : إن هذا من باب المطلق والمقيد على ما تقدم في " البقرة " {[13387]} بيانه . أي " استجب لكم " إن شئت ، كقوله : " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " [ الأنعام :41 ] . وقد تكون الاستجابة في غير عين المطلوب على حديث أبي سعيد الخدري على ما تقدم في " البقرة " بيانه فتأمله هناك . وقرأ ابن كثير وابن محيصن ورويس عن يعقوب وعياش عن أبي عمرو وأبو بكر والمفضل عن عاصم " سيدخلون " بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله . الباقون " يدخلون " بفتح الياء وضم الخاء . ومعنى " داخرين " صاغرين أذلاء وقد تقدم{[13388]} .


[13387]:راجع ج 2 ص 309 طبعة ثانية.
[13388]:راجع ج 10 ص 111 و ج 13 ص 242 طبعة أولى أو ثانية.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60)

ولما كان التقدير : فعل ذلك ربكم ليقضي بين عباده بالعدل فيدخل المحسن الجنة نصرة له ، والمسيء النار خذلاناً وإهانة له ، لما برز به وعده من أنه ينصر رسله وأتباعهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وقال لعباده كلهم : آمنوا لأسلمكم من غوائل تلك الدار ، عطف عليه قوله : { وقال ربكم } أي المحسن إليكم بهدايتكم ووعدكم النصرة : { ادعوني } أي استجيبوا لي بأن تعبدوني وحدي فتسألوني ما وعدتكم به من النصرة على وجه العبادة ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم " الدعاء هو العبادة " فقد حصر الدعاء في العبادة سواء كانت بدعاء أو صلاة أو غيرهما ، فمن كان عابداً خاضعاً لله تعالى بسؤال أو غيره كانت عبادته دعاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : وحدوني اغفر لكم . وعن الثوري أنه قيل له : ادع ، فقال : إن ترك الذنوب هو الدعاء : { أستجب } أي أوجد الإجابة إيجاداً عظيماً كأنه ممن يطلب ذلك بغاية الرغبة فيه { لكم } في الدنيا أي بإيجاد ما دعوتم به ، أو كشف مثله من الضر ، أو إدخاره في الآخرة ، ليظهر الفرق بين من له الدعوة ومن ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا تتكلوا على ما سبق به الوعد فتتركوا الدعاء فتتركوا العبادة التي الدعاء مخها ، فكل ميسر لما خلق له ، قال القشيري ، وقيل : الدعاء مفتاح الإجابة ، وأسنانه لقمة الحلال - انتهى - والآية بمعنى آية البقرة{ أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي }[ آية : 186 ] .

ولما كان السبب في ترك الدعاء في العادة الكبر ، فكان كأنه قيل : ولا تتركوا دعائي تكونوا مستكبرين ، علله ترهيباً في طيه ترغيب بقوله : { إن الذين يستكبرون } أي يوجدون الكبر ، ودل على أن المراد بالدعاء العبادة بقوله : { عن عبادتي } أي عن الاستجابة لي فيما دعوت من العبادة بالمجادلة في آياتي والإعراض عن دعائي في جميع ما ينوبهم في الشدة والرخاء { سيدخلون } بوعد لا خلف فيه { جهنم } فتلقاهم جزاء على كبرهم بالتجهم والعبوسة والكراهة { داخرين * } أي صاغرين حقيرين ذليلين ، فالآية من الاحتباك : ذكر الدعاء أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ، والعبادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً .