( كلا ! )في ردع وفي تحقير . . ( إنا خلقناهم مما يعلمون ) !
وهم يعلمون مم خلقوا ! من ذلك الماء المهين الذي يعرفون ! والتعبير القرآني المبدع يلمسهم هذه اللمسة الخفية العميقة في الوقت ذاته ؛ فيمسح بها كبرياءهم مسحا ، وينكس بها خيلاءهم تنكيسا ، دون لفظة واحدة نابية ، أو تعبير واحد جارح . بينما هذه الإِشارة العابرة تصور الهوان والزهادة والرخص أكمل تصوير ! فكيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع ? وهم مخلوقون مما يعلمون ! وهم أهون على الله من أن تكون لهم دالة عليه ، وخرق لسنته في الجزاء العادل باللظى وبالنعيم .
ذكر الواحدي في سبب نزول قوله تعالى : أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم .
قال : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ، يستمعون كلامه ، ولا ينتفعون به ، بل يكذّبون به ويستهزئون ، ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة ، لندخلنّها قبلهم ، وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
38 ، 39- أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم* كلاّ إنّا خلقناهم مما يعلمون .
تجاوز الكفار حدودهم حين قالوا : لئن دخل أتباع محمد الجنة ، وهم فقراء بسطاء ، لندخلنّها قبلهم ، فنحن أفضل منهم في الدنيا ، وسنكون أفضل منهم في الآخرة .
لقد خلقنا الناس جميعا من منيّ يمنى ، أي أن الله سوّى بين الناس جميعا في الخلق ، وترك لكل إنسان العقل والإرادة ليسك طريقة في الدنيا عن قصد وإرادة واختيار : فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيم هي المأوى* وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى . ( النازعات : 37- 41 ) .
وفي الحديث الشريف : ( الخلق كلهم عيال الله ، الله ربّهم وهم عباده ، يتفاضلون عنده بالتقوى ، ويدركون ثوابه بالعمل الصالح ) .
وقال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } ( الحجرات : 13 ) .
أيطمع هؤلاء الكفار –وحالتهم واضحة من الكفر والتكذيب لرسولي- أن يدخلوا الجنة ؟ كلا ، إن أعمالهم تقودهم إلى جهنم ، لقد خلقناهم مما يعلمون ، من نطفة مزرة ، ليعملوا ويطيعوا ، فتكبّروا وأعرضوا ، فصاروا أهلا للنار لا للجنة .
أخرج أحمد ، وابن ماجة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول الله تعالى : ابن آدم ، أنّى تعجزني وقد خلقتك من نطفة مزرة ، حتى إذا سوّيتك وعدّلتك مشيت بين بردين ، وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت التراقي أتى أوان الصدقة )xii .
{ كلا } لا يدخلونها . ثم ابتدأ فقال : { إنا خلقناهم مما يعلمون } أي : من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، نبه الناس على أنهم خلقوا من أصل واحد وإنما يتفاضلون ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أحمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا بن محمد بن فنجويه ، حدثنا موسى بن محمد بن علي ، حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا جرير ابن عثمان الرحبي ، عن عبد الرحمن بن ميسرة ، عن جبير بن نفير ، عن بشر ابن جحاش القرشي قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم وبصق يوماً في كفه ووضع عليها إصبعه فقال : يقول الله عز وجل : ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سويتك وعدلتك ، ومشيت بين بردين ، وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق ، وأنى أوان الصدقة " . وقيل : معناه إنا خلقناهم من أجل ما يعملون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب . وقيل : ما بمعنى من ، مجازه : إنا خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون لا كالبهائم .
ولما كان{[68484]} معنى الاستفهام الإنكاري المفيد للنفي : لا يدخل ، أكد ذلك مع إفهام الضجر والاستصغار بالإتيان بأم الزواجر والروادع فقال : { كلا } أي لا يكون ما طمعوا فيه أصلاً لأن ذلك تمن فارغ لا سبب له - بما دل عليه التعبير بالطمع دون الرجاء .
ولما كان الإنسان إذا أكثر من شيء وجعله ديدنه فساغ عندهم أن يقال : فلان خلق من كذا ، علل ذلك بقوله مؤكداً ، عدّاً لهم منكرين لأنهم مع علمهم بنقصانهم يدعون الكمال : { إنا } على ما لنا من العظمة { خلقناهم } بالعظمة التي لا يقدر أحد أن يقاويها فيصرف شيئاً{[68485]} من إرادته عن تلك الوجهة{[68486]} التي وجهته إليها إلى غيرها { مما يعلمون * } أي مما يستحي من ذكره ذاتاً ومعنى ، أما {[68487]}الذات فهو{[68488]} نطفة مذرة أخرجت من مخرج البول وغذيناها بدم الحيض ، فهي يتحلب منها البول والعذرة ، وأما المعنى فالهلع والجزع والمنع اللاتي هم موافقون على عدها نقائص ، فلا يصلحون لدار الكمال إلا بتزكية أنفسهم بما تقدم من هذه{[68489]} الخلال التي حض عليها الملك المتعال ، روى البغوي{[68490]} بسنده عن بشر بن جحاش{[68491]} رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وبصق يوماً في كفه ووضع عليها أصبعه فقال : " يقول الله عز وجل : ابن آدم ! أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين والأرض منك وئيد وجمعت ومنعت حتى إذا بلغت{[68492]} التراقي قلت : أتصدق ، وأنّى أوان الصدقة " " انتهى{[68493]} .