( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو . وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ، ولا يسألكم أموالكم ) . .
والحياة الدنيا لعب ولهو حين لا يكون وراءها غاية أكرم وأبقى . حين تعاش لذاتها مقطوعة عن منهج الله فيها . ذلك المنهج الذي يجعلها مزرعة الآخرة ؛ ويجعل إحسان الخلافة فيها هو الذي يستحق وراثة الدار الباقية . وهذا هو الذي تشير إليه الفقرة التالية في الآية : ( وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ) . . فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعبا ولهوا ؛ ويطبعها بطابع الجد ، ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني ، إلى مستوى الخلافة الراشدة ، المتصلة بالملأ الأعلى . ويومئذ لن يكون ما يبذله المؤمن المتقي من عرض هذه الحياة الدنيا ضائعا ولا مقطوعا ؛ فعنه ينشأ الأجر الأوفى ، في الدار الأبقى . . ومع هذا فإن الله لا يسأل الناس أن يبذلوا أموالهم كلها ، ولا يشق عليهم في فرائضه وتكاليفه ، لعلمه سبحانه بشح نفوسهم فطرة وخلقة . وهو لا يكلف نفسا إلى وسعها وهو أرحم بهم من أن يكلفهم بذلها كلها ، فتضيق صدورهم وتظهر أضغانهم :
36- { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم } .
إنما الحياة الدنيا قصيرة الأجل ، مثل اللعب واللهو ، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ، وفي الأثر : ( الدنيا كسوق قام ثم انفض ، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر ) .
{ وإن تؤمنوا . . . } بالله وتراقبوه حق المراقبة ، وتتقوه بأن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، يعطكم الله ثواب أعمالكم ، ولا يطلب منكم إنفاق جميع أموالكم ، فلم يفرض عليكم سوى واجب الزكاة ، وهو نسبة بسيطة تدور في الأغلب على ربع العشر ، وهو ما يوازي %2 ، 5 في زكاة المال وزكاة التجارة ، ونصف العشر 5% في زكاة الزراعة ، وأحيانا تكون الزكاة العشر إذا كانت الأرض تسقى سَيْحا بدون تعب ولا مشقة ، وأحيانا تكون الزكاة الخمس بنسبة 20% ، وهي زكاة الركاز والبترول والمعادن ، وما يستخرج من باطن الأرض .
قال الإمام ابن القيم : نلاحظ أن نسبة الزكاة تتراوح بين 1% في زكاة الماشية مثل زكاة الغنم ، نجد أن زكاة الغنم السائمة : في أربعمائة شاة أربع شياه ، وفي خمسمائة شاة خمس شياه ، وفي ستمائة شاه 6 شياه ، وهكذا في كل مائة شاة شاة ، أي النسبة 1% .
وزكاة المال والتجارة 2 ، 5% ، وزكاة الزراعة تمتد من5% إلى10% ، وزكاة الركاز والمعادن والكنوز المستخرجة من باطن الأرض 20% .
أي أنه كلما كانت نعم الله تعالى على العبد أظهر كانت نسبة الزكاة أكثر ، كزكاة الكنوز والركاز ، وكلما كان عمل العبد أظهر كانت نسبة الزكاة أقل ، مثل زكاة التجارة ؛ لأن العبد يتعرض للمخاطرة والأسفار ، وارتفاع الأسعار وانخفاضها .
فكلما كان عمل القدرة الإلهية أظهر كانت نسبة الزكاة أكثر ، وكلما كان عمل العبد أظهر كانت نسبة الزكاة أقل .
{ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } : أي الاشتغال بالدنيا التفرغ لها ما هو إلا لهو ولعب لعدم الفائدة منه .
{ ولا يسألكم أموالكم } : أي ولا يكلفكم بإِنفاق أموالكم كلها بل بالزكاة فقط .
وقوله { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } هذه حقيقة وهي أن الحياة الدنيا إن أقبل عليها العبد ناسيا الدار الآخرة مقبلا على الدنيا لن تكون في حقه إلا لهواً ولعبا باعتبار أنه لم يظفر منها على طائل ولم تعد عليه بعائد خير وإسعاد كاللاعب اللاهي بشيء يلعب ويلهو فترة ثم لا يعود عليه ذلك اللعب بشيء كلعب الصبيان ولهوهم فإِنهم يلهون ويلعبون بجد ثم يعودون إلى والديهم يطلبون الطعام والشراب . وقوله وإن تؤمنوا أي الإِيمان الصحيح وتتقوا ما يغضب ربكم ويسخطه عليكم من الشرك والمعاصي يؤتكم أجوركم المترتبة على الإِيمان والتقوى .
{ 36-38 } { إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }
هذا تزهيد منه لعباده في الحياة الدنيا بإخبارهم عن حقيقة أمرها ، بأنها لعب ولهو ، لعب في الأبدان ولهو في القلوب ، فلا يزال العبد لاهيا في ماله ، وأولاده ، وزينته ، ولذاته من النساء ، والمآكل والمشارب ، والمساكن والمجالس ، والمناظر والرياسات ، لاعبا في كل عمل لا فائدة فيه ، بل هو دائر بين البطالة والغفلة والمعاصي ، حتى تستكمل دنياه ، ويحضره أجله ، فإذا هذه الأمور قد ولت وفارقت ، ولم يحصل العبد منها على طائل ، بل قد تبين له خسرانه وحرمانه ، وحضر عذابه ، فهذا موجب للعاقل الزهد فيها ، وعدم الرغبة فيها ، والاهتمام بشأنها ، وإنما الذي ينبغي أن يهتم به ما ذكره بقوله : { وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا } بأن تؤمنوا بالله ، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتقوموا بتقواه التي هي من لوازم الإيمان ومقتضياته ، وهي العمل بمرضاته على الدوام ، مع ترك معاصيه ، فهذا الذي ينفع العبد ، وهو الذي ينبغي أن يتنافس فيه ، وتبذل الهمم والأعمال في طلبه ، وهو مقصود الله من عباده رحمة بهم ولطفا ، ليثيبهم الثواب الجزيل ، ولهذا قال : { وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } أي : لا يريد تعالى أن يكلفكم ما يشق عليكم ، ويعنتكم من أخذ أموالكم ، وبقائكم بلا مال ، أو ينقصكم نقصا يضركم ، ولهذا قال :
ولما أتم العلة الأولى أقبل على الثانية الصادة{[59935]} عن الطاعة القائدة إلى المعصية الملائمة للشهوة المبطلة للأعمال الموجبة للتهاون المؤدي إلى عدم المغفرة ، فقال مرغباً في طاعته الموجبة للفوز الدائم ببيان قصر أيام المحنة وتجرع مرارات المشقة : { إنما الحياة } {[59936]}وأشار إلى دناءتها تنفيراً عنها بقوله : { الدنيا } ولما كان مطلق العلو موجباً لأعظم اللذاذة فكيف إذا كان موجبه الدين الضامن لدوام اللذة موصولاً{[59937]} دنيويها بأخرويها ، وكان اللعب ما ينشأ من زيادة البسط وينقضي بسرعة مع دلالته على الخفة{[59938]} كالرقص ، قدمه إشارة إلى أن العاقل من يسعى في زيادة بسط{[59939]} يحمل على الرزانة{[59940]} ويدوم ، وأتبعه{[59941]} اللهو {[59942]}لأنه ما{[59943]} يستجلب به السرور كالغنا إشارة إلى أنه إن كان المراد بالدنيا زيادة بسطها فهو ينقضي بسرعة ، مع ما فيه من الرعونة ، وإن كان المراد أصل البسط والسرور فعندكم منه بالعلو الحاصل لكم بالجهاد ما هو في غاية العظمة والجد والثبات فلا سفه أعظم من العدول عنه إلى ما إن سر حمل-{[59944]} على الطيش{[59945]} وانقضى بسرعة ، فقال : { لعب } أي أعمال-{[59946]} ضائعة سافلة تزيد في السرور و{[59947]}يسرع اضمحلاله ، فيبطل من غير ثمرة { ولهو } أي مشغلة يطلب بها إثارة اللذة كالغنا وحيرة{[59948]} وغفلة ، فإن تتبعوها تكفروا وتبطروا وتجترئوا{[59949]} على الله ، وإن تكفروا به وتجترئوا عليه-{[59950]} تبطل أجوركم فلا يكون لكم أجر-{[59951]} ولا مال لأنه يبطل أعمالكم وأموالكم بكونها تصير صوراً لا معاني لها .
ولما صور سبحانه الدنيا بألذ صورها عند الجاهل وأمضها عند العاقل ، وحاصله{[59952]} أنها زيادة سرور لمن كان مسروراً ، واستجلاب له{[59953]} لمن كان مضروراً ، لكنه سريع الانصرام بخلاف ثمرة{[59954]} الاجتماع على الدين من سرور العلو بالإسلام ، فإنه باق على الدوام ، علم أن التقدير بناء على ما تبع وصف الدنيا ، {[59955]}والآخرة{[59956]} جد وعمل وحضور فإن تقبلوا عليها تؤمنوا وتتقوا فلا تخدعنكم الدنيا على دناءتها{[59957]} عن نيل الآخرة بالجهاد الأكبر والأصغر{[59958]} على شرفها{[59959]} وشرفه ، قال بانياً على ما أرشد السياق إلى تقديره-{[59960]} : { وإن تؤمنوا وتتقوا } أي تخافوا فتجعلوا بينكم وبين غضبه سبحانه وقاية من جهاد أعدائه ومقاساة لفح إيقاد الحروب وحر الأمر بالمعروف وإنفاق الأموال في ذلك ، فتكونوا جادين فتتركوا اللهو واللعب القائدين إلى الكفر { يؤتكم } أي الله الذي فعلتم ذلك من أجله في الدار الآخرة { أجوركم } أي ثواب كل أعمالكم لبنائها على الأساس ولأنه غني لا ينقصه إلا عطاء ، والآية من الاحتباك : ذكر الحياة الدنيا واللهو واللعب أولاً دال{[59961]} على ذكر الآخرة والجد ثانياً ، وذكر الإيمان والتقوى ثانياً دال{[59962]} على حذف ضدهما الكفران والجرأة أولاً ، وسره أن تصوير الشيء بحال الصبي والسفيه أشد في الزجر عنه عند ذوي الهمم العالية ، وذكر الأجر المرتب على الخوف الذي هو فعل الحزمة{[59963]} أعون على تركه .
ولما كان الملعوب به الملهو{[59964]} منه يسأل اللاعب{[59965]} اللاهي من ماله ، ولا يقنع عند سؤاله ، فيكون سبباً لضياع أعماله وأمواله ، بين أن-{[59966]} المعبود بخلاف ذلك في الأمرين ، وأنه يعطي ولا يأخذ لنفسه شيئاً وإنما أخذه أمره{[59967]} بمواصلة بعضكم لبعض فقال تعالى : { ولا يسئلكم } أي الله-{[59968]} في الدنيا { أموالكم * } أي لنفسه ولا كلها ، وهذا مفهم لأنهم إن لم يتقوا بما ذكر سلط عليهم من يأخذ أموالهم بما يخرج أضغانهم ، قال ابن برجان : ومتى سئلوا أموالهم بخلوا ، فإن أكرهوا على ذلك أشحنوا ضغائن وحقائد ، ولم يكن من الإمام لهم نصيحة ولا منهم للإمام ولا لبعضهم لبعض ، وكان الخلاف ، و-{[59969]}في ذلك الحالقة ، وهو إنذار منه سبحانه بما يكون بعد ، وما أنذر شيئاً إلا كان منه ما شاء الله .