أقطار : جمع قُطر ، وهي الناحية والجانب ، أي : إن استطعتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين من الله فاخرجوا ، ولكنكم لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة وقهر ، ومن أين لكم ذلك ؟
33 ، 34- { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
يا جماعة الإنس والجن ، أنتم راجعون إلينا ، خاضعون لأمرنا ، وتحت قدرتنا وحسابنا وجزائنا ، ولا مفرّ لكم ولا مهرب من الحساب والجزاء ، والثواب للطائعين ، والعقاب للعاصين ، فإن قدرتم أيها العصاة على الخروج من جوانب السماوات والأرض فاخرجوا ، والأمر هنا للتهديد ، ومعناه : لن تستطيعوا ذلك ، فالكون كله في قبضة الله ، والملائكة تحيط بأهل الموقف في صفوف تشبه الدائرة ، أي سبع دوائر من ملائكة السماء تحيط بأهل الأرض ، الدائرة الأولى مكونة من ملائكة السماء الدنيا ، والدائرة الثانية من ملائكة السماء الثانية . . . ، وهكذا إلى الدائرة السابعة من ملائكة السماء السابعة .
{ لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } .
أي : لا تستطيعون الخروج إلا بقوة وقهر وغلبة ، وأنى لكم ذلك ؟
جاء في حاشية المنتخب من تفسير القرآن لوزارة الأوقاف المصرية :
ثبت حتى الآن ضخامة المجهودات والطاقات المطلوبة للنفاذ من نطاق جاذبية الأرض ، وحيث اقتضى النجاح الجزئي في زيارة الفضاء لمدة محدودة جدا بالنسبة لِعِظم الكون – بَذْل الكثير من المجهودات العلمية الضخمة في شتى الميادين الهندسية والرياضية والفنية والجيولوجية فضلا عن التكاليف الخيالية المادية التي أنفقت في ذلك ، ومازالت تنفق ، ويدل ذلك دلالة قاطعة على أن النفاذ المطلق من أقطار السماوات والأرض – التي تبلغ ملايين السنين الضوئية – لإنس أو جنّ مستحيل .
قوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان* يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا } أي : تجوزوا وتخرجوا ، { من أقطار السماوات والأرض } أي من جوانبهما وأطرافهما ، { فانفذوا } معناه إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السماوات والأرض : فاهربوا واخرجوا منها . والمعنى : حيث ما كنتم أدرككم الموت ، كما قال جل ذكره : { أينما تكونوا يدرككم الموت }( النساء-78 ) وقيل : يقال لهم هذا يوم القيامة إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا . { لا تنفذون إلا بسلطان } أي : بملك . وقيل : بحجة ، والسلطان القوة التي يتسلط بها على الأمر ، فالملك والقدرة والحجة كلها سلطان ، يريد حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني . وروي عن ابن عباس قال : معناه : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموا ولن تعلموه إلا بسلطان أي : بينة من الله عز وجل . وقيل قوله : { إلا بسلطان } أي : إلى سلطان كقوله : { قد أحسن بي } ( يوسف-100 ) أي : إلي . { فبأي آلاء ربكما تكذبان } وفي الخبر : يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون : { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا } الآية . فذلك قوله عز وجل : { يرسل عليكما شواظ من نار } .
قوله تعالى : " معشر الجن والإنس " ذكر ابن المبارك : وأخبرنا جويبر عن الضحاك قال : إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها ، فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب ، فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض ومن فيها ، ثم يأمر الله السماء التي تليها كذلك فينزلون فيكونون صفا من خلف{[14555]} ذلك الصف ، ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة ، فينزل الملك الأعلى في بهائه وملكه ومجنّبته اليسرى جهنم ، فيسمعون زفيرها وشهيقها ، فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا من الملائكة ، فذلك قوله تعالى : " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " والسلطان العذر . وقال الضحاك أيضا : بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء ، ونزلت الملائكة ، فتهرب الجن والإنس ، فتحدق بهم الملائكة ، فذلك قوله تعالى : " لا تنقذون إلا بسلطان " ذكره النحاس .
قلت . فعلى هذا يكون في الدنيا ، وعلى ما ذكر ابن المبارك يكون في الآخرة . وعن الضحاك أيضا : إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا . وقال ابن عباس : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات وما في الأرض فأعلموه ، ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله تعالى . وعنه أيضا أن معنى : " لا تنفذون إلا بسلطان " لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم . قتادة : لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك . وقيل : لا تنفذون إلا إلى سلطان{[14556]} ، الباء بمعنى إلى ، كقوله تعالى : " وقد أحسن بي{[14557]} " [ يوسف : 100 ] أي إلى . قال الشاعر{[14558]} :
أسيئي بنا أو أحسني لا مَلُولَةٌ *** لدينا ولا مَقْلِيَّةٌ إن تَقَلَّتِ
ولما كان التهديد بالفراغ ربما أوهم أنهم الآن معجوز عنهم أو عن بعض أمرهم ، بين بخطاب القبض المظهر لمحض الواحدانية أنهم في القبضة ، لا فعل لأحد منهم بدليل أنهم لا يصلون إلى جميع مرادهم مما هو في مقدورهم ، ولكنه ستر ذلك بالأسباب التي يوجد التقيد بها إسناد الأمور إلى مباشرتها فقال بياناً للمراد بالثقلين : { يا معشر } أي يا جماعة فيهم الأهلية والعشرة والتصادق { الجن } قدمهم لمزيد قوتهم ونفوذهم في المسام وقدرتهم على الخفاء والتشكل في الصور بما ظن أنهم لا يعجزهم شيء { والإنس } أي الخواص والمستأنسين والمؤانسين المبني أمرهم على الإقامة والاجتماع .
ولما بان بهذه التسمية المراد بالتثنية ، جمع دلالة على كثرتهم فقال : { إن استطعتم } أي{[61925]} إن وجدت لكم طاعة الكون في { أن تنفذوا } أي تسلكوا بأجسامكم وتمضوا من غير مانع يمنعكم { من أقطار } أي نواحي { السماوات والأرض } التي يتخللها القطر لسهولة انفتاحها لشي تريدونه من هرب من الله من إيقاع الجزاء بينكم ، أو عصيان عليه في قبول أحكامه{[61926]} وجري مراداته وأقضيته عليكم من الموت وغيره أو غير ذلك { فانفذوا } وهذا يدل على أن كل واحدة منها محيطة بالأخرى لأن النفوذ لا يكون حقيقة إلا مع الخرق .
ولما كان نفوذهم {[61927]}في حد{[61928]} ذاته ممكناً ولكنه منعهم من ذلك بأنه لم يخلق في أحد منهم قوته ولا سيما وقد منعهم منه يوم القيامة بأمور منها إحداق أهل السماوات السبع بهم{[61929]} صفاً بعد صف وسرادق النار قد أحاط بالكافرين ولا منفذ لأحد إلا على الصراط ولا يجوزه إلا كل ضامر يخف ، أشار إليه بقوله مستأنفاً : { لا تنفذون } أي من{[61930]} شيء من ذلك { إلا بسلطان } إلا بتسليط عظيم منه سبحانه بأمر قاهر وقدرة بالغة وأنى لكم بالقدرة على ذلك ، قال البغوي{[61931]} : وفي الخبر : يحاط {[61932]}على الخلق{[61933]} بالملائكة وبلسان من نار{[61934]} ثم ينادون : يا معشر الجن الآية .
انتهى ، وهذا حكاية ما يكون من ذلك يوم القيامة لا أنه خاص بهم .
قوله : { يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا } تنفذوا ، تخلصوا أو تخرجوا{[4425]} . والمعنى : إذا قدرتم أيها الجن والإنس أن تفروا من سلطان الله وهيمنته أو تخرجوا من أطراف خلقه من السماوات والأرض هربا من قضاء الله وقدرته { لاتنفذون إلا بسلطان } أي لا تستطيعون أن تخرجوا أو تفروا هربا من ملكوت الله { إلا بسلطان } أي بقدرة أو قوة أو برهان أو بينة من الله تمكنكم من النفوذ في أقطار السماوات والأرض . وإنما ذلك كائن بأمر الله وإرادته وتمكينه إياكم من ضرب من ضروب النفوذ في محيط هذا الكون .
وقيل : يقال لهم هذا يوم القيامة حين تحدق بهم الملائكة فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون جهة من الجهات إلا وجدوا الملائكة قد أحاطت به .