( وشاهد ومشهود ) . . في ذلك اليوم الذي تعرض فيه الأعمال ، وتعرض فيه الخلائق ، فتصبح كلها مشهودة ، ويصبح الجميع شاهدين . . ويعلم كل شيء . ويظهر مكشوفا لا يستره ساتر عن القلوب والعيون . .
وتلتقي السماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود . . تلتقي جميعا في إلقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يعرض فيه بعد ذلك حادث الأخدود . . كما توحي بالمجال الواسع الشامل الذي يوضع فيه هذا الحادث . وتوزن فيه حقيقته ويصفى فيه حسابه . . وهو أكبر من مجال الأرض ، وأبعد من مدى الحياة الدنيا وأجلها المحدود . .
والشاهد هم الملائكة الحفظة والكتبة ، الذين يشهدون على الإنسان ، والمشهود عليه هو الإنسان ، وقيل : الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته ، والمشهود عليه سائر الأمم .
وقيل : الشاهد كل رسول يشهد على أمّته أنه بلّغها رسالة السماء ، ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد أنه بلّغ أمّته ، والمشهود عليه هم أمم الرسل .
قال تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا . ( النساء : 41 ) .
وروي عن الحسن في تفسير قوله تعالى : وشاهد ومشهود . أنه قال : ما من يوم إلى وينادى : أنا يوم جديد ، وإني على ما يعمل فيّ شهيد ، فاغتنمني فلو غابت شمسي لم يدركني إلى يوم الوعيد .
وقيل : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة .
وقيل : الشاهد هو جوارح الإنسان ، والمشهود عليه هو ابن آدم .
وقيل : الشاهد هو الإنسان المشاهد ليوم القيامة وأهواله وعجائبه ، والمشهود هو أحوال اليقامة التي يشيب لها الولدان .
قال الصاوي في حاشيته على الجلالين :
والأحسن أن يراد ما هو أعمّ ، ولذلك نكّرهما ليعمّ كل شاهد ومشهود .
{ وشاهد ومشهود } من يحضر ذلك اليوم من الخلائق المبعوثين . وما يحضر فيه من الأهوال والعجائب ؛ من الشهادة بمعنى الحضور . أو من يشهد في ذلك اليوم على غيره ، ومن يشهد عليه فيه ؛ من الشهادة على الخصم ، أوله . أقسم الله بالسماء ذات البروج لما فيها من الدلالة على القدرة . وبيوم القيامة وما فيه تعظيما له ، وإرهابا لمنكريه .
{ وشاهد ومشهود } يحتمل الشاهد والمشهود أن يكون من الشهادة على الأمر ، أو يكون من معنى الحضور وحذف المعمول وتقديره مشهود عليه أو مشهود به أو مشهود فيه ، وقد اضطرب الناس في تفسير الشاهد والمشهود اضطرابا عظيما ويتلخص من أقوالهم في الشاهد ستة عشر قولا يقابلها في المشهود اثنان وثلاثون قولا .
الأول : أن الشاهد هو الله تعالى لقوله : { وكفى بالله شهيدا } [ النساء : 79 ] ؛ والمشهود على هذا يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون الخلق بمعنى أنه يشهد عليهم .
والآخر : أن تكون الأعمال بمعنى أنه يشهد بها .
والثالث : أن يكون يوم القيامة بمعنى أنه يشهد فيه ، أي : يحضر للحساب والجزاء أو تقع فيه الشهادة على الناس .
القول الثاني : أن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم لقوله : { ويكون الرسول عليكم شهيدا } [ البقرة : 143 ] والمشهود على هذا يحتمل أن يكون أمته لأنه يشهد عليهم ، أو أعمالهم لأنه يشهد بها ، أو يوم القيامة لأنه يشهد فيه أي : يحضر ، أو تقع فيه الشهادة على الأمة .
القول الثالث : أن الشاهد أمة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله : { لتكونوا شهداء على الناس } [ البقرة : 143 ] والمشهود على هذا سائر الأمم لأنهم يشهدون عليهم أو أعمالهم أو يوم القيامة . القول الرابع : أن الشاهد هو عيسى عليه السلام ، والمشهود أمته لقوله : { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } [ المائدة : 117 ] أو أعمالهم ، أو يوم القيامة .
القول الخامس : أن الشاهد جميع الأنبياء ، والمشهود أممهم لأن كل نبي يشهد على أمته ، أو يشهد القول بأعمالهم ، أو يوم القيامة لأنه يشهد فيه .
القول السادس : أن الشاهد الملائكة الحفظة ، والمشهود على هذا الناس ، لأن الملائكة يشهدون عليهم ، أو الأعمال لأن الملائكة يشهدون بها ، أو يوم القيامة أو صلاة الصبح لقوله : { إن قرآن الفجر كان مشهودا } [ الإسراء : 78 ] .
القول السابع : أن الشاهد جميع الناس ، لأنهم يشهدون يوم القيامة أي : يحضرونها ، والمشهود يوم القيامة : لقوله : { وذلك يوم مشهود } [ هود : 103 ] .
والقول الثامن : أن الشاهد الجوارح والمشهود عليه أصحابها لقوله : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم } [ النور : 24 ] أو الأعمال لأن الجوارح تشهد بها يوم القيامة لأن الشهادة تقع فيه .
القول التاسع : أن الشاهد الله والملائكة وأولوا العلم لقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [ آل عمران : 18 ] والمشهود به الوحدانية .
القول العاشر : الشاهد جميع المخلوقات والمشهود به وجود خالقها وإثبات صفاته من الحياة والقدرة وغير ذلك .
القول الحادي عشر : أن الشاهد النجم لما ورد في الحديث " لا صلاة بعد العصر حتى يطلع الشاهد وهو النجم " والمشهود على هذا الليل والنهار لأن النجم يشهد بانقضاء النهار ودخول الليل .
القول الثاني عشر : أن الشاهد الحجر الأسود والمشهود الناس الذين يحجون .
القول الثالث عشر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وذلك أن يوم الجمعة يشهد بالأعمال ويوم عرفة يشهده جمع عظيم من الناس .
القول الرابع عشر : أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر ، قاله علي بن أبي طالب .
القول الخامس عشر : أن الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة .
القول السادس عشر : أن الشاهد يوم الاثنين والمشهود يوم الجمعة .
ولما كان الجمع لأجل العرض ، وكان العرض لا بد فيه من شهود ومشهود عليهم وجدال على عهود ، قال منكّراً للإبهام للتعظيم والتعميم مثل { علمت نفس ما أحضرت } [ التكوير :14 ] : { وشاهد } أي كريم من الأولياء { ومشهود * } أي في نفسه من الأعيان والآثار الهائلة ، أو عليه فإنه يوم-{[72472]} تشهده جميع الخلائق ، ويحضر فيه من العجائب أمور يكل عنها الوصف ، ويحضره الأنبياء الشاهدون وأممهم المشهود عليهم ، ولا تبقى صغيرة من الأعمال ولا كبيرة إلاّ أحصيت ، وفي ذلك أشد وعيد لجميع العبيد .