وأمام هذا التطاول الوقح ، بعد الطغيان البشع ، تحركت القوة الكبرى :
( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ) . .
ويقدم هنا نكال الآخرة على نكال الأولى . . لأنه أشد وأبقى . فهو النكال الحقيقي الذي يأخذ الطغاة والعصاة بشدته وبخلوده . . ولأنه الأنسب في هذا السياق الذي يتحدث عن الآخرة ويجعلها موضوعه الرئيسي . . ولأنه يتسق لفظيا مع الإيقاع الموسيقي في القافية بعد اتساقه معنويا مع الموضوع الرئيسي ، ومع الحقيقة الأصيلة .
ونكال الأولى كان عنيفا قاسيا . فكيف بنكال الآخرة وهو أشد وأنكى ? وفرعون كان ذا قوة وسلطان
ومجد موروث عريق ؛ فكيف بغيره من المكذبين ? وكيف بهؤلاء الذين يواجهون الدعوة من المشركين ?
{ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } قال الحسن وقتادة : عاقبه الله فجعله نكال الآخرة والأولى ، أي في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالنار . وقال مجاهد وجماعة من المفسرين : أراد بالآخرة والأولى كلمتي فرعون قوله : { ما علمت لكم من إله غيري }( القصص- 38 ) ، وقوله : { أنا ربكم الأعلى } وكان بينهما أربعون سنة .
" فأخذه الله نكال الآخرة والأولى " أي نكال قوله : " ما علمت لكم من إله غيري " [ القصص : 38 ] وقوله بعد : " أنا ربكم الأعلى " [ النازعات : 24 ] قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة . وكان بين الكلمتين أربعون سنة ، قاله ابن عباس . والمعنى : أمهله في الأولى ، ثم أخذه في الآخرة ، فعذبه بكلمتيه . وقيل : نكال الأولى : هو أن أغرقه ، ونكال الآخرة : العذاب في الآخرة . وقال قتادة وغيره . وقال مجاهد : هو عذاب أول عمره وأخره . وقيل : الآخرة قوله " أنا ربكم الأعلى " والأولى تكذيبه لموسى . عن قتادة أيضا . و " نكال " منصوب على المصدر المؤكد في قول الزجاج ؛ لأن معنى أخذه الله : نكل الله به ، فأخرج [ نكال ]{[15782]} مكان مصدر من معناه ، لا من لفظه . وقيل : نصب بنزع حرف الصفة . أي فأخذه الله بنكال الآخرة ، فلما نزع الخافض نصب . وقال الفراء : أي أخذه الله أخذا نكالا ، أي للنكال . والنكال : اسم لما جعل نكالا للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به . يقال : نكل فلان بفلان : إذا أثخنه عقوبة . والكلمة من الامتناع ، ومنه النكول عن اليمين ، والنكل القيد . وقد مضى في سورة " المزمل " {[15783]} والحمد لله .
ولما أخبر سبحانه عنه بهذه الكلمة الشنعاء القادحة في الملك ، وكان الملوك لا يحتملون ذلك بوجه ، سبب عنها وعقب قوله : { فأخذه الله } أي الملك الذي لا كفوء له ولا أمر لأحد معه أخذ قهر وذل منكلاً به مخذلاً له{[71461]} : { نكال الآخرة } فهو مصدر من المعنى ، أي أخذ تنكيل{[71462]} فيها يكون مثلاً يتقيد به ويتعظ كل من سمعه عن مثل حال فرعون ، وقدمها اهتماماً بشأنها{[71463]} وإشارة إلى أن-{[71464]} عظمة عذابها أعظم ولا يذوقه الإنسان إلا بكشف غطاء الدنيا بالموت ، وتنبيهاً على أن المنع من مثل هذه الدعوى للصدق بها أمكن ، وليس ذلك للفاصلة لأنه لو قيل : " الأخرى " لوافقت { والأولى * } أي ونكال{[71465]} الدنيا الذي هو قبل الآخرة{[71466]} فإن من سمع قصة غرقه ومجموع ما اتفق له كان له-{[71467]} ذلك نكالاً مانعاً من عمل مثله أو أقل منه ، قال الضحاك{[71468]} : أما في الدنيا فأغرقه الله تعالى وألقاه{[71469]} بنجوة من الأرض ، وأما في العقبى فيدخله الله تعالى النار و-{[71470]} يجعله ظاهراً على تل منها مغلولاً مقيداً ينادي عليه هذا الذي ادعى الربوبية دون الله انتهى . وأنا لا أشك أن الحلاج وابن عربي وابن الفارض ، وأتباعهم-{[71471]} يكونون في النار تحتهم وتحت آله يشربون عصارتهم ، فإنهم{[71472]} ادعوا{[71473]} أنه ناج وصدقوه فيما ادعاه{[71474]} وادعوا لأنفسهم وغيرهم مثل-{[71475]} ما ادعاه تكذيباً للقرآن وإغراقاً في العدوان ، وزادوا عليه بابتذال الاسم الأعظم الذي حماه الله من أن يدعيه أحد{[71476]} قبل إرسال النبي صلى الله عليه وسلم فادعوا{[71477]} أنه يطلق عليهم وعلى كل أحد بل كل{[71478]} شيء ، وأمارة هذه الطائفة الخبيثة التي لا تتخلف أن تقول لأحدهم{[71479]} : العن فرعون الذي أجمع على لعنه{[71480]} جميع الطوائف .
وهو مثل عندهم في الشرارة{[71481]} والخبث فلا يلعنه ، وإن لعنه فبعد توقف .