( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . تنزيل من حكيم حميد ) . .
وأنى للباطل أن يدخل على هذا الكتاب . وهو صادر من الله الحق . يصدع بالحق . ويتصل بالحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض ?
وأنى يأتيه الباطل وهو عزيز . محفوظ بأمر الله الذي تكفل بحفظه فقال : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
والمتدبر لهذا القرآن يجد فيه ذلك الحق الذي نزل به ، والذي نزل ليقره . يجده في روحه ويجده في نصه . يجده في بساطة ويسر . حقاً مطمئناً فطرياً ، يخاطب أعماق الفطرة ، ويطبعها ويؤثر فيها التأثير العجيب .
وهو ( تنزيل من حكيم حميد ) . . والحكمة ظاهرة في بنائه ، وفي توجيهه ، وفي طريقة نزوله ، وفي علاجه للقلب البشري من أقصر طريق . والله الذي نزله خليق بالحمد . وفي القرآن ما يستجيش القلب لحمده الكثير .
كفروا بالذكر : كفروا بالقرآن ، والقرآن فيه ذكر لله ، وفيه ذكر للتشريع والأخبار السابقة واللاحقة ، وهو شرف ورفعة للعرب .
كتاب عزيز : كريم على الله ، لا تتأتى معارضته .
لا يأتيه الباطل من بين يديه : لا يأتيه الباطل من جميع جهاته .
حميد : محمود على أفضاله وأفعاله .
41-42 –{ إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } .
ما أعجب هذا القرآن ، اشتمل على الوحي والهداية وألوان البيان ، وأخبار الأمم السابقة ، وأخبار الرسل والأنبياء ، وأخبار القيامة والحساب والجزاء ، والجنة والنار ، ومع اشتماله على هذه المعاني الجميلة فقد كفر به كفار مكة ، وقابلوه بالإعراض والكنود والرفض ، وقد جاء إليهم وهم مرتاحون في بيوتهم ، يقدم لهم أفضل الطرق وأقومها .
قال تعالى : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا } . ( الإسراء : 9 ) .
وخبر إن محذوف تقديره : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم خاسرون ، أو هالكون ، حيث قابلوا هداية القرآن بالكفر والتكذيب .
مشتمل على أسباب العزة والمنعة ، لا تتأتّى معارضته ، ولا يأتيه الباطل من جميع جهاته : لغة ، وعقيدة ، وتشريعا ، قصصا ، وانسجاما ، وترتيلا ، فهو في هذا قمة لا ترام ولا تنال .
{ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . . . } .
لا يتطرق إليه الباطل ، أو ليس لأحد من أي جهة من جهاته ، أو جانب من جوانبه ، ولا يكذبه كتاب سابق قبله ، ولا لاحق بعده .
قال ابن كثير : أي : ليس للبطلان إليه سبيل ، لأنه منزل من رب العالمين . ا ه .
لقد تكفل الله بحفظه من الزيادة والنقصان ، ومن كل باطل أو بهتان .
قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } . ( الحجر : 9 ) .
أنزله إله بالغ الحكمة في أقواله وأفعاله ، سابغ النعم والفضل على عباده ، حيث أنزل عليهم آخر كتبه مشتملا على التشريع والهداية ، وألوان الأدب والقصص والتاريخ ، وسنن الله في الكون ، ومشاهد القيامة وما يتصل بها من بعث وحشر ، وحساب وجنة ونار ، وثواب وعقاب ، فلله الفضل والمنة ، والحمد والشكر ، فهو الحكيم حكمة مطلقة ، والمحمود على سائر نعمه ، وإنزال كتبه وهداية خلقه ، ولله تعالى الفضل والمنة .
" لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " أي لا يكذبه شيء مما أنزل الله من قبل ولا ينزل من بعده يبطله وينسخه . قاله الكلبي . وقال السدي وقتادة : " لا يأتيه الباطل " يعني الشيطان " من بين يديه ولا من خلفه " لا يستطيع أن يغير ولا يزيد ولا ينقص . وقال سعيد بن جبير : لا يأتيه التكذيب " من بين يديه ولا من خلفه " . ابن جريج : " لا يأتيه الباطل " فيما أخبر عما مضى ولا فيما أخبر عما يكون . وعن ابن عباس : " من بين يديه " من الله تعالى : " ولا من خلفه " يريد من جبريل صلى الله عليه وسلم ، ولا من محمد صلى الله عليه وسلم . " تنزيل من حكيم حميد " ابن عباس : " حكيم " في خلقه " حميد " إليهم . قتادة : " حكيم " في أمره " حميد " إلى خلقه .
ولما كان من معاني العزة أنه ممتنع بمتانة رصفه وجزالة نظمه وجلالة معانيه من أن يلحقه تغيير ما ، بين ذلك بقوله : { لا يأتيه الباطل } أي البين البطلان إتيان غلبة فيصير أو شيء منه باطلاً بيّنا ، ولما كان المراد تعميم النفي ، لا نفي العموم ، أدخل الجار فقال : { من بين يديه } أي من جهة الظاهر مثل ما أمر أخبر به عما كان قبله { ولا من خلفه } من جهة العلم الباطن مثل علم ما لم يشتهر من الكائن والآتي سواء كان حكماً أو خبراً لأنه في غاية الحقية والصدق ، والحاصل أنه لا يأتيه من جهة من الجهات ، لأن ما قدام اوضح ما يكون ، وما خلف أخفى ما يكون ، فما بين ذلك من باب الأولى ، فالعبارة كناية عن ذلك لأن صفة الله لا وراء لها ولا أمام على الحقيقة ، ومثل ذلك ليس وراء الله مرمى ، ولا دون الله منتهى ، ونحوه مما تفهم العرب ومن علم لسانها المراد به دون لبس ، ثم علل ذلك بقوله : { تنزيل } أي بحسب التدريج لأجل المصالح { من حكيم } بالغ الحكمة فهو يضع كل شيء منه في أتم محاله في وقت النزول وسياق النظم { حميد * } أي بالغ الإحاطة بأوصاف الكمال من الحكمة وغيرها والتنزه والتطهر والتقدس عن كل شائبة نقص ، يحمده كل خلق بلسان حاله إن لم يحمده بلسان قاله ، بما ظهر عليه من نقصه أو كماله ، والخبر محذوف تقديره : خاسرون لا محالة لأنهم لا يقدرون على شيء مما يوجهونه إليه من الطعن لأنهم عجزة ضعفاء صغرة كما قال المعري :