ونعيم القلب والروح . نعيم القرب والتكريم : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . . فهو مقعد ثابت مطمئن ، قريب كريم ، مأنوس بالقرب ، مطمئن بالتمكين . ذلك أنهم المتقون . الخائفون . المترقبون . والله لا يجمع على نفس خوفين : خوفها منه في الدنيا ، وخوفها يوم القيامة . فمن اتقاه في العاجلة أمنه في الآجلة . ومع الأمان في أفزع موطن ، يغمره بالأنس والتكريم .
وعند هذا الإيقاع الهادئ ، في هذا الظل الآمن ، تنتهي السورة التي حفلت حلقاتها بالفزع والكرب والأخذ والتدمير . فإذا للظل الآمن والإيقاع الهادئ طعم وروح أعمق وأروح . . وهذه هي التربية الكاملة . تربية العليم الحكيم بمسارب النفوس ومداخل القلوب . وهذا هو التقدير الدقيق لخالق كل شيء بقدر ، وهو اللطيف الخبير . .
ونَهَر : وأنهار ، والمراد به الجنس ، وقرئ بضم النون وسكون الهاء ، مثل : أُسْد وأَسَد .
مقعد صدق : مكان مرضيّ ، أو في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم ، والمراد به أيضا الجنس ، وقرئ : مقاعد : أي : مجالس من الجنات سالمة من اللغو والتأثيم ، بخلاف مجالس الدنيا فإنها قلّ أن تسلم من ذلك .
مليك : صيغة مبالغة ، أي : عزيز الملك واسع السلطان .
مقتدر : قادر لا يعجزه شيء وهو الله تعالى ، والعندية ليست عندية مكان ، وإنما إشارة إلى الرتبة والقرب من فضل الله تعالى .
54-55- { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } .
في ختام سورة ( القمر ) التي حفلت بحديث متواصل عن هلاك المكذبين ، يأتي في نهايته حديث هادئ ، فيه تكريم المتقين تكريما حسيا ومعنويا ، أما التكريم الحسّي فهو التمتع بالجنات وما فيها من أشجار وثمار ، وحور عين ، وأنهار واسعة متعددة الأشكال والألوان .
قال تعالى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ . . . } ( محمد : 15 ) .
أما التكريم المعنوي : فهم في مقعد كريم ، ومجلس فاضل رائق ، لا يتكلم فيه إلا بالصدق والفضل والخير ، مع البعد عن الإثم والكذب ، والزور والخطيئة ، وهذا المقعد الذي يحظى به الصادقون ، عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ . عند رب عظيم ، واسع القدرة ، يكرم عباده المتقين الذين جاهدوا في الدنيا ، وحرصوا على مرضاة الله في دنياهم ، فالله تعالى يقربهم منه ، ويكرمهم عنده ، وهي عندية منزلة وقربى وزلفى ، ومكانة رفيعة .
أخرج أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المقسطون عند الله على منابر من نور ، عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا " xv
ضميمة عن الإبداع والنظام في الكون ، وعن التوازن في علاقة بعض الأحياء ببعض ، بمناسبة تفسير قوله تعالى : { إنّا خلقنا كلّ شيء بقدر } . ( القمر : 49 ) . من كتاب ( في ظلال القرآن ) للأستاذ سيد قطب رحمه الله وطيب ثراه .
" إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد ، لأنها قليلة البيض ، قليلة التفريخ ، فضلا على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة ، وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار ، ولو كانت مع عمرها الطويل ، كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن ، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها ، أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان ، وللقيام بأدوارها الأخرى ، ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض .
بغاث الطير أكثرها فراخا *** وأم الصقر مِقلاتٌ نَزور
وذلك للحكمة التي قدرها الله تعالى كما رأينا ، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث .
والذبابة تبيض ملايين البويضات ، ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين ، ولو كانت تعيش بضعة أعوام ، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه ، ولغدت حياة كثير من الأجناس – وأولها الإنسان – مستحيلة على وجه الأرض . ولكن عجلة التوازن التي لا تختل في يد القدرة التي تدبر هذا الكون ، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه .
والميكروبات – وهي أكثر الأحياء عددا ، وأسرعها تكاثرا ، وأشدها فتكا – هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمرا ، تموت بملايين الملايين من البرد ومن الحر ، ومن الضوء ، ومن أحماض المعدات ، ومن أمصال الدم ، ومن عوامل أخرى كثيرة ، ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان ، ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء ! .
وكل حي من الأحياء مزود بسلاح يتقي به هجمات أعدائه ويغالب به خطر الفناء ، وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع ، فكثرة العدد سلاح ، وقوة البطش سلاح ، وبينهما ألوان وأنواع . .
الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها ، والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل ، ومن ثم يندر فيها السام !
والخنفساء – وهي قليلة الحيلة – مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة ، تصبها على كل من يلمسها ، وقاية من الأعداء !
والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز ، والأسود مزودة بقوة البأس والافتراس !
وهكذا كل حي من الأحياء الصغار والكبار على السواء .
وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه ، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام . . الإنسان والحيوان والطير وأدنأ أنواع الأحياء سواء .
البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي تلصق بالرحم ، وهي مزودة بخاصية أكالة ، تمزق جدار الرحم حولها وتحوله إلى بركة من الدم المناسب لامتصاصها ونموها ! والحبل السري الذي يربط الجنين بأمه ليتغذى منها حتى يتم وضعه ، روعي في تكوينه الغرض الذي تكون من أجله ، دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه ، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء إليه بما قد يؤذيه " xvi .
" والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع سائلا أبيض مائلا إلى الاصفرار ، ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيماوية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض ، وفي اليوم التالي للميلاد ، يبدأ اللبن في التكوين ، ومن تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي يوما بعد يوم ، حتى يصل إلى حوالي لتر ونصف في اليوم بعد سنة ، بينما لا تزيد كميته في الأيام الأولى على بضع أوقيات . ولا يقف الإعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل ، بل إن تركيب اللبن كذلك تتغير مكوّناته ، وتتركز مواده ، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول الأمر ، ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى ، بل يوما بعد يوم ، بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو " xvii .
وتتبع الأجهزة المختلفة في تكوين الإنسان ، ووظائفها ، وطريقة عملها ، ودور كل منها في المحافظة على حياته وصحته . . يكشف عن العجب العجاب في دقة التقدير وكمال التدبير ، ويرينا يد الله وهي تدبر أمر كل فرد ، بل كل عضو ، بل كل خلية من خلاياه ، وعين الله عليه تكلؤه وترعاه ، ولن نستطيع هنا أن نفصل هذه العجائب فنكتفي بإشارة سريعة إلى التقدير الدقيق في جهاز واحد من هذه الأجهزة ، جهاز الغدد الصم " تلك المعامل الكيماوية الصغيرة التي تمد الجسم بالتركيبات الكيماوية الضرورية ، والتي يبلغ من قوتها أن جزاء من ألف بليون جزء منها تحدث آثارا خطيرة في جسم الإنسان ، وهي مرتبة بحيث إن إفراز كل غدة يكمل إفراز الغدة الأخرى ، وكل ما كان يعرف عن هذه الإفرازات أنها معقدة التركيب تعقيدا مدهشا ، وأن أي اختلال في إفرازها يسبب تلفا عاما في الجسم ، يبلغ حد الخطورة إذا دام هذا الاختلال وقتا قصيرا " xviii .
أما الحيوان فتختلف أجهزته باختلاف أنواعه وبيئاته وملابسات حياته . .
" زودت أفواه الآساد والنمور والذئاب والضباع ، وكل الحيوانات الكاسرة التي تعيش في الفلاة ، ولا غذاء لها إلا ما تفترسه من كائنات لابد من مهاجمتها والتغلب عليها ، بأنياب قاطعة ، وأسنان حادة ، وأضراس صلبة . ولما كانت في هجومها لابد أن تستعمل عضلاتها ، فلأرجلها عضلات قوية ، سلحت بأظافر ومخالب حادة ، وحوت معدتها الأحماض والأنزيمات الهاضمة للحوم والعظام " . xix
أما الحيوانات المجترة المستأنسة التي تعيش على المراعي ، فهي تختلف فيما زودت به . .
" وقد صممت أجهزتها الهاضمة بما يتناسب مع البيئة ، فأفواهها واسعة نسبيا ، وقد تجردت من الأنياب القوية والأضراس الصلبة ، وبدلا منها توجد الأسنان التي تتميز بأنها قاضمة قاطعة ، فهي تأكل الحشائش والنباتات بسرعة ، وتبتلعها كذلك دفعة واحدة ، حتى يمكنها أن تؤدي للإنسان ما خلقت لأجله من خدمات ، وقد أوجدت العناية الخالقة لهذا الصنف أعجب أجهزة للهضم ، فالطعام الذي تأكله ينزل إلى الكرش ، وهو مخزن له ، فإذا ما انتهى عمل الحيوان اليومي وجلس للراحة ، يذهب الطعام إلى تجويف يسمى " القلنسوة " ، ثم يرجع إلى الفم ، فيمضغ ثانية مضغا جيدا ، حيث يذهب إلى تجويف ثالث يسمى " أم التلافيف " ، ثم إلى رابع يسمى " الإنفحة " وكل هذه العملية الطويلة أعدت لحماية الحيوان ، إذ كثيرا ما يكون هدفا لهجوم حيوانات كاسرة في المراعي ، فوجب عليه أن يحصل على غذائه بسرعة ويختفي .
ويقول العلم إن عملية الاجترار ضرورية بل وحيوية ، إذ إن العشب من النباتات العسرة الهضم ، لما يحتويه من السليلوز الذي يغلف جميع الخلايا النباتية ، ولهضمه يحتاج الحيوان إلى وقت طويل جدا ، فلو لم يكن مجترا ، وبمعدته مخزن خاص ، لضاع وقت طويل في الرعي ، يكاد يكون يوما بأكمله ، دون أن يحصل الحيوان على كفايته من الغذاء ، ولأجهد العضلات في عمليات التناول والمضغ ، إنما سرعة الأكل ، ثم تخزينه وإعادته بعد أن يصيب شيئا من التخمر ، ليبدأ المضغ والطحن والبلع ، تحقق كافة أغراض الحيوان من عمل وغذاء وحسن هضم . فسبحان المدبر " xx .
" والطيور الجارحة كالبوم والحدأة ذات منقار مقوس حاد على شكل خطاف لتمزيق اللحوم .
بينما للإوز والبط مناقير عريضة منبسطة مفلطحة كالمغرفة ، توائم البحث عن الغذاء في الطين والماء ، وعلى جانب المنقار زوائد صغيرة كالأسنان لتساعد على قطع الحشائش .
أما الدجاج والحمام وباقي الطيور التي تلتقط الحب من الأرض فمناقيرها قصيرة مدببة لتؤدي هذا الغرض ، بينما منقار البجعة مثلا طويل طولا ملحوظا ، ويمتد من أسفله كيس يشبه الجراب ليكون كشبكة الصياد ، إذ إن السمك هو غذاء البجعة الأساسي .
ومنقار الهدهد وأبو قردان طويل مدبب ، أُعد بإتقان للبحث عن الحشرات والديدانِ ، التي غالبا ما تكون تحت سطح الأرض . ويقول العلم : إنه يمكن للإنسان أن يعرف غذاء أي طير من النظرة العابرة إلى منقاره .
أما باقي الجهاز الهضمي للطير فهو غريب عجيب ، فَلَمَّا لَمْ يعط أسنانا فقد خلقت له حوصلة وقانصة تهضم الطعام ، ويلتقط مواد صلبة وحصى لتساعد القانصة على هضم الطعام " . xxi
ويطول بنا الاستعراض ، ونخرج على منهج هذه الظلال ، لو رحنا نتتبع الأنواع والأجناس الحية على هذا النحو ، فنسرع الخطى إلى " الإميبا " وهي ذات الخلية الواحدة ، لنرى يد الله معها ، وعينه عليها ، وهو يقدر لها أمرها تقديرا .
" والإميبا كائن حي دقيق الحجم ، يعيش في البرك والمستنقعات ، أو على الأحجار الراسبة في القاع . ولا تُرى بالعين إطلاقا وهي تُرى بالمجاهر كتلة هلامية ، يتغير شكلها بتغير الظروف والحاجات ، فعندما تتحرك تدفع بأجزاء من جسمها تكون به زوائد ، تستعملها كالأقدام ، للسير بها إلى المكان المرغوب ، ولذا تسمى هذه الزوائد بالأقدام الكاذبة . وإذا وجدت غذاء لها أمسكت به بزائدة أو زائدتين ، وتفرز عليه عصارة هاضمة ، فتتغذى بالمفيد منه ، أما الباقي فتطرده من جسمها ! وهي تتنفس من كل جسمها بأخذ الأكسجين من الماء . . فتصور هذا الكائن الذي لا يرى إطلاقا بالعين ، يعيش ويتحرك ، ويتغذى ويتنفس ، ويخرج فضلاته ! فإذا ما تم نموه انقسم إلى قسمين ، ليكون كل قسم حيوانا جديدا .
وعجائب الحياة في النبات لا تقل في إثارة العجب والدهشة عن عجائبها في الإنسان والحيوان والطير ، والتقدير فيها لا يقل ظهورا وبروزا عنه في تلك الأحياء " xxii . { وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا } . ( الفرقان : 2 ) .
على أن الأمر أعظم من هذا كله وأشمل في التقدير والتدبير ، إن حركة هذا الكون كله بأحداثها ووقائعها وتياراتها مقدرة مدبرة ، صغيرها وكبيرها ، كل حركة في التاريخ ككل انفعال في نفس فرد ، ككل نَفَس يخرج من صدر ! إن هذا النَّفَس مقدر في وقته ، مقدر في مكانه ، مقدر في ظروفه كلها ، مرتبط بنظام الوجود وحركة الكون ، محسوب حسابه في التناسق الكوني ، كالأحداث العظام الضخام !
وهذا العود البري النابت وحده هناك في الصحراء . . إنه هو الآخر قائم هناك بقدر ، وهو يؤدي وظيفة ترتبط بالوجود كله منذ كان ! وهذه النملة الساربة ، وهذه الهباءة الطائرة ، وهذه الخلية السابحة في الماء ، كالأفلاك والأجرام الهائلة سواء !
تقدير في الزمان ، وتقدير في المكان ، وتقدير في المقدار ، وتقدير في الصورة ، وتناسق مطلق بين جميع الملابسات والأحوال .
من ذا الذي يذكر مثلا أن زواج يعقوب من امرأة أخرى هي أم يوسف وبنيامين أخيه ، لم يكن حادثا شخصيا فرديا . . إنما كان قدرا مقدورا ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه ، فيأخذوه فيلقوه في الجب – ولا يقتلوه – لتلتقطه السيارة ، لتبيعه في مصر لينشأ في قصر العزيز ، لتراوده امرأة العزيز عن نفسه ، ليستعلي على الإغراء ، ليلقى في السجن . . لماذا ؟ ليتلاقى في السجن مع خادمي الملك ، ليفسر لهما الرؤيا . . لماذا ؟ إلى تلك اللحظة لا يوجد جواب ! ويقف ناس من الناس يسألون : لماذا ؟ لماذا يا رب يتعذب يوسف ؟ لماذا يا رب يتعذب يعقوب ؟ لماذا يفقد هذا النبي بصره من الحزن ؟ ولماذا يسام يوسف الطيب الزكي كل هذا الألم المنوع الأشكال ؟ لماذا ؟ . . ولأول مرة تجيء أول إجابة بعد أكثر من ربع قرن في العذاب ، لأن القدر يعدُّه ليتولى أمر مصر وشعبها والشعوب المجاورة في سني القحط السبع ! ثم ماذا ؟ ثم ليستقدم أبويه وإخوته ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل ، ليضطهدهم فرعون ، لينشأ من بينهم موسى – وما صاحب حياته من تقدير وتدبير – لتنشأ من وراء ذلك كله قضايا وأحداث وتيارات يعيش العالم فيها اليوم بكليته ! وتؤثر في مجرى حياة العالم جميعه !
ومن ذا الذي يذكر مثلا أن زواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية لم يكن حادثا شخصيا فرديا ، إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق ومروره بمصر ، ليأخذ منها هاجر ، لتلد له إسماعيل ، ليسكن إسماعيل وأمه عند البيت المحرم ، لينشأ محمد صلى الله عليه وسلم من نسل إبراهيم – عليه السلام – في هذه الجزيرة ، أصلح مكان على وجه الأرض لرسالة الإسلام . . ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر في تاريخ البشرية العام !
إنه قدر الله وراء طرف الخيط البعيد . . لكل حادث ، ولكل نشأة ، ولكل مصير ، ووراء كل نقطة ، وكل خطوة ، وكل تبديل أو تغيير .
إنه قدر الله النافذ ، الشامل ، الدقيق ، العميق .
وأحيانا يرى البشر طرف الخيط القريب ولا يرون طرفه البعيد ، وأحيانا يتطاول الزمن بين المبدأ والمصير في عمرهم القصير ، فتخفى عليهم حكمة التدبير ، فيستعجلون ويقترحون ، وقد يسخطون أو يتطاولون !
والله يعلمهم في هذا القرآن أن كل شيء بقدر ليسلموا الأمر لصاحب الأمر ، وتطمئن قلوبهم وتستريح ويسيروا مع قدر الله في توافق وفي تناسق ، وفي أنس بصحبة القدر في خطوة المطمئن الثابت الوثيق . xxiii
1- الإخبار بقرب مجيء يوم القيامة .
2- تكذيب المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم ، وقولهم في معجزاته إنها سحر .
3- غفلتهم عما في القرآن من الزواجر .
4- أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم ، حتى يأتي قضاء الله فيهم .
5- إنذارهم بأنهم سيحشرون أذلاء ناكسي الرؤوس ، مسرعين كأنهم جراد منتشر .
6- طرف من قصص المكذبين قبل أهل مكة ، كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وفرعون وقومه ، وما لاقوه من الجزاء على تكذيبهم .
7- توبيخ المشركين على ما هم فيه من الغفلة عن الاعتبار بهذه النذر .
8- جزاء المجرمين في جهنم ، وألوان العذاب ، والحريق بالنار التي يتعرضون لها .
9- كل ما في الوجود خاضع للقدرة الإلهية الحكيمة ، وكل شيء قد قدّر ونظم بإحكام وتقدير حكيم .
10- جزاء المتقين الجنة ، في قرب الإله الحكيم المقتدر .
11- الدعاء مستجاب عند قراءة آخر سورة القمر ، ثم يقول المؤمن : اللهم يا مليك يا مقتدر ، أسألك خير الدنيا والآخرة .
انتهى بحمد الله تفسير سورة ( القمر ) ظهر الاثنين 3 من شعبان 1421ه ، الموافق 30 من أكتوبر 2000م .
i هو زوج حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أهل مكة إذا أرادوا تحقير النبي نسبوه إلى زوج أمه من الرضاع .
iii أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية :
رواه البخاري في المناقب ( 3868 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : أن أهل مكة سألوا رسول الله أن يريهم آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما .
iv انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين :
رواه مسلم في صفة القيامة ( 2801 ) من حديث عبد الله بن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين فستر الجبل فلقة ، وكانت فلقة فوق الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اشهد " .
تقدم تخريجه ، انظر هامش ( 39 ) .
ذكره البخاري تعليقا في الطب باب الجذام من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد " . ورواه البخاري في الطب ( 5717 ، 5757 ، 5771 ، 5775 ) ومسلم في السلام ( 2220 ) وأبو داود في الطب ( 3911 ، 3912 ) وأحمد في مسنده ( 8143 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا عدوى ولا صفر ولا هامة " ، فقال أعرابي : يا رسول الله ، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها ؟ فقال : " فمن أعدى الأول " .
رواه البخاري في الطب ( 5753 ، 5772 ) ، ومسلم في السلام ( 2225 ) وابن ماجة في المقدمة ( 86 ) وفي الطب ( 3540 ) وأحمد في مسنده ( 6369 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث : في المرأة والدار والدابة " . رواه البخاري في الطب ( 5756 ، 5776 ) ومسلم في السلام ( 2224 ) وأبو داود في الطب ( 3916 ) والترمذي في السير ( 1615 ) وابن ماجة في الطب ( 3537 ) وأحمد في مسنده ( 11914 ) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا عدوى ولا طيرة ، ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة " . رواه مسلم في السلام ( 2222 ) وأحمد في مسنده ( 13703 ) من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى ولا طيرة ولا غول " . ورواه أبو داود في الطب ( 3921 ) وأحمد في مسنده ( 1505 ) من حديث سعد بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا هامة ولا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيء ففي الفرس والمرأة والدار " . ورواه ابن ماجة في الطب ( 3539 ) من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر " . ورواه أحمد في مسنده ( 4186 ) من حديث عبد الله بن مسعود قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لا يعدي شيء شيئا " فقام أعرابي فقال : يا رسول الله ، النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما أجرب الأول ، لا عدوى ولا هامة ولا صفر ، خلق الله كل نفس فكتب حياتها ومصيباتها ورزقها " . ورواه أحمد في مسنده ( 7030 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا حسد ، والعين حق " .
vii اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت :
رواه أبو داود في الطب ( 3919 ) من حديث عروة بن عامر قال : أحمد القرشي قال : ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أحسنها الفأل ولا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك " .
viii التفسير المنير أ . د . وهبة الزحيلي ، دار الفكر المعاصر ، بيروت لبنان 27/169 .
ix انظر التفسير الوسيط د . محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر ، المجلد 14 ص 142 ، مطبعة السعادة –القاهرة ، وفي ظلال القرآن ( الجزء 27 ص 92 ) .
x كان يقرأ فيهما ب ( ق والقرآن المجيد ) و( اقتربت ) :
رواه مسلم في صلاة العيدين ( 891 ) من حديث عبيد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي : ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر ؟ فقال : كان يقرأ فيهما ب ( ق والقرآن المجيد ) و( اقتربت الساعة وانشق القمر ) .
xi اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك :
رواه البخاري في الجهاد ( 2915 ) وفي المغازي ( 3953 ) وفي التفسير ( 4875 ، 4877 ) وأحمد في مسنده ( 3034 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة : " اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم " ، فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك ، وهو في الدرع فخرج وهو يقول : " سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " .
رواه مسلم في القدر ( 2655 ) من حديث طاوس أنه قال : أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : كل شيء بقدر ، قال : وسمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز " .
xiii استعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل :
رواه مسلم في القدر ( 2664 ) وابن ماجة في المقدمة ( 79 ) وفي الزهد ( 4168 ) وأحمد في مسنده ( 8573 ، 8611 ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " .
xiv انظر تفسير المراغي ، المجلد 9 الجزء 27 صفحة 101 ، والتفسير المنير ، الجزء 27 ص 186 .
xv إن المقسطين على منابر من نور :
رواه مسلم في الإمارة ( 1827 ) والنسائي في آداب القضاة ( 5379 ) وأحمد في مسنده ( 6456 ) من حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " .
xvi من كتاب ( الله والعلم الحديث ) للأستاذ عبد الرزاق نوفل ( ص 46-47 ) .
xvii المصدر السابق ص ( 47-48 )
xviii المصدر السابق ص ( 51-52 ) .
xix المصدر السابق ص( 71-72 ) .
xx المصدر السابق ص ( 72-73 ) .
xxi المصدر السابق ص ( 73-74 ) .
xxii المصدر السابق ص ( 101-102 ) .
xxiii في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب ، تفسير الجزء 27 ص 99-104 .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{في مقعد صدق عند مليك مقتدر} على ما يشاء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ "يقول: في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم. "عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ" يقول: عند ذي مُلك مقتدر على ما يشاء، وهو الله ذو القوّة المتين، تبارك وتعالى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{في مقعد صِدقٍ} أي موعود صِدق؛ كأنه كناية عن راحة وسرور لهم... أي لهم موعود صدق عند ربهم، أي تقِرّ أقدامهم في ذلك، فيكون هو كناية عن الثبات.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} مقرّبين عند مليك مبهم أمره في الملك والاقتدار، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته، فأي منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{مقعد صدق} يحتمل أن يريد به الصدق الذي هو ضد الكذب، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به، ويحتمل أن يكون من قولك: عود صدق، أي جيد، ورجل صدق، أي خير وخلال حسان.
(وثانيهما): الصدق المراد منه ضد الكذب، وعلى هذا ففيه وجهان؛
(الأول): مقعد صدق من أخبر عنه وهو الله ورسوله.
(الثاني): مقعد ناله من صدق فقال: بأن الله واحد وأن محمدا رسوله.
ويحتمل أن يقال المراد أنه مقعد لا يوجد فيه كذب لأن الله تعالى صادق ويستحيل عليه الكذب ومن وصل إليه امتنع عليه الكذب لأن مظنة الكذب الجهل والواصل إليه، يعلم الأشياء كما هي ويستغني بفضل الله عن أن يكذب ليستفيد بكذبه شيئا فهو مقعد صدق. وكلمة {عند} قد عرفت معناها والمراد منه قرب المنزلة والشأن لا قرب المعنى والمكان.
وقوله تعالى: {مليك مقتدر} لأن القربة من الملوك لذيذة كلما كان الملك أشد اقتدارا، كان المتقرب منه أشد التذاذا، وفيه إشارة إلى مخالفة معنى القرب منه من معنى القرب من الملوك، فإن الملوك يقربون من يكون ممن يحبونه وممن يرهبونه، مخافة أن يعصوا عليه وينحازوا إلى عدوه فيغلبونه، والله تعالى قال: {مقتدر} لا يقرب أحدا إلا بفضله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{في مقعد} أي تلك الجنان محل إقامتهم التي تراد للقعود {صدق} أي فيما أراده الإنسان صدق وجوده الإرادة ولا يقعد فيه إلا أهل الصدق، ولا يكون فيه إلا صدقه، لا لغو فيه ولا تأثيم، {عند مليك} أي ملك تام الملك {مقتدر} أي شامل القدرة بالغها إلى حد لا يمكن إدراكه لغيره سبحانه
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمقعد: مكان القعود. والقعود هنا بمعنى الإِقامة المطمئنة كما في قوله تعالى: {اقعدوا مع القاعدين} [التوبة: 46]. فمقعد صدق، أي مقعد كامل في جنسه مرضي للمستقر فيه فلا يكون فيه استفزاز ولا زوال، وإضافة {مقعد} إلى {صدق} من إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة في تمكن الصفة منه.
ولما كانت البساتين لا تسكن في الدنيا لأنه ليس فيها جميع ما يحتاجه الإنسان ، بين أن حال تلك غير حال هذه ، فقال مبدلاً مما{[61765]} قبله : { في مقعد } أي تلك الجنان محل إقامتهم التي تراد للقعود { صدق } أي فيما أراده الإنسان صدق وجوده الإرادة ولا يقعد فيه إلا أهل الصدق ، ولا يكون فيه إلا صدقه ، لا لغو فيه ولا تأثيم ، والتوحيد لإرادة الجنس مع أن الإبدال يفهم أنه لا موضع في تلك الجنان إلا وهو الصالح للتسمية بهذا الاسم ولأنهم لاتحاد قلوبهم ورضاهم كأنهم في مقعد واحد على أنه قرئ بالجمع .
ولما كان هذا غير معهود ، بين أن سببه تمكين الله لهم منه لاختصاصه لهم وتقريبه إياهم لإرضائه لهم ، فقال مقيداً لذلك بالتعبير بالعندية لأن عنديته سبحانه تعالى منزهة عن قرب الأجسام والجهات : { عند مليك } أي ملك تام الملك { مقتدر } أي شامل القدرة بالغها إلى حد لا يمكن إدراكه لغيره سبحانه كما تقدم قريباً ، فهو يوصلهم إلى كل خير ويدفع عنهم كل ضير ، وكما أن لهم في الآخرة عندية الإشهاد فلهم في الدنيا عندية الإمداد ، ولهذا الاسم الشريف سر في الانتصار على الظالمين ،
ولقد ختمت السورة كما ترى كما ابتدئت به من أمر الساعة ، وكانت البداية للبداية والنهاية للنهاية ، وزادت النهاية بيان السبب الموجد لها ، وهو قدرته سبحانه وعز شأنه وعظمت رحمته وإحسانه ، وعفوه ومغفرته ورضوانه ، ولتصنيف الناس فيها إلى كافر مستحق للانتقام ، ومؤمن مؤهل لغاية الإكرام ، لم يذكر الاسم الأعظم الجامع الذي يذكر في سياق مقتضى جمع الجلال والإكرام لصنف واحد وهو من يقع منه الإيمان ولا يتدنس بالعصيان ، وهم الذين آمنوا ، ولمشاركتها للسورتين اللتين بعدها في هذا العرض ، وهو الكلام في حق الصنفين فقط من غير ذكر عارض ممن آمن ، أشرك الثلاثة في الخلو عن ذكر الاسم الأعظم . فلم يذكر في واحدة منها وجاء فيها من الصفات ما يقتضي العظمة على أهل الكفران ، وما ينبئ عن الإكرام والإحسان لأهل الإيمان
{ ولمن خاف مقام ربه جنتان }[ الرحمن : 46 ] ولهذا ختمت هذه بصفة الملك المقتضي للسطوة التامة والإكرام البالغ وعدم المبالاة بأحد كائناً من كان ، لأن الملك من حيث هو ملك إنما يقتضي مقامه إهانة العدو وإكرام الولي ، وجعل ذلك على وجه المبالغة أيضاً ، كل ذلك للإعلام بأن تصريفه سبحانه لأحوال الآخرة كما قصد في هذه السورة من تصريفه في أحوال الدنيا من إهلاك الأعداء وإنجاء الأولياء ، وكأن هذه السورة كانت هكذا لأنها جاءت عقب النجم التي شرح فيها الإسراء وكان للنبي صلى الله عليه وسلم من العظمة بخرق العوائد باختراق السماوات ، والوصول إلى أنهى{[1]} الغاية من المناجاة ، وغيره من سر الملكوت ومحل الجبروت ، بعد أن لوح بمقامه عليه الصلاة والسلام بالطور ليعلم الفرق ويوصف كل بما هو الحق ، فكان ذلك مقتضياً لئلا يكون بعده من الناس إلا مؤمن خالص ، فإن كان غيره فهو معاند شديد الكفر ، وكأنها جعلت{[2]} ثلاثاً لإرادة غاية التأكيد لهذا المعنى الشديد ، فلما انقضت الثلاث كان متبركاً به في معظم آيات الحديد ثم توجت كل آية من آيات المجادلة به إشارة إلى أنه قد حصل غاية التشوف إليه وترهيباً لمن يعصي ولا سيما من يظاهر ، وترغيباً في الطاعة للملك الغافر ، والله الموفق لما يريد إنه قوي فعال لما يريد{[3]} .
{ في مقعد صدق عند مليك مقتدر }
{ في مقعد صدق } مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم أريد به الجنس ، وقرئ مقاعد ، المعنى أنهم في مجالس من الجنات سالمة من اللغو والتأثيم بخلاف مجالس الدنيا فقلَّ أن تسلم من ذلك وأعرب هذا خبراً ثانياُ وبدلاً وهو صادق ببدل البعض وغيره { عند مليك } مثال مبالغة ، أي عزيز الملك واسعه { مقتدر } قادر لا يعجزه شيء وهو الله تعالى وفيه إشارة إلى الرتبة والقربة من فضله تعالى
قوله : { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } أي منعمون في الجنة ، إذ لا لغو فيها ولا تأثيم ، بل هي دار كرامة لهم ورضوان من الله { عند مليك مقتدر } أي عند إله خالق مالك قادر على كل شيء{[4416]} .