سورة الذاريات مكية وآياتها ستون
هذه السورة ذات جو خاص . فهي تبدأ بذكر قوى أربعة . . من أمر الله . . في لفظ مبهم الدلالة ، يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر . يقسم الله - تعالى - على أمر : والذاريات ذروا ، فالحاملات وقرا ، فالجاريات يسرا ، فالمقسمات أمرا . إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع . .
والذاريات . والحاملات . والجاريات . والمقسمات . . مدلولاتها ليست متعارفة ، وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار ، كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل . ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة .
وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماء : ( والسماء ذات الحبك ) . . يقسم بها الله تعالى . على أمر : ( إنكم لفي قول مختلف ) . . لا استقرار له ولا تناسق فيه ، قائم على التخرصات والظنون ، لا على العلم واليقين . .
هذه السورة : بافتتاحها على هذا النحو ، ثم بسياقها كله ، تستهدف أمرا واضحا في سياقها كله . . ربط القلب البشري بالسماء ؛ وتعليقه بغيب الله المكنون ؛ وتخليصه من أوهاق الأرض ، وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله ، والانطلاق إليه جملة ، والفرار إليه كلية ، استجابة لقوله في السورة : ( ففروا إلى الله ) . . وتحقيقا لإرادته في عباده : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . .
ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره ، وتطمين النفس من جهته ، وتعليق القلب بالسماء في شأنه ، لا بالأرض وأسبابها القريبة . وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها . إما مباشرة كقوله تعالى : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) . . ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . . وإما تعريضا كقوله يصور حال عباده المتقين مع المال : ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) . . ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه القلائل - أو من حسبهم ضيوفه من الملائكة - بعجل سمين ، يسارع به إليهم عقب وفودهم إليه ، وبمجرد إلقاء السلام عليه ، وهو لم يعرفهم إلا منذ لحظة !
فتخليص القلب من أوهاق الأرض ، وإطلاقه من إسار الرزق ، وتعليقه بالسماء ، ترف أشواقه حولها ، ويتطلع إلى خالقها في علاه ، بلا عائق يحول بينه وبين الانطلاق ، ويعوقه عن الفرار إلى الله . هو محور السورة بكل موضوعاتها وقضاياها التي تطرقها . ومن ثم كان هذا الاقتتاح ، وكان ذلك الإيقاع الغامض في أولها ، وكان القسم بعده بالسماء ، وكان تكرار الإشارة إلى السماء أيضا . .
وفي هذا كانت صورة المتقين التي يرسمها في مطلع السورة : ( إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) . . فهي صورة التطلع إلى الله ، والتجرد له ، والقيام في عبادته بالليل ، والتوجه إليه في الأسحار . مع إرخاص المال ، والتخلص من ضغطه ، وجعل نصيب السائل والمحروم حقا فيه .
وفي هذا كان التوجيه إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس مع تعليق القلوب بالسماء في شأن الرزق ، لا بالأرض وما فيها من أسبابه القريبة : ( وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وفي السماء رزقكم وما توعدون ) . .
وفي هذا كانت الإشارة إلى بناء الله للسماء على سعة ، وتمهيده للأرض في يسر ، وخلقه ما فيها من أزواج ، والتعقيب على هذا كله بالفرار إلى الله : ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون . والأرض فرشناها فنعم الماهدون . ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون . ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ) . .
وفي هذا كان الإيقاع الأخير البارز في السورة ، عن إرادة الله سبحانه في خلق الجن والإنس ، ووظيفتهما الرئيسية الأولى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . .
فهو إيقاع واحد مطرد . ذو نغمات متعددة . ولكنها كلها تؤلف ذلك الإيقاع ، وتطلق ذلك الحداء . الحداء بالقلب البشري إلى السماء !
وقد وردت إشارات سريعة إلى حلقة من قصة إبراهيم ولوط ، وقصة موسى ، وقصة عاد ، وقصة ثمود ، وقصة قوم نوح . وفي الإشارة إلى قصة إبراهيم تلك اللمحة عن المال ؛ كما أن فيها لمحة عن الغيب المكنون في تبشيره بغلام عليم ، ورزقه هو وامرأته به على غير ما توقع ولا انتظار . وفي بقية القصص إشارة إلى تصديق وعد الله الذي أقسم عليه في أول السورة : ( إنما توعدون لصادق )والذي أشار إليه في ختامها إنذارا للمشركين : ( فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون ) . . بعد ما ذكر أن أجيال المكذبين كأنما تواصت على التكذيب : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا : ساحر أو مجنون . أتواصوا به ? بل هم قوم طاغون ! ) . .
فالقصص في السورة - على هذا النحو - مرتبط بموضوعها الأصيل . وهو تجريد القلب لعبادة الله ، وتخليصه من جميع العوائق ، ووصله بالسماء . بالإيمان أولا واليقين . ثم برفع الحواجز والشواغل دون الرفرفة والانطلاق إلى ذلك الأفق الكريم .
( الذاريات ذروا ، فالحاملات وقرا ، فالجاريات يسرا ، فالمقسمات أمرا . . إن ما توعدون لصادق ، وإن الدين لواقع . . )
هذه الإيقاعات القصيرة السريعة ، بتلك العبارات الغامضة الدلالة ، تلقي في الحس - كما تقدم - إيحاء خاصا ، وتلقي ظلا معينا ، يعلق القلب بأمر ذي بال ، وشأن يستحق الانتباه . وقد احتاج غير واحد في العهد الأول أن يستفسر عن مدلول الذاريات ، والحاملات ، والجاريات ، والمقسمات . .
قال ابن كثير في التفسير : قال شعبة بن الحجاج ، عن سماك بن خالد بن عرعرة ، أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وشعبة أيضا عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي الطفيل ، أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وثبت أيضا من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه صعد منبر الكوفة فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلا أنبأتكم بذلك . فقام ابن الكواء ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى : ( والذاريات ذروا )? قال علي - رضي الله عنه : الريح . قال : ( فالحاملات وقرا )? قال - رضي الله عنه - : السحاب . قال : ( فالجاريات يسرا )? قال - رضي الله عنه - : السفن . قال : ( فالمقسمات أمرا )? قال - رضي الله عنه - : الملائكة .
وجاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فسأله عنها فأجابه بمثل ما روي عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وقد أحس عمر - رضي الله عنه - أنه يسأل عنها تعنتا وعنادا فعاقبه ومنعه من مجالسة الناس حتى تاب وحلف بالأيمان المغلظة : ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا . . وهذه الرواية تشي كذلك بأن غموض مدلولات هذه التعبيرات هو الذي جعل المتعنتين يستترون وراءها ويسألون عنها !
وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد ؛ ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك [ كما قال ابن كثير .
أقسم الله - سبحانه - بالرياح التي تذرو ما تذروه من غبار وحبوب لقاح وسحب وغيرها مما يعلم الإنسان وما يجهل . وبالسحاب الحاملات وقرا من الماء يسوقها الله به إلى حيث يشاء . وبالسفن الجاريات في يسر على سطح الماء بقدرته وبما أودع الماء وأودع السفن وأودع الكون كله من خصائص تسمح بهذا الجريان اليسير . ثم بالملائكة المقسمات أمرا ، تحمل أوامر الله وتوزعها وفق مشيئته ، فتفصل في الشؤون المختصة بها ، وتقسم الأمور في الكون بحسبها .
والريح والسحاب والسفن والملائكة خلق من خلق الله ، يتخذها أداة لقدرته ، وستارا لمشيئته ، ويتحقق عن طريقها قدر الله في كونه وفي عباده . وهو يقسم بها - سبحانه - للتعظيم من شأنها ، وتوجيه القلوب إليها ، لتدبر ما وراءها من دلالة ؛ ولرؤية يد الله وهي تنشئها وتصرفها وتحقق بها قدر الله المرسوم . وذكرها على هذه الصورة بصفة خاصة يوجه القلب إلى أسرارها المكنونة ؛ ويعلقه بمبدع هذه الخلائق من وراء ذكرها هذا الذكر الموحي .
ثم لعل لها كذلك صلة من ناحية أخرى بموضوع الرزق ، الذي يعني سياق هذه السورة بتحرير القلب من أوهاقه ، وإعفائه من أثقاله . فالرياح والسحب والسفن ظاهرة الصلة بالرزق ووسائله وأسبابه . أما الملائكة وتقسيمها للأمر ، فإن الرزق أحد هذه القسم . ومن ثم تتضح الصلة بين هذا الافتتاح وموضوع بارز تعالجه السورة في مواضع شتى .
سورة مكية ، وآياتها 60 آية ، نزلت بعد سورة الأحقاف .
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ( 1 ) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ( 2 ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( 3 ) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ( 4 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( 5 ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( 6 ) } . ( الذاريات : 1- 6 ) .
وهي كلمات غير مطروقة وغير متداولة ، وقد سئل الإمام علي رضي الله عنه ، عن معنى قوله تعالى : { والذاريات ذروا } . فقال رضي الله عنه : هي الريح ، فسئل عن : { فالحاملات وقرا } . فقال : هي السحاب ، فسئل عن : { فالجاريات يسرا } . فقال : هي السفن ، فسئل عن : { فالمقسمات أمرا } . فقال : هي الملائكة .
{ والذاريات ذروا } . هي الريح التي تذرو التراب وغيره ، { فالحاملات وقرا } . أي : السحب الحاملة للمطر ،
والوقر : الحمل الثقيل ، { فالجاريات يسرا } . أي : السفن الجارية في البحر جريا سهلا ، { فالمقسمات أمرا } . أي : الملائكة التي تقسم وتوزع أمور الله من الأمطار والأرزاق وغيرها .
لقد أقسم الله بالريح وبالسحب وبالسفن وبالملائكة ، وفي هذا القسم ما يوحي بأن الرزق بيد الله ، فهو الذي يسوق السحاب ، وهو الذي يسخر الريح للسفن ، وهو الذي جعل الملائكة أصنافا تقسم الأمور ، فالخلق البديع المنظم وراءه قوة عليا مبدعة ، وهو سبحانه قد وعد الناس أن يجازيهم بالإحسان إحسانا ، وبالسوء سوءا ، ووعده واقع لا محالة .
{ والسماء ذات الحبك } . ( الذاريات : 7 ) . الحبك بضمتين : جمع حبيكة ، وهي الطريق ومدار الكواكب ، والمراد الطرائق التي هي مسير الأجرام السماوية من نجوم وكواكب ، يقسم الله بالسماء المتسقة المحكمة الترتيب ، بما فيها من نجوم وكواكب تسلك طريقها مسرعة في مجراتها العظيمة بنظام دقيق وإبداع شامل ، على أن المشركين يخوضون في حديث باطل وقول متناقض مضطرب ، فصنع الله محكم ، وعمل الكافرين باطل مضطرب فتراهم حينا يقولون عن النبي : إنه شاعر ، وتارة يقولون : ساحر ، ومرة ثالثة يقولون : مجنون ، وهذا دليل على التخبط وفساد الرأي .
وقد رسمت السورة صورة الكافرين يذوقون عذاب جهنم ، ويقال لهم : { ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون } . ( الذاريات : 14 ) .
أي : تعرضوا لعذاب النار ، وقد كنتم تستعجلون مجيئه استهزاء بأمره واستبعادا لوقوعه .
وعلى الضفة الأخرى ، وفي الصفحة المقابل ، يرتسم مشهد آخر لفريق آخر ، فريق مستيقن بالآخرة ، مستيقظ للعمل الصالح ، فريق المتقين الذين أدوا حقوق الله بالصلاة وقيام الليل ، وأدوا حقوق الناس بالزكاة والصدقة .
تشير الآية العشرون إلى آثار قدرة الله في خلق الأرض ، فيقول سبحانه : { وفي الأرض آيات للموقنين } . ( الذاريات : 20 ) . وإذا تأملنا مضمون هذه الآية وجدنا أن هذا الكوكب الذي نعيش عليه معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته ، هذه الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته ، ولو اختلت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جدا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها . . ولو تغير حجمها صغرا أو كبرا ، لو تغير وضعها من الشمس قربا أو بعدا ، لو تغير حجم الشمس ودرجة حرارتها ، لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا ، لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطئا ، لو تغير حجم القمر أو بعده عنها ، لو تغيرت نسبة الماء إلى اليابس فيها زيادة أو نقصا . . لو . . لو . . لو ، إلى آلاف الموافقات العجيبة المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته ، أليست هذه آية أو آيات معروفة في هذا المعرض الإلهي ؟ .
( وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها ، حيثما امتد الطرف ، وحيثما تنقلت القدم ، وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفذ : من واد وجبل ، ووهاد وبطاح ، وبحار وبحيرات ، وأنهار وغدران ، وقطع متجاورات ، وجنات وأعناب ، وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان . . وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير )1 .
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون } . ( الذاريات : 21 ) .
خلق الله الإنسان بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وشق له السمع والبصر ، وزوده بالحواس المتعددة ووسائل الإدراك المختلفة .
( وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى بأسرار تدهش وتحير ، تكوين أعضائه وتوزيعها ، وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف ، عملية الهضم والامتصاص ، عملية التنفس والاحتراق ، دورة الدم في القلب والعروق ، الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم ، الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد وانتظامه ، تناسق هذه الأجهزة كلها وتعاونها وتجاوبها الكامل الدقيق ، وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب ، وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحير الألباب )2 .
{ وفي السماء رزقكم وما توعدون } . ( الذاريات : 22 ) .
فبيد الله الخلق والرزق والهدى والضلال ، وأرزاق السماء تشمل الأرزاق المادية والمعنوية .
( وفي السماء أسباب أقواتكم ، فالظواهر الفلكية ، وجريان الشموس والكواكب وتوابعها ، واختلاف الليل والنهار ، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وبث فيها من كل دابة ، وتصريف الرياح ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض ، كل هذه الظواهر ذللها الله لخدمة الإنسان ، فليس الرزق موقوفا على شيء يتعلق بالأرض وحدها ، بل الأمر كله لله تعالى ، يقبض ويبسط ، وإليه المآب )3 .
ثم يعقب الله بالقسم : بحق رب الأرض والسماء إن هذا الأمر لحق مثل نطقكم ، بل تشكون في أنكم تنطقون ؟
يشتمل القطاع الثاني من سورة ( الذاريات ) على الإشارة إلى قصص إبراهيم ولوط وموسى ، وعاد قوم هود ، وثمود قوم صالح ، ثم آية واحدة عن قوم نوح ، وهذا القصص مرتبط بما قبله ، ومرتبط بما بعده في سياق السورة .
وإبراهيم أبو البشر اتخذه الله خليلا ، وأرسل إليه ملائكة مكرمين ، فأكرم الخليل وفادتهم ، وقرب لهم عجلا سمينا ودعاهم للأكل منه ، ولكنهم أمسكوا عن الطعام ، فخاف منهم إبراهيم فلما شاهدوا خوفه أخبروه بأنهم ملائكة من السماء أرسلهم الله إليه ، ثم بشروه بغلام حليم .
وأقبلت زوجته ، وقد استولى عليها هول المفاجأة ، فضربت وجهها بأطراف أصابعها ، وصاحت متعجبة من الحمل وهي عجوز عقيم ، فأخبرتها الملائكة بأنه لا وجه للعجب فذلك أمر الله ، وهو الحكيم في أعماله ، العليم بعباده .
واتجهت الملائكة بعد ذلك إلى لوط عليه السلام ، فلما رآهم لوط أنكرهم وضاق بهم ذرعا ، فقالت له الملائكة : يا لوط ، إنا رسل ربك ، جئنا لإنقاذك ومن معك من المؤمنين ، فأرسل بأهلك في ظلام الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فقد حقت عليها كلمة العذاب مثل هؤلاء الظالمين .
ولم تجد الملائكة في قرى قوم لوط غير أهل بيت واحد من المسلمين هو لوط وابنتاه .
ولما خرج لوط وابنتاه ، جعل الله ديارهم عاليها سافلها ، وساق إليهم عاصفة رعدية أمطرتهم بحجارة مسمومة ، استأصلت شأفتهم وتركتهم أثرا بعد عين ، وجعلهم الله عظة وعبرة للمعتبرين .
أشارت الآيات ( 38- 46 ) إلى العبرة والعظة من قصة موسى ، ومن قصص غيره من الأنبياء في لمحة عاجلة .
لقد أرسل الله موسى -ومعه سلطان الهيبة وجلال النبوة- إلى فرعون وملئه ، فأعرض فرعون عن موسى واتهمه بالسحر والجنون ، فأغرق الله فرعون وجنده في البحر ، وألبسه ثوب الخزي والندم .
وآية أخرى في عاد قوم نبي الله هود ، حين كذبوا نبيهم فأرسل الله عليهم ريحا عاتية تحمل العذاب والدمار .
وآية ثالثة في ثمود ، أمهلهم الله ثلاثة أيام ، ثم أرسل عليهم صاعقة فأصبحوا هالكين .
والحجارة التي أرسلت على قوم لوط ، والريح التي أرسلت على عاد ، والصاعقة التي أرسلت على ثمود ، كلها قوى كونية مدبرة بأمر الله ، مسخرة بمشيئته ونواميسه ، يسلطها على من يشاء في إطار تلك النواميس ، فتؤدي دورها الذي يكلفها الله كأي جند من جند الله .
آية رابعة في قوم نوح ، فقد أهلكوا وأغرقوا لفسوقهم وكفرهم وخروجهم على طاعة الله .
وللتنبيه إلى بدائع صنعه إيقاظا للعاطفة الدينية ، عاد فذكر أنه رفع السماء ووسعها ، وخلق الأرض ومهدها ، وأعدها لما عليها من الكائنات ، ومن كل شيء في هذه الأرض خلقنا ذكرا وأنثى ليكون ذلك وسيلة للعظة والاعتبار .
ثم يحث القرآن الناس على أن يتخلصوا من آثار المادة والهوى والشيطان ، فرارا بدينهم ، وطمعا في رحمة خالقهم ، ورغبة في حماه وفضله : { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } . ( الذاريات : 50 ) .
وتكشف الآيات عن طبيعة المعاندين في جميع العصور ، فقد كذبوا الرسل واتهموهم بالجنون أو بالسحر كأنما وصى السابق منهم اللاحق ، وكأن الكفر في طبيعته ملة واحدة ، والرسالات كلها فكرة واحدة ، فمن كذب برسول واحد فكأنما كذب برسل الله أجمعين .
{ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون } .
هذه السورة تربط القلب البشري بالله ، وترشده إلى عظيم صنعه ، وفي ختام السورة يؤكد الله هذا المعنى فيبين أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعرفوه ويوحدوه ويؤمنوا به ، فهو سبحانه وتعالى غني بذاته ، وهم في حاجة وافتقار إليه .
إن معنى العبادة هي الخلافة في الأرض ، وهي غاية الوجود الإنساني ، وهي أوسع وأشمل من مجرد الشعائر ، وتتمثل حقيقة العبادة في أمرين رئيسيين :
الأول : هو استقرار معنى العبودية لله في النفس ، أي استقرار الشعور بأنه ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود ، وإلا رب واحد والكل له عبيد .
والثاني : هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير ، وكل حركة في الجوارح ، وكل حركة في الحياة .
بهذا وذاك يتحقق معنى العبادة ، ويصبح العمل كالشعائر ، والشعائر كعمارة الأرض ، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله ، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضا بقدر الله ، كلها عبادة ، وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها ، وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه .
والمؤمن الحق هو الحريص على أداء واجباته ومرضاة ربه ، وهو لا يعني نفسه بأداء الواجبات تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء ، أما الغايات فموكولة لله يأتي بها وفق قدره الذي يريده .
إن الله تعالى لم يخلق الجن والإنس ليستعين بهم لجلب منفعة لذاته أو لدفع مضرة ، وما يريد الله منهم أن يرزقوا أحدا من خلقه أو يطعموه ، إن الله سبحانه وتعالى هو الكفيل برزقهم ، والمتفضل عليهم بما يقوم بمعيشتهم ، وهو سبحانه ذو القدرة والقوة ، وهو الغالب على أمره فلا يعجزه شيء .
وفي ضوء هذه الحقيقة ينذر الذين ظلموا فلم يؤمنوا بأن لهم نصيبا من العذاب مثل نصيب من سبقهم من الظالمين ، فالله يمهل ولا يهمل ، وتختتم السورة بهذا الإنذار الأخير : { فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون * فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون } . ( الذاريات : 59 ، 60 ) .
معظم مقصود سورة الذاريات ما يأتي : القسم بأن البعث والقيامة حق ، والإشارة إلى عذاب أهل الضلالة ، وثواب أرباب الهداية ، وحجة الوحدانية ، وكرامة إبراهيم في باب الضيافة ، وهلاك قوم لوط وفرعون وقومه لمخالفتهم أمر الله ، وتدمير عاد وثمود وقوم نوح وخسرانهم ، وخلق السماوات والأرض للنفع والإفادة ، وزوجية المخلوقات للدلالة على قدرة الخالق ، وتخليق الخلق لأجل العبادة ، واستحقاق المنكرين للعذاب والعقوبة4 .
الذاريات : الرياح تذرو التراب وغيره ، أي : تفرقه .
1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 5 ، 6 – { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ( 1 ) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ( 2 ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( 3 ) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ( 4 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( 5 ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( 6 ) } .
هذا القسم يأخذ بالألباب ، في رشاقة ويسر وتناسق ، وقد ثبت من غير وجه عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب ، أنه صعد منبر الكوفة ، فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله ، ولا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنبأتكم بذلك ، فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى :
سورة الذاريات مكية وآياتها ستون ، نزلت بعد سورة الأحقاف . وموضوعها كموضوع السور المكية : أصول العقيدة والاعتقاد بوحدانية الله ، وأنه هو الخالق الرازق ، المحيي والمميت ، والمتصرف في الكون بما يشاء .
وتبدأ السورة بالقسَم بأربعة أشياء هي : الرياح ، والسحب ، والسفن ، والملائكة ، على صِدق البعث ووقوع الجزاء . ثم تردف بقسم آخر على اضطراب المنكرين فيما يقولونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن القرآن الكريم . فيُقسم تعالى بالسماء ذات الحُبُك المنسّقة المحكمة البناء والتركيب- كتنسيق الزرَد المتشابك المتداخل الحلقات- على اضطراب أقوالهم ، وأنهم يعيشون في أوهام وظنون في أمر البعث .
ثم تنتقل السورة إلى إنذار المنكرين بسوء مآلهم في الآخرة ، وتصوير ما أعد الله للمتقين فيها جزاء ما قدّموا من أعمال صالحة في الدنيا .
ثم توجه الأنظار إلى التأمل في آيات الله في هذا الكون الكبير العجيب ، وفي الأنفس وما فيها من عجائب الصنع ولطائف الخلق ، وأن الرزق مؤمّن للجميع ، { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } لا شك في ذلك ولا ريب .
ثم تحدثت عن قصة إبراهيم مع ضيوفه من الملائكة الذين بعثهم الله لإهلاك المكذبين من قوم لوط ، وبشروا إبراهيم بغلام عليم من زوجته التي كانت عقيما . ثم تعرض السورة لأحوال بعض الأمم وما أصابهم من الهلاك بتكذيبهم لأنبيائهم ، مثل قوم نوح وعاد وفرعون وثمود . وتشير بعد ذلك بإجمال إلى بعض الآيات الكونية لتحث الناس على الرجوع إلى الله ، وإفراده بالعبادة ، وتخاطب الرسول الكريم { فتولّ عنهم ما أنت بمَلوم ، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } . وفي هذا تسلية للرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه . وفي الختام تذكر السورة الغاية من خلق الجن والإنس ، وهي العبادة ، وأن الله غني عنهم جميعا { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يُطعمون } . ثم يجيء الإنذار للمكذبين { فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون } .
الذاريات : الرياح تذرو الترابَ وغيره ، وهي تحمل معها الحياة لأنها تسوق السحاب ، كما تحمل الدمار أحيانا .
أقسَم الله تعالى بهذه الأشياء : بالرياح المثيراتِ للتراب وغيره .
قوله تعالى : " والذاريات ذروا " قال أبو بكر الأنباري : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن ، عن يزيد بن خصيفة ، عن السائب بن يزيد أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه : إني مررت برجل{[14196]} يسأل عن تفسير مشكل القرآن ، فقال عمر : اللهم أمكني منه ، فدخل الرجل على عمر يوما وهو لا بس ثيابا وعمامة وعمر يقرأ القرآن ، فلما فرغ قام إليه الرجل فقال : يا أمير المؤمنين ما " الذاريات ذروا " فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده ، ثم قال : ألبسوه ثيابه واحملوه على قَتَب وأبلغوا به حيه ، ثم ليقم خطيبا فليقل : إن صَبِيغا{[14197]} طلب العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم . وعن عامر بن واثلة أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ما " الذاريات ذروا " قال : ويلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا " والذاريات ذروا " الرياح " فالحاملات وقرا " السحاب " فالجاريات يسرا " السفن " فالمقسمات أمرا " الملائكة . وروى الحرث عن علي رضي الله عنه " والذاريات ذروا " قال : الرياح " فالحاملات وقرا " قال : السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر " فالجاريات يسرا " قال : السفن موقرة " فالمقسمات أمرا " قال : الملائكة تأتي بأمر مختلف ، جبريل بالغلظة ، وميكائيل صاحب الرحمة ، وملك الموت يأتي بالموت . وقال الفراء : وقيل تأتي بأمر مختلف من الخصب والجدب والمطر والموت والحوادث{[14198]} . ويقال : ذرت الريح التراب تذروه ذروا وتذرية ذريا . ثم قيل : " والذاريات " وما بعده أقسام ، وإذا أقسم الرب بشيء أثبت له شرفا . وقيل : المعنى ورب الذاريات ، والجواب " إنما توعدون " أي الذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب " لصادق " لا كذب فيه ، ومعنى " لصادق " لصدق ، وقع الاسم موقع المصدر . " وإن الدين لواقع " يعني الجزاء نازل{[14199]} بكم . ثم ابتدأ قسما آخر فقال : " والسماء ذات الحبك . إنكم لفي قول مختلف " [ الذاريات : 7 ] وقيل إن الذاريات النساء الولودات ؛ لأن في ذرايتهن ذرو الخلق ؛ لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات ، وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين . وخص النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذاريا لأمرين : أحدهما : لأنهن أوعية دون الرجال ، فلاجتماع الذّروين فيهن خصصن بالذِّكر . الثاني : أن الذّرو فيهن أطول زمانا ، وهن بالمباشرة أقرب عهدا . " فالحاملات وقرا " السحاب . وقيل : الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل . والوقر بكسر الواو ثقل الحمل على ظهر أو في بطن ، يقال : جاء يحمل وقره وقد أوقر بعيره . وأكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار ، والوسق في حمل البعير . وهذه امرأة موقرة بفتح القاف إذا حملت حملا ثقيلا . وأوقرت النخلة كثر حملها ، يقال : نخلة موقرة وموقر وموقرة ، وحكي موقر وهو على غير القياس ؛ لأن الفعل للنخلة . وإنما قيل : موقر بكسر القاف على قياس{[14200]} قولك امرأة حامل ؛ لأن حمل الشجر مشبه بحمل النساء ، فأما موقر بالفتح فشاذ ، وقد روي في قول لبيد يصف نخيلا :
عَصَبٌ كَوَارِعُ في خليجٍ مُحَلَّمٍ *** حَمَلَتْ فمنها مُوقَرٌ مَكْمُومُ
والجمع مواقر . فأما الوقر بالفتح فهو ثقل الأذن ، وقد وقرت أذنه توقر وقرا أي صمت ، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين وقد تقدم في " الأنعام{[14201]} " القول فيه . " فالجاريات يسرا " السفن تجري بالرياح يسرا إلى حيث سيرت . وقيل : السحاب ، وفي جريها يسرا على هذا القول وجهان : أحدهما : إلى حيث يسيرها الله تعالى من البلاد والبقاع . الثاني : هو سهولة تسييرها ، وذلك معروف عند العرب ، كما قال الأعشى :
كأن مِشْيَتَها من بيت جارتها *** مشيُ السحابة لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ